ولِدَ أبي في عائلة فقيرة لِدرجة أنّه كان بالكاد يأكل. وكان يتعارك مع باقي أخوانه على مَن سيأخذ ما كان يجدونه في مستوعبات نفايات الناس الأغنياء وكان يحاول دائماً أن يكون مَن يتواجد أوّلاً حول ما كان يسّمونه" الكنز النَتِن". فأصبحَ أنانيّاً وجشعاً، يرفض تقاسم أي شيء مع غيره ويخبّئ كل ما لديه في أماكن لا تخطر على بال أحد.
وشاءَت الظروف أن تراه في ذاك يوم قرب المستوعب إحدى السيّدات وأن تجلبه إلى منزلها وتعطيه ملابس ومأكلاً. وباتَ يذهب إليها كل يوم دون أن يقول لأحد ويملئ بطنه ويأخذ الهدوم ويبيعها لِمَن يريد شراءها. وكانت تلك السيّدة قد فقدَت إبنها الوحيد ورأت في والدي بديلاً له، فاعطَته ما كان مخصّص لِولدها ظانة أنّها ستحصل على حبّه بالمقابل. ولكنّ أبي لم يكن لديه قلب ليشعر بأي شيء تجاهها ولم تكن تمثّل له سوى مصدر غذاء ومنفعة.
ومرَّت السنين هكذا وأصبحَ يساعدها في المنزل هي وزوجها ويهتمّ بالحديقة ويغسل السيّارة ويقبض ثمن أتعابه. وحين أصبحَ كبيراً كفاية، أخذَه الزوج إلى مصنعه وعلّمه كيف يدير المكنات الضخمة لِصناعة الأقمشة. وفرِحَ جدّي أنّ إبنه أصبحَ له عملاً ظاناً أنّ هذا الأخير سيساعده ويخفّف عنه عناءه بعض الشيء ولكنّه لم يرَ فلساً واحداً منه تحت ذريعة أنّه لم يطلب مِن أحد أن يولد خاصة بعائلة فقيرة لم تقدّم له شيئاً سوى القلّة والتعاسة.
وصارَ أبي يتّقن العمل لِدرجة أنّه باتَ مسؤولاً عن العمل وعن إدارة معظم المكِنات لأنّه كان ذكيّاً وطموحاً وعلِمَ أنّ ما يحصل له هي فرصة حياته الوحيدة وأنّ الفشل مرفوض. وبقيَ حال عائلته على ما هو حتى عندما ماتَ صاحب المصنع ومِن ثم زوجته وأصبحَ والدي الوريث الوحيد لثروتهما الهائلة بعدما تركا له بوصيّتهما كل ما يملكانه. ولكي لا يطلب منه أحد شيئاً، نقلَ أبي المعمل بأثره إلى مدينة جديدة ونسيَ أمر ذويه وإعتبرَ نفسه يتيماً ووحيداً. وفي تلك الفترة، تعرّفَ أبي على أمّي التي كانت تعمل لديه بعدما صَرَف جميع الموظفيّن القدامى وجاء بآخرين لتكون بداية جديدة بكل للكلمة مِن معنى. أعجَبَته تلك الفتاة لأنّها جميلة وهادئة وأمِلَ أن تكون مطيعة وقنوعة بسبب جذورها المتواضعة. ففي أحد الأيّام طلبَ أن يراها في مكتبه وقال لها:
ـ أهلاً بكِ يا زينب... هل تعلمين مَن أنا؟
ـ بالطبع سيّد جهاد... ومّن لا يعرفكَ؟
ـ أردتُ أن أراكِ على إنفراد لأنّني أُعجبتُ بكِ... رأيتُكِ تعملين في المصنع...
إحمرّ وجه أمّي ولم تستطع التكلّم، فتابَع أبي:
ـ