طلَبَ منّي أكرم أن أنتظره في ذلك المقهى وكان سيوافيني هناك بعد برهة. كنتُ مشتاقة جدّاً إليه، فلم أكن أراه كثيراً بسبب إنشغالاته. كان طبيباً وجرّاحاً مشهوراً وقبلتُ أن أضحّي لكي ينقذ حياة الناس ويريحهم من أوجاعهم. ولكن بعد وصولي إلى المقهى بحوالي ربع ساعة، إتّصل بي وقال أنّه لن يستطيع القدوم بسبب حالة طارئة. كنتُ معتادة على سماع هذا، فلم أغضب بل أصابني اليأس.
هل كنتُ مستعدّة للزواج من شخص يغيب عنّي بإستمرار وبأي وقت من النهار أو الليل؟ صحيح أنني كنتُ أحبّه كثيراً ولكنّ جزء مني أحبّ أيضاً مركزه ومستواه الإجماعي. فأنا لم أكن ثريّة، بل منحدرة من عائلة متواضعة ورأيتُ بأكرم فرصة للخروج من حالتي ورغم نيلي إجازة في التسويق لم يكن لديّ مستقبل لامع. فبأقصى الأحوال كنتُ سأبقى على ما أنا عليه، أي موظّفة عاديّة في شركة إعلانات. طلبتُ فنجاناً من القهوة وأخذتُ أفكّر بحياتي وعلاقتي مع خطيبي. وبينما كنتُ أتأمّل بالموضوع، جاء شاب وجلسَ على طاولتي دون أن يستأذن منّي. تفاجأتُ كثيراً وصرختُ به:
- ما بكَ؟ مَن أذَنَ لكَ بالجلوس؟
- لا أحد... أو بالأحرى يأسكِ دفعَني إلى فعل ذلك.
- إرحل من فضلكَ فأنا لستُ بمزاج جيّد.
- إعتبيرني وسيلة تسلية ولو لبضعة دقائق... أنا أيضاً لوحدي هنا... لا أريد منكِ شيئاً صدّقيني.
وسمحتُ له بالمكوث ولكن لفترة قصيرة قائلة:
- لا تهدر وقتكَ معي فأنا مخطوبة وأحبّ خطيبي كثيراً.
- أين هو؟ لا أراه معكِ...
- إنّه مشغول كثيراً فهو جرّاح كبير.
- أعرف... الدكتور أكرم أشهر من أن يُعرّف.
- وكيف علمتَ أنّه خطيبي؟
ضحِكَ وقال:
- آتي إلى هنا دائماً وأراكما سويّاً... أعرفه لأنّه أجرى لأمّي جراحة من سنتين.
- وكيف هي الآن؟ أهي بخير؟
سكتَ الشاب مطوّلاً ثمّ أخبرَني أنّها توفّيَت بعد العمليّة ببضعة أيّام. حزنتُ جدّاً لسماع هذا وقدّمتُ له تعزيَتي وأضفتُ:
- لا بدّ أنّ الأمر كان خارج إرادة أكرم... أعلم أنّ نسبة نجاح عمليّاته عالية ولكن أحياناً تحدث أمور مفاجئة.
- هل هذا ما أخبرَكِ به؟ إسمعي... عليّ الرحيل الآن ولكنّني موجود هنا كل يوم في الموعد نفسه... تعالي وسأطلعكِ على أمور كثيرة قد تُغيّر رأيكِ بخطيبكِ.
- لا! لا يهمّني سماع شيء منك فأنا واثقة منه. لن آتي!
ورحل الشاب ودفعتُ ثمن القهوة وعدتُ إلى المنزل وأنا مهمومة بسبب ما سمعتُه. هل يُعقل أنّ أكرم ليس كما أتصوّره؟ وهل عليّ السماع لهذا الشخص أم تجاهله؟ ولكن النفس البشريّة فضوليّة ولم أستطع الإمتناع من الذهاب إلى المقهى في اليوم التالي واعدة نفسي ألا أصدّق شيئاً ممّا سأسمعه. وبالفعل وجدتُه هنا وأوّل شيء قلتُه له كان:
- جئتُ لأثبت لكَ أنّكَ حتماً مخطئاً.
- كيف تقولين هذا وأنتِ لم تسمعي حتى ما سأخبره لكِ. إسمي حميد وأعمل كمحامي في شركة كبيرة وأنا في صدد تجهيز ملف كبير بحق خطيبكِ وأشباهه. وإن كنتِ ذكيّة كما أتوقّع فستُبقين هذا لكِ حتى تتبيّن لنا الحقيقة.
طلبَ لنا العصير وباشرَ بقصّته:
- ولِدَ خطيبكِ وملعقة فضيّة في فمه... أبوه كان أيضاً جرّاحاً وأظنّه إختار نفس المهنة إرضاءً له ولأنّ أبواب المستشفيات ستُفتح له بسبب إسمه ونسبه ولكنّه لم يكن يوماً يرغب الطبّ وعلاماته في الجامعة تثبت ذلك بوضوح.
