كل النساء ملكات

رحلَت منال مِن دون أيّ إنذار، فذات مساء حين عدتُ إلى البيت لَم أجِدها أو أمتعتها. كان الأمر وكأنّها لَم تسكُن أبدًا معنا، وكأنّها حُلم انتهى فجأة. سألتُ أولادي عن مكان أمّهم، فتلبّكوا وتَمتَموا وراحوا إلى غرَفهم بسرعة، بعد أن أعطوني ظرفًا يحتوي على التفسيرات التي كنتُ أنتظرُها. جلَستُ وقرأتُ الرسالة ويدايَ ترتجفان، وما عرفتُه كان أليمًا جدًّا. فمنال كانت على ما يبدو غير سعيدة معي، وتعرّفَت على رجُل آخَر أعطاها ما كان ينقصُها. إعتذرَت منّي بحرارة في رسالتها، ووعدَتني بأنّها ستهتمّ بالتناوب معي بالأولاد، لكنّها بحاجة إلى بعض الوقت قَبل ان تعاوِد الاتّصال بي مُباشرة. طلبَت أيضًا منّي أن أُطلِّقها بسرعة، كي تستطيع إعادة بناء حياتها مع ذلك الرجُل.

بكيتُ كثيرًا لأنّ حياتي كما عرفتُها وأعدَدتُها إنهارَت فجأة، وصرتُ أسألُ نفسي ألف سؤال: ما الذي لَم أفعلَه مِن أجل منال لتذهب مع آخَر؟ منذ متى هي كانت على علاقة به وكيف لي ألّا أشكّ بشيء؟ ماذا سأفعَل مِن دونها وكيف أديرُ المنزل والأولاد... وماذا أقولُ للناس، وما هو أهمّ ماذا سيقولون عنّي؟!؟ ففي بُلداننا الشرقيّة، حين تترك الزوجة زوجها، تبدأ الأقاويل عن رجوليّته، ولَم أكن أشكو مِن شيء مِن هذه الناحية!

إستنتَجتُ مِن ردّة فِعل الأولاد أنّهم كانوا على عِلم برحيل أمّهم، فلَم يبدوا مُتفاجئين أو مصدومين، بل فقط حزينين. لِذا طلبتُ منهم في اليوم التالي أن يجتمعوا معي في الصالون لنتكلّم عن أمور جدّيّة، وهم فهِموا ماذا أقصد، لِذا جاؤوا إليّ وبالكاد كانوا ينظرون في عَينَيّ. سألتُهم منذ متى هم على عِلم، فأجابَ إبني البِكر:

ـ منذ فترة.

 

ـ حسنًا... ولماذا أبقَيتم الأمر سرًّا عليّ؟ هل بدَرَ منّي ولو مرّة أيّ تصرّف سيّئ أو عدائيّ أو عنيف تجاهكم أو تجاه أمّكم؟

 

ـ لا يا بابا... على الاطلاق. لكنّ الماما طلبَت منّا ألّا نُطلِعكَ على ما تنوي فعله.

 

ـ حسنًا... هل تستطيع إخباري الآن ما تعرفونَه؟ فهذا مِن حقّي.

 

ـ الماما وجدَت رجُلًا أحبَّها كثيرًا، وهي أحبَّته أيضًا فقرّرا أن يتزوّجا.

 

ـ هكذا؟ بكلّ بساطة؟ هل قالَت شيئًا عنّي، أقصد شيئًا ليس جيّدًا؟

 

ـ لا، أبدًا، بل طلبَت منّا أن نهتمّ بكَ جيّدًا، وأن نُخفِّف عنكَ حزنكَ أو امتعاضكَ.

 

ـ حسنًا... سؤال أخير... مَن هو ذلك الرجُل؟

 

ـ إسمه عدنان وهو مُدير في شركة لا أعرفُ اسمها... هذا كلّ ما لدَيّ."

 

لكنّ أخاه الصغير تابَعَ:

ـ أنا أعِرف! هو يسكنُ في آخِر الحَيّ! أنسيتُم يوم أخذَتنا الماما لِنزورَه؟".

