أحياناً نخرب حياتنا وحياة مَن حولنا فقط لِنأخذ موقفاً معينّاً خوفاً على كرامتنا، في حين كان بإمكاننا الترويّ والتصرّف بِنضوج. كنتُ سعيداً مع عروستي مُنى وبالكاد صدّقتُ أنّنا أصبحنا نعيش تحت سقف واحد بعدما قضينا خمسة سنوات مخطوبَين.
وكانت مُنى الفتاة المثاليّة ولكنّ أمر واحداً كان يزعجني بها وهو أنّها لم تكن تضع حدّاً لِمعجبيها أو للعرسان الذين تقدّموا لها لأنّها وبِحسب قولها لم تكن تنزعج مِن مكالماتهم ولم تكن تريد إزعال مَن فتحَ لها قلبه وأدخلها إليه. حاولتُ إفهامها أنّ الأمر يضايقني لأنّني كنتُ أغار عليها حتى مِن نسمة الهواء ولكنّها أتهمَتني بأنّني إنسان متخلّف وامتلاكيّ وأنّ عليّ الوثوق بها حتى لو كانت محاطة بِمئة رجل.
وسكتُّ لأنّني كنتُ أعلم أنّني بالفعل امتلاكيّ وأنّ ذلك قد يبعدها عنّي ولأنّني اعتقدتُ أنّ بعد زواجنا ستطرد هؤلاء الناس مِن حياتها بِصورة نهائيّة. ولكنّ مُنى بقيَت على اتصال مع ذلك أو ذاك فقرّرتُ أن أريها كيف ستشعر لو كانت مكاني. لِذا فتّشتُ في مفكرّتي عن رقم فتيات كنتُ أعرفهنّ واتصلتُ بهنّ. ولكنّ معظمها كنَّ قد ارتبطنَ إلاّ واحدة: نَيلا. وأتذكّر تماماً كيف كنّا جدّاً متحابّان ولكنّ أهلها لم يتقبّلوا أن تعاشر شاباً لا يزال في الجامعة وليس لدَيه لا حسب ولا نسب.
وبالرغم مِن أنّ سنين كانت قد مرَّت فَرِحَت نيلا جداً لِسماع صوتي وانهالَت عليّ بالأسئلة حول الأيّام التي فصَلَت بيننا. وكانت خيبَتها واضحة عندما أخبَرتُها بأنّني تزوّجتُ للتوّ ومِن بعدها سألتَني:
ـ ولماذا تذكّرتَني الآن؟
ـ كنتُ أرتِّب أوراقي ووقعتُ على مفكّرتي القديمة... هل أزعجكِ اتصالي؟
ـ أبداً.
ـ ماذا لو بقينا على تواصل؟
ـ هل سترضى بذلك زوجتكَ؟ ألن تغار؟
ـ لا... ولِما تفعل؟ فنحن لا نقترف أي ذنب.
وحين وصَلتني أوّل رسالة مِن نيلا على هاتفي سألَتني مُنى عن هويّة المرسل فأجبتُها:
ـ إنّها صديقة قديمة... لا شيء يقلق.
ولم تعلّق زوجتي على الموضوع ولم أستطع تفسير سكوتها. هل كان ذلك مِن قلّة غيرتها عليّ أم لأنّها هي الأخرى تتلقىّ رسائل ولا تريد فتح جدلاً يرغمها على التخلّي عن معجبيها؟ على كل الأحول كنتُ مقتنع بالذي أفعله لأنّه لم يكن لدَيّ أيّة نيّة سيّئة بل كان حبّي لِزوجتي أقوى مِن كل شيء.
ولكنّ صديقتي نيلا كانت لا تزال معجبة بي واعتقَدَت أنّني أقاسمها هذا الإعجاب ربمّا لأنّها لم تصدّق أنّني لا أريد شيئاً منها. فمعظم الرجال حين يتصلون بامرأة يكون لدَيهم نوايا معيّنة خاصة إن كانوا متزوّجين. لِذا أصبحَت رسائلها أكثر خصوصيّة وبدأَت تبعث لي صورها وجمل تقول: "اشتقتُ إليكَ اليوم" أو " أنت بِفكري طوال الوقت." ولم أصدّها لأنّني كنتُ أريدها أن تواصل صداقتها معي لكي ترى مُنى كم أنّ الأمر مزعجاً.
وصمتي هذا شجعّ نيلا على المتابعة بالرغم أنّني لم أجب على هذه الرسائل إلاّ بكلمات عاديّة كَ"صباح الخير" أو " أتمنَى لكِ نهاراً سعيداً."