- حصلتَ على علاماته؟
- قلتُ لكِ أنّني محام ولديّ دافع قويّ بهذه القضيّة... دعيني أكمل... وإلى جانب فشله بالطب، كان لدى أكرم حبّاً شديداً لملذّات الحياة كافة شأن معظم أولاد الأثرياء... هناك مخالفات عديدة بسبب سرعته بالقيادة وإثارة الضجّة خلال سهراته الصخبة التي كان يقيمها في شقّته الصغيرة التي إشتراها له والده لكي يكون قريباً من الجامعة.
- كان هذا منذ زمن بعيد... أصبح الآن رجلاً مسؤولاً.
- لا... أنتِ مخطئة... ومن الواضح أنّكِ لا تعرفينه جيّداً وأنّكِ لستِ من دائرة معارفه... وأظنّ أنّه إختاركِ لهذا السبب.
- لا أسمح لكِ!
- أعني بذلك أنّ الكل يعرفه جيّداً ولن يرضى أحداً بتزويجه إبنته... فهو لطالما كان يحبّ النساء وبشكل مرضي وخاصة اللواتي تبعن خدماتهنّ... هل فهمتِ قصدي؟ ربما لأنّهنّ توافق على فعل أشياء متطرّفة معه فهو لديه مال وفير ويستطيع شراء من يشاء. ورغم كل ذلك، أصبح أكرم جرّاحاً وقبِلَت إحدى المستشفيات توظيفه لأنّ أبيه تبرّع بإنشاء جناحاً جديداَ لها وبدأ بالعمل. كانوا يعطونه الحالات البسيطة، خوفاً من أن يقحمهم بمصيبة وهذا ما حصل مع والدتي رحمها الله... دخلَت المستشفى لإجراء عمليّة المرارة ولم تخرج منها إلا ميّتة.
- هذه الأشياء تحصل للأسف...
- أجل ولكن أكرم دخلَ غرفة العمليّات وهو ثملاً ولديّ إثبات... إحدى الممرّضات إعترفَت بذلك.
- إنّها تكذب! أكرم رجل وسيم ولا بدّ أنّها كانت معجبة به وهو لم يبادلها الإعجاب، فقرّرت أن تنتقم بتشويه سمعته.
- لا... هناك شهادات أخرى وكلّها تثبت ذلك وسأنال منه قريباً... سيدفع ثمن موت أمّي وسأجنّب أناس آخرين مصيرها.
- لا أفهم لماذا تخبرني كل هذا... هل لأنّكَ تكرهه لدرجة أنّكَ تريد تدمير حياته العاطفيّة أيضاً؟
- لا... لستُ من هذا النوع... الحقيقة أنّني عندما رأيتكِ معه هنا، علِمتُ فوراً أنّكِ لستِ مثله... بل مثلي... أنتِ إنسانة عاديّة ونزيهة تحاولين كسب عيشكِ بعرق جبينكِ... وأغراكِ بمركزه ولكن ليس كل ما يلمع ذهباً...
- أنا آسفة ولكنّني لا أصدّقكَ... شكراً لوقتكَ... وداعاَ.
ووقفتُ لأرحل حين مسَكَ ذراعي وقال لي:
- أرجوكِ... لا تتزوّجي منه قبل أن تتأكدّي منه... لا تصدّقيه عندما يقول لكِ أنّه يغيب عنكِ بسبب حالات طارئة... على الأرجح يكون في تلك الأثناء مع إحدى "صديقاته"... لا تكوني ضحيّته فالموت ليس أبشع شيء يحصل للمرء...
رحلتُ من المقهى والدموع تملئ عينيّ، فصوت بداخلي كان يقول لي أنّ حميد على حقّ، ربما بسبب نظراته وكلامه وربّما لأنّني كنتُ أشكّ بحجج خطيبي. ومنذ ذلك الموعد، لم أعد أنظر إلى أكرم نفس النظرة وشيئاً تغيّر بيننا وبينما كنتُ بحيرة مِن أمري علمتُ أنّه أوقِف عن مزاولة عمله في المستشفى. هو لم يقل لي هذا، بل عندما إتصلتُ بالمستشفى وطلبتُ أن أتحدّث معه، قيل لي أنّه لم يعد على قائمة أطبّاءهم، لأنّه قيد التحقيق. ومِن بعدها تتالَت الأمور وكُشِفَت أموراً عديدة من بينها حبّه للكحول والنساء وشكرتُ ربّي أنّني لم أتزوّحه. عندها ذهبتُ إلى المقهى ووجدتُ حميد هناك كعادته. وفي تلك المرّة أنا التي جلسَت إلى طاولته. إبتسمتُ له وقلتُ:
- كنتَ على حقّ وأنقظتَني... كيف يمكنني أن أعبّر عن إمتناني لكَ؟
- بِقبول دعوتي على العشاء.
حاورتها بولا جهشان