 

يا إلهي... عرّفَت منال أولادنا على عشيقها؟!؟ في أيّ عالَم نعيش؟!؟ حاولتُ أن أتماسَك كَي لا أُخيفَ صغاري، فأكملتُ:

ـ حسنًا... لنعِدّ العشاء سويًّا، ما رأيكم؟".

 

لَم أنَم في تلك الليلة بعد أن شعرتُ أنّني بالفعل آخَر مَن علِمَ بالأمر، وأنّني ضحيّة مؤامرة اشترَكَ فيها الجميع. وأوّل شيء فعلتُه في الصباح كان أن قصدتُ مُحاميًا لأُباشِر بطلاق زوجتي الخائنة. ولأنتقِمَ منها على ما فعلَته بي، أوكلتُ أيضًا المُحامي بطلَب الحضانة الحصريّة لي، فأيّ أمّ جديرة بهذا اللقَب تُشرِكُ أولادها في خيانتها لأبيهم ثمّ تترُكهم وترحَل؟ وعدَني الأستاذ أنّ القضيّة لن تكون صعبة بل العكس، فأكملتُ نهاري براحة تامة، ألَم أكن على وشك الانتقام مِن التي أهانَت رجوليّتي بهذا الشكل؟

وفور عودتي إلى البيت واستلام النوبة مِن أمّي، التي صارَت تأتي يوميًّا لتُساعدني بالأولاد لأنّ أختي مشغولة بعائلتها، زفَّيتُ لهم خبَر بدء مُعاملة الطلاق قائلًا لهم: "أخبِروها أنّها ستتمكّن مِن الزواج مِن حبيبها، طمِّنوها!". لَم أفصِح لهم عن نيّتي بالاحتفاظ بهم حصريًّا، فأردتُها مُفاجأة لمنال!

تمّ الطلاق وطلَبَ المحامي الحضانة الحصريّة لي، لكنّني تفاجأتُ بأولادي يرفضون العَيش معي وبصورة قطعيّة! لَم أفهَم هذا الرفض واستأتُ كثيرًا، وفهِمتُ أنّ أمّهم قلَبَتهم حتمًا ضدّي. ولماذا تُريدُهم، أليست مشغولة بحبيبها وتُخطِّط معه للزواج؟ وهو، كيف يقبَل بأولاد رجُل غيره؟ أمرٌ عجيب بالفعل! ما هذه المكيدة التي تُحاك ضدّي، ولأيّ سبب؟

جمعتُ أولادي لأستفهِم منهم عن سبب موقفهم المُحيِّر، فأجابَني أحَدهم:

ـ لا نُريدُ العَيش معكَ وحسب... هذا رأينا جميعًا... نُريدُ الذهاب مع أمّنا.

 

ـ أمّكم التي تركَتكم ورحلَت مع عشيقها؟ هل نتكلّم عن المرأة نفسها؟

 

ـ أجل، بابا، نفسها.

 

ـ قويّة للغاية، هي أمّكم! فلقد استطاعَت أن تُقنِعكم بأنّها ضحيّة بينما هي زوجة خائنة وأمّ فاشِلة.

 

ـ لا تتكلّم هكذا عن أمّنا! أنتَ لستَ أفضل على الاطلاقّ!

 

ـ ماذا؟ عمّا تتكلّمون؟ ما الذي فعلتُه لكم أو لها؟ تكلّموا!!!

 

لكنّ أولادي بقوا صامتين، ورأيتُ في عيونهم نظرة عِتاب عميق، وأسِفتُ إلى ما آلَت إليه عائلتنا التي كانت، على الأقل ظاهريًّا، سعيدة.

شعرتُ أنّني على وشك خسارة أولادي كما خسِرتُ زوجتي، فقصدتُ بسرعة والدتي التي كنتُ دائمًا أثِق برأيها وحكمتها. فهي لطالما كانت امرأة عاقِلة تتّسِم بالحكمة والتفهّم. وعندما عرضتُ عليها الوضع، هزَّت برأسها ونظَرت إليّ بشيء مِن الحزن ثمّ قالَت بهدوء:

ـ كَم أنّكَ تُشبِه أباكَ، رحِمَه الله.

 

ـ أجل، الكلّ يقولُ لي ذلك، ولكن...

 

ـ أعني في طباعكَ وليس فقط في الشكل.

 

ـ ماذا تعنين بذلك؟

 

ـ أنا أيضًا فكّرتُ بِتَركه.

