أحببتُ ميساء وكأنّها أختي ومنذ ما كنّا صغار كانت رفيقتي الوحيدة. لم أفعل شيئاً من دونها وتقاسمتُ معها كل ما لديّ، لأنّ عائلتي كانت مرتاحة ماديّاً، أما هي فكانت بنت أناس يعيشون حياة متواضعة. وعندما كبرتُ أصبحتُ جميلة جداً، أتمتّع بقوام ممشوق، أمّا هي فكانت قصيرة وسمينة. ورغم هذا الفرق، لم أحاول يوماً أن أتباهى أمامها بجمالي، بل بالعكس عملتُ جهدي لأضعها تحت الأضواء وأتغنّى بمزاياها أمام الناس. وبالطبع كان الشبان يعجَبون فيّ أنا وحدي وكنتُ أشعر وكأنني مذنبة لأنني ولدتُ هكذا. أمّا ميساء فكانت تأخذ الأمور بطريقة فلسفيّة وتطمأنني بأنّها لا تبالي إن كنتُ أستقطب كل الإنتباه:
- أنا لا أمانع إن أحبّوكِ أكثر، فأنتِ أجمل منّي ولديكِ سيّارة جميلة وأهلكِ يعطونكِ مصروفكِ الذي يكفيكِ لشراء ملابس أنيقة. وأعرف أيضاً أنّكِ تأخذينني معكِ إلى تلك الأماكن الفخمة وتشترين لي الهدايا الجميلة. أعرف كل هذا وأعرف أنّكِ إنسانة محبّة وهذا هو ما يهمّني.
فإعتقدتُ أنّ كل شيء على ما يرام ولكنّني كنتُ ما زلتُ صغيرة لأعرف زوايا الطبيعة البشريّة. فالأنسان يولد وبنفسه غيرة وطمع تجاه أخيه. ومرّت الأيّام حتى تعرّفتُ إلى شاب وسيم وغنيّ ومثقّف إسمه عبد. كان يعيش في الولايات المتّحدة مع أهله وقرّروا العودة إلى البلد. والدته كانت إبنة عمّ إمّي وعندما ذهبنا لزيارتهم رأيته هناك وأعجبتُ به كثيراً.
جلسنا نتحدّث سويّاً وعند إنتهاء الزيارة عرفنا كلينا أننا وجدنا الشخص المناسب. سُرّ أهلنا برؤيتنا نضحك ونتكلّم سويّاً وتأمّلوا أن يتمّ النصيب بيننا. تبادلنا أرقام هواتفنا وإتّصل بي في اليوم التالي وأعطاني موعداً. وأخبرتُه عن ميساء وعن تعلقّي بها وحبّي لها وفي الموعد التالي إصطحبتها معي. فوجئ عبد بالفرق الذي كان بيننا أمّا هي فوجدته مناسباً لي:
- أنتِ محظوظة... لطالما حصلتِ على الأفضل... هنيئاً لكِ به...
فرِحتُ أنّ عبد نال موافقة صديقتي، فكان يهمّني أن يكون الجميع سعيداً لتكتمل حياتي. وحُدِّد موعد الخطوبة وأقمنا حفل للمناسبة وكنتُ متألّقة كالعادة. ولكن بعد أيّام قليلة شعرتُ أنّ خطيبي تغيّر معي وباتَ يتفاداني ويرجئ مواعيدنا وعندما كنتُ أراه، كان وكأنّه لا يريد سوى أن يرحل. لم أسأله عن السبب لأنّني ظننتُ أنّ فكرة الزواج كانت تخيفه، لأنّه كان معتاد على العيش بحريّة وأعطيتُه بعض الوقت ليتأقلم. ولكن الوضع طال، لا بل تدهّور. أخبرتُ ميساء بالأمر فأجابَتني أنّه ربّما لديه مشاكل عائليّة أو مهنيّة ومن الأفضل عدم الضغط عليه وتركه على سجيّته. ولكن إتّصل بي خطيبي في ذات يوم وطلبَ منّي موعداً عاجلاً. ركضتُ أوافيه بالمقهى الذي نذهب إليه عادة ووجدتُه بإنتظاري وعلى وجهه علامات الهمّ. وبعدما جلستُ أخذَ نفساً عميقاً ونظرَ بعينيّ وقال:
- لا أستطيع أن أتزوّجكِ... أنا آسف.
في البدء ضحكتُ لأنّني ظننتُ أنّه يمزح وقلتُ له أنّ المزح بهكذا موضوع ليس مستحبّاً ولكنّه أجابَ:
- أنا جديّ... صحيح أنني عشتُ في الولايات المتحدّة ولكنّني تربيتُ في عائلة شرقيّة وهناك أشياء لا أستطيع تقبّلها...
- عمّا تتكلّم؟
- عن طريقة عيشكِ...
- ما بها؟ ما الأمر؟ لا أفهم شيئاً!
- وصلَتني أخبار عن حياتكِ المليئة بال... بالمعجبين...
- أنا فتاة جميلة فمِن الطبيعي أن يكون لي معجبين!