وفي هذه الأثناء كانت زوجتي قد اغتاظَت مِن الذي يحصل خاصة عندما بدأَت صديقتي بِبعث رسائلها ليلاً وأحياناً في الصباح الباكر حين أكون مع مُنى نائمَين في الفراش. عندها طلبَت زوجتي منّي أن أحدّ مِن إزعاج نيلا:
ـ الوضع لم يعد يطاق! هذه المرأة توقظنا مِن النوم كل يوم! افعل شيئاً! ولا تقل لي أنّ لدَيّ أيضاً أصدقاء فهم يحترمون حياتي الزوجيّة ولا يتصلون بي بهكذا أوقات.
وكانت مُنى على حق لِذا طلبتُ مِن نيلا أن تبقي رسائلها خلال النهار فقط. ولكنّها قالت: "سأفعل إن دعَوتني إلى فنجان قهوة." وقبلتُ أن أراها كي أشرح لها أنّني لا أريد هدم زواجي. ووافَيتُها إلى ذلك المقهى وبعدما قبّلَتني بقوّة على خدَيَّ جلسنا نتكلّم عن الأيّام التي مرَّت. ثم أخَذَت يدي وقالت:
ـ ما زالَت يدَيكَ ناعمَتين... أتذكر أوّل قبلة تبادلناها... كانت ولا تزال أجمل قبلة.
ـ الحقيقة أنّني لا أتمتعّ بذاكرة قويّة... أنا آسف.
ـ ماذا؟ نسيتَ يومَ ذهبنا إلى الجبل وأوقفتَ مركبتكَ وقبّلتَني بِشغف؟
بالطبع لم أنسَ تلك الحادثة ولكنّني لم أكن أريد أن تعتقد أنّني لا أزال أفكّر بها. على كل حال تابعَت:
ـ كم فرحتُ عندما اتصلتَ بي... لم أتزوّج لأنّني لم أجد أحداً يجعل قلبي يخفق مثلكَ... وأعلم أنّكَ في قرارة نفسكَ لا تزال تحبّني.
ـ لا! أعني... لقد مرّ وقت طويل على مغامرتنا... والناس تتغيّر... ولقد تغيّرتُ وتزوّجتُ.
وسكَتَت نيلا ومِن ثم طلبَت منّي أن أوصلها إلى منزلها لأنّها جاءَت لِتقابلني على الأقدام. وحين وصلنا أمام المبنى طلبَت منّي أن أرافقها حتى بابها قائلة: "لا تخف! أهلي في البيت." ولم أستطع الرفض لأنّ طلبها كان عاديّاً ولكن عندما وقفنا أمام بابها أخرجَت مفاتيحها وأقنعَتني على الدخول: "تعال سأقول لأمّي أن تحضّر لنا أطيَب فنجان شاي... كما في السابق... أتذكر؟" ودخلنا وأقفلَت نيلا الباب وراءنا ولكن سرعان ما لاحظتُ أنّ ما مِن أحد في البيت. عندها قلتُ لها غاضباً: "ما هذه اللعّبة التي تلعبينها؟ قلتِ أنّ أهلكِ موجودون هنا وأرى أنّ ذلك ليس صحيحاً.
ضَحِكَت نيلا وقالَت:
ـ ما بكَ ترتجف هكذا؟
ـ أنا رجل متزوّج ولا يجدر بي أن أكون هنا... سأنسحب... لا أحب الألاعيب.
ـ ولا أنا... ولكن ماذا عن ألعوبتكَ أنتَ؟ تتصل بي بعد سنين غياب وتتبادل معي الرسائل ومِن ثم تقابلني في المقهى وترافقني وتصعد معي إلى هنا ومِن ثم تدّعي البراءة... لستُ غبيّة... أعرف عندما يريدني رجل.
ـ مِن الواضح أنّ هناك سوء تفاهم بيننا... أنا آسف جدّاً أنّني أوحَيتُ لكِ بأشياء غير موجودة... مِن الأفضل أن نكفّ عن الاتصال ببعضنا.
ـ كما تشاء.
وأسرعتُ بالخروج مِن منزل نيلا والعودة إلى مسكني حيث جلستُ لأفكّر بالذي فعلتُه فقط لألّقّن زوجتي درساً. وبالطبع لم أكتب لِنيلا بعد ذلك ولم أعد أسمع منها أي خبر. ولكي أتأكّد مِن أنّها لن تغيّر رأيها عملتُ لها حظراً على الواتساب. وظنّنتُ أنّ المسألة انتهَت وعدتُ إلى حياتي اليوميّة. والشيء الغريب كان أنّني لم أعد أكترث لأصدقاء زوجتي لأنّني أدركتُ أنّ بإمكانها وضع حدّ لهم كما فعلتُ أنا مع صديقتي.