 

ـ ماذا؟!؟ هل فهمتُ جيّدًا؟ أرَدتِ تَرك أبي؟!؟

 

ـ لكنّني لَم أكن شجاعة كفاية... لم أكن بشجاعة منال.

 

ـ هل تَعين ما تقولين؟ أنتِ تُعطين الحقّ لزوجتي بتَركي؟ ماذا فعلتُ لها؟!؟

 

ـ أنا بقيتُ مِن أجلكَ وأختكَ، كنتما لا تزالان صغيرَين ولَم أكن أعمَل، فلا مدخول لي لأعيشَ مِن دون مُعيل. أمّا بالنسبة لأهلي، فلقد رفضوا أن أعودَ إليهم وأقنعوني بالبقاء مِن أجل "سُمعة العائلة".

 

ـ كنتِ تعيشين كالملِكة مع أبي! هل فقدتِ عقلكِ؟!؟

 

ـ بل كالخادِمة يا بُنَي، كالخادِمة. عن أيّ عَرش تتكلّم؟ عَرش المطبخ والحمّام والتدريس و...

 

ـ كلّ ربّات المنزل تفعلنَ ذلك مِن أجل زوجهنّ وأولادهنّ!

 

ـ فقط؟ والباقي؟

 

ـ أيّ باقي؟

 

ـ أترى؟ هذه مُشكلتكَ. هل تتذكّر أباكَ وهو يغمرُني يومًا أو يقولُ لي كلمات لطيفة؟ هل رأيتُه يأتي لي بهديّة خارج مواعيد الأعياد أو يأخذني معه إلى سهرة أو في نزهة؟

 

ـ لستُ أدري للحقيقة. لا بّد أنّكِ كنتِ مشغولة بنا ولا يسعُكِ تَركنا.

 

ـ لَم يُطلَب رأيي بهذا الخصوص، بل قرَّرَ أبوكَ أنّني مشغولة على الدوام... مشغولة بالاهتمام بكم. وأنا؟ مَن اهتمَّ بي؟ أجِبني.

 

ـ لستُ أدري... وهل على أحَد أن يهتمّ بكِ؟

 

ـ هاهاها... كلامكَ سخيف يا بنَيّ... يعني أنّ لا حقّ لي بالاهتمام والدّلَع؟ لاحقّ لي بأن أفرَح وأرتاح؟

 

ـ لَم أٌفكِّر بالأمر للحقيقة.

 

ـ سؤال آخَر... ماذا تتذكَّر عن تفاعلكَ مع أبيكَ... هل لدَيكَ ذكريات معه؟

 

ـ بالطبع! ما هذا السؤال البديهيّ... فأنا أتذكّر... أشياء كثيرة لا أستطيع حصرها.

 

ـ مثل ماذا؟ هل جاء إلى احتفال لكَ في مدرستكَ أو اجتماع مع المُدرّسات؟ هل رافقكَ في نزهة ما أو أخذَكَ معه إلى مكان ما؟ هل جلَسَ مرّة ليُدرِسكَ أو يسألكَ عن أحوالكَ؟ هل تشاركتُما نشاطًا، أيّ نشاط كان؟

 

ـ الرجُل كان يتعَب في عمَله طوال النهار!

 

ـ تجِدُ له الأعذار لتجِدَ لنفسكَ الأعذار. أبوكَ لَم يكن زوجًا أو أبًا، كان إنسانًا وجَدَ مَن يخدِمه ويُعطي لاسمه استمراريّة ولا أكثر. كان يعرفُ كيف يُرفِّه عن نفسه مع أناس خارج عائلته كأصدقائه أو زملائه، لكن ليس معنا. أتعلَم شيئًا؟ حين تزوّجتُه فقدتُ هويّتي ونفسي، ولَم أجِدهما إلى حين كبرتَ وأختكَ وهو ماتَ. لكنّ الأوان كان قد فاتَ لأُحقِّق ذاتي، أو أجِد الحنان والحبّ والاهتمام التي افتقدتُها لسنوات طويلة. منال امرأة شجاعة! وأولادكَ يرفضون ما قبِلتَه أنتَ، أيّ أن يربوا بين أمّ حزينة وأب حاضِر ـ غائب، وهذا يدلّ أنّ شخصيّتهم قويّة.