- أجل ولكن ليس من الطبيعي أن تعاشريهم جميعاً!
- ماذا؟؟؟ أنتَ أوّل شاب أواعده في حياتي! هؤلاء المعجبين كانوا فقط يحومون حولي ولكنّني لم أقابل أيّ منهم.
- على كل حال كل ما أعرفه أنّ سمعتكِ سيّئة ولا أريد أن أنجب أولاداً من إمرأة يتكلّم الناس عنها بالسوء.
- أقسم لكَ...
- لا تحاولي... على كل حال هناك أشياء أخرى تمنعني من أن أتزوّجكِ.
وعدتُ إلى البيت وبكيتُ لأيّام طويلة. لم أخبر أحد بالأمر حتى ميساء، لأنّني كنتُ أتأمّل أن يرجع عبد إلى رشده وتصطلح الأمور بيننا. لم أفهم لماذا قال هذا عنّي ولم أجد سبباً سوى أنّه إختلق حجّة ليتراجع عن زواجه. وبعدما هدئتُ قليلاً ورأيتُ أنّه مصّر على موقفه، أخبرتُ أمّي بالذي حصل. كادت أن تجنّ وصرخَت صوتاً لمّ العائلة كلّها. عندها قرّر أخي أن يذهب إلى عبد ويلقّنه درساً لن ينساه ولكنّ أبي منعَه من ذلك. حاولوا جميعاً مواساتي وإقناعي بأنّني سأجد أفضل من ذلك الجبان. ثمّ إلتجأتُ إلى صديقة العمر التي أسرعَت بالقول:
- أنا لم أحبّه يوماً ولكنّني تحمّلته فقط من أجلكِ... لا تنسي أنّه عاش في الغربة ولا بدّ منه أن يكون غريب الأطوار... أنتِ فتاة جميلة وغنيّة ومثقّفة وستجدين بسرعة خطيباً آخراً. لا تأسفي عليه.
كانوا جميعاً على حق ولكنّني كنتُ قد أحببتُه كثيراً وكنتُ أنتظر اليوم الذي سأصبح فيه زوجته وأم أولاده. وبعد فترة قصيرة علِمتُ أنّ عبد عاد إلى الولايات المتحدة. إرتحتُ قليلاً لأنني كنتُ أخشى أن ألتقي به بالصدفة.
وفي اليوم التالي جاءَني إتصال على جوّالي مِن خارج البلاد وظننتُ طبعاً أنّه عبد ولكنّني تفاجأتُ عند سماع صوت ميساء:
- آلو... هذه أنا!
- من أين تتكلّمين؟
- من كاليفورنيا... أنا آسفة إن لم أخبركِ أنني مسافرة ولكنّني أردتها أن تكون مفاجئة لكِ... وصلتُ صباح اليوم...
- إنّها حقّاً مفاجأة! وما الذي تفعلينه هناك؟
- جئتُ أعيش هنا مع زوجي... عبد.
- كفاكِ مزاحاً... لماذا سافرتِ؟
- لأكون مع عبد... تزوّجنا قبل رحيله بأيّام... فعلنا ذلك بسرعة لأنني حامل منه... أليس ذلك جميلاً؟ كم أنا سعيدة!
كاد أن يُغمى عليّ لأنّني علِمتُ من صوتها أنّها لم تكن تمزح ولم أستطع التفوّه بكلمة واحدة. ثمّ أكملَت:
- لم يكن الأمر صعباً فعبد لا يتمتّع بذكاء خارق... كل ما كان عليّ فعله هو إخباره أن سمعتكِ سيّئة بسبب سلوككِ وأنّكِ كنتِ تبحثين عن شخص يتزوّجكِ ليستر عليكِ. ثمّ إستغليتُ إستياءه منكِ للتقرّب منه ومن بعدها أصبحنا عشّاقاً وسرعان ما وجدتُ نفسي حاملاً منه. وبما أنّه يتمتّع بأخلاق عالية وافق أن يتزوّجني.
- لماذا فعلتِ هذا؟ أنتِ صديقتي! أنتِ أختي!!!
- لا يا حبيبتي... أنتِ مخطئة... عشتُ حياتي في ظلّكِ... كان لديكِ كل شيء أمّا أنا فولدتُ فقيرة وعاديّة جدّاً... تحمّلتكِ سنيناً عديدة أتفرّج عليكِ وعلى سعادتكِ... صحيح أنّكِ كنتِ تعطيني البعض من الذي تملكينه ولكنها كانت فتافيت صغيرة ترمينها لي كما قد تفعلين مع كلب صغير. أردتُ حياتكِ بالكامل... أردتُ أن أكون مثلكِ... كنتِ تعطيني فضلاتكِ... فساتينكِ التي مللتِ منها وأحذيتكِ التي مشيتِ بها... والآن أخذتُ منكِ رجلاً واعدتيه... أيضاً من فضلاتكِ ولكنّني هذه المرّة حرمتكِ من فرحة حياتكِ وهذا يكفيني لأعيش سعيدة إلى الأبد.
حاورتها بولا جهشان