ولكنّ الأمر لم يكن منتهيّاً مع نيلا التي لم تتغلّب على ما فعلتُه بها. ففي أحد الأيّام وخلال تواجدي في العمل حوّلَت لي السكرتيرة اتصالاً وتفاجأتُ كثيراً عندما سمعتُ صوت نيلا تقول:
ـ ألم يكفيكَ أنّكَ أوهَمتَني بأنّكَ تريدني وأيقظتَ فيّ مشاعر قديمة عُدتَ وعملتَ حظراً على رسائلي؟ ألم يخطر على بالكَ أنّني لو قصدتُ ذلك أستطيع الوصول إليكَ بِطرق أخرى؟
ـ أسمعي...
ـ لا! اسمع أنتَ! أعلم أين تقيم وأعرف أسم زوجتكَ... مُنى، أليس كذلك؟
ـ ماذا تريدين؟
ـ أريد أن تتألّم... أليس لديكَ أي أحساس؟ ستفكّ الحظر الذي وضعتَه على رسائلي وسأكلّمكَ حين أشاء أي في الوقت الذي أريده.
ـ ستتسبّبين لي بِمشاكل مع زوجتي.
ـ صدّقني سيكون ذلك أفضل بِكثير مِن الذي يمكنني قوله لها... أي أنّنا أقمنا علاقة جنسيّة سويّاً عندما جئتَ إلى داري.
ـ لن تصدّقكِ ذلك مُنى!
ـ بلى أن شهدَ على مجيئكَ الناطور والجارة التي تبقى واقفة وراء نافذتها لِمراقبة الناس...
ـ نيلا... ليس ذنبي إن كنتُ لا أحبّكِ... قلبي ملك زوجتي... يا ليتَني لم أفتح تلك المفكرّة!
ـ أرَدتَ أن تلقّن زوجتكَ درساً وكان الدرس لكَ... أنا متأكّدة أنّ زوجتكَ قد أفهمَت أصدقاؤها بأنّها لا تريد سوى صداقتهم وبأنّها تحبّ زوجها.
ـ صحيح ذلك... الآن أدركتُ ذلك... ولم يعد يضايقني الأمر.
ـ على كل حال سأتصل بكَ قريباً.
وأقفلَت الخط. وبعد ذلك أصبح قلبي يدق بِقوّة كلّما سمعتُ رنّة الهاتف وانذار الرسائل. ولكن ما مِن مرّة حاولَت نيلا الاتصال بي مجدّداً ولم أعرف لماذا. وبالرغم مِن ارتياحي للأمر بقيتُ أسأل نفسي عن سبب سكوت نيلا حتى أن سمعتُ بالصدفة زوجتي تكلّم همساً أحداً على الهاتف وتقول:
ـ أبقِ غائبة عن السمع حتى أقول لكِ أن تظهري مجدّداً... سأكلّمكِ أنا... إلى اللقاء نيلا.
وكانت الصدمة هائلة. كانت زوجتي تعرف نيلا وكان الأمر بِرمّته خطّة أعدّتها زوجتي. وبالطبع أردتُ معرفة دوافعها وكيفيّة وصولها إلى صديقتي القديمة ولكنّني اخترتُ السكوت والإيقاع بالتي ظنّت نفسها أذكى منّي. ففي ذات مساء قلتُ لِزوجتي:
- حبيبتي... لا انوي الشجار معكِ ولكنّني قرّرتُ أنّني لن اسمح لكِ بأن تتواصلي مع أصدقائكِ الرجال.
- ولكن...
- دعيني أكمل... وبالمقابل أنا أيضاً سأقطع كل صلة مع صديقتي.
- ولكن...
- كانت محاولة منّي لأريكِ كم الأمر مزعج وأظنّ أنّكِ استمتعتِ كفاية بِلعبتكِ.
- أي لعبة تتكلّم عنها؟ لم أفهم قصدكَ.
- بلى... اسمعي... سعادتنا سويّاً أهم مِن أي شيء أو شخص آخر... سنمضي سنين طويلة مع بعضنا فعلينا التفاهم على كل الأمور التي تزعجنا... لذا أطلب منكِ بِكل محبّة أن تجنّبيني الألم الذي أشعر به عندما تتكلّمين مع غيري.
- يا حبيبي... لم أدرك الى أي مدى يزعجكَ الأمر... لو شرحتَ لي الموضوع بهذه الرويّة لَما...
- دعينا مِن ذلك الموضوع... لقد أصبح وراءنا... أريد شيئاً واحداً وهو أن أحبّكِ بِكل جوارحي وأن أسعدكِ.
حاورته بولا جهشان