 

ـ أنا لستُ كأبي!!!

 

ـ راجِع نفسكَ يا بنَي، راجِع نفسكَ... وقد تستطيع استرجاع ثقة أولادكَ بكَ وحبّهم. أما بالنسبة لمنال، إن هي وجدَت الحبّ مع رجُل آخَر، فأشكّ بأنّها ستعود إليكَ، فإلى ماذا تعود؟

 

خرجتُ غاضبًا لأقصى درجة مِن منزل أمّي، ولعَنتُ الساعة التي قصدتُها فيها فقد حسبتُ أنّها ستكون في صفّي وإذ بها تتّهمُني بأنّني زوج وأب فاشِل. لكن في قرارة نفسي، علِمتُ أنّها أصابَت وتَرًا حسّاسًا وكان كلامها صحيحًا. لكنّني لَم أكن أعلَم إلى أيّ مدى. لِذا رحتُ إلى مُنتزّه قرب منزل أهلي كنتُ أحبّ الجلوس فيه حين كنتُ صغيرًا ولاحقًا مُراهقًا، وصُعِقتُ بحقيقة كنتُ قد نسيتُها: كنتُ أذهب إلى هناك لأنّني شعرتُ بالوحدة، أجل وحدة لازمَتني... مِن جانب أبي الذي كان يعودُ مِن عمَله، ليأكل بصمت ويُشاهد التلفاز ثمّ ينام. هو لَم يكن يوجّه الكلام لنا، بل إن حكى، كان يحكي عن نفسه. وأنا أيضًا كنتُ مشغولًا بعمَلي وتركتُ الأولاد على منال. وكانت حجّتي أنّني كنتُ مسؤولًا فقط عن جَلب المال لهم، والباقي لَم أتعرّف عليه ولَم أشأ التعاطي به كوني "مشغولًا". أنا أيضًا لَم أُشارِك في حياة أولادي سوى في الأعياد، أنا أيضًا لَم أُعطِ زوجتي ما تطلبه مِن اهتمام، ظانًّا أنّها سعيدة بأولادها، وناسِيًا أنّها أوّلًا امرأة وانسانة قَبل أن تكون أمًّا. وفهمتُ لماذا هي رحلَت، ولماذا أولادي يخافون مِن البقاء معي لوحدهم، فأيّة حياة سيحظون بها معي، خاصّة أنّني كنتُ أريدُ حرمانهم مِن مصدر الحنان الوحيد الذي يعرفونَه، وذلك فقط لأنتقِم مِن امرأة دفعتُها للارتماء في أحضان غيري لتشعُر بأنوثتها وبأنّها حيّة. كيف اعتبَرتُ ما أفعلُه شيئًا طبيعيًّا؟ أسئلة وأفكار عديدة تخبّطَت في رأسي لساعات، وعندما عدتُ إلى البيت كان قد هبَطَ الليل وصارَ أولادي في سريرهم.

في اليوم التالي، دارَ بيني وبينهم حديث طويل ومؤلِم، إستمَعتُ خلاله إلى عتابهم لتقصيري تجاههم وتجاه أمّهم، وكيف صاروا يتمنّون لو أنّ عشيق منال هو أباهم وليس أنا. بكيتُ أمامهم وطلبتُ منهم السماح لأنّني، ولو مِن غير قصد، دمَّرتُ عائلتي. وعدتُهم بأن أتغيّر، لكنّهم ظنّوا أنّها لُعبة لحرمان أمّهم منهم، فطلبتُ منهم اختباري لفترة قَبل أن يرحَلوا إلى منال بصورة دائمة. قبِلوا معي، لكنّهم شكّوا بنجاحي في الالتزام بوَعدي.

اليوم أتقاسَم حضانة الأولاد مع منال وزوجها، وهو بالفعل رجُل صالِح ومُحِبّ. تعلَّمتُ كيف أكون أبًا بكلّ ما للكلمة مِن معنى، وكان الدرس مُكلِفًا، لكنّني ربِحتُ أولادي. وإن شاء الله سأجِدَ زوجة، وأعرف كيف أصونها وأُسعِدها وأُعامِلها بالفعل كالملِكة... فكلّ النساء ملِكات.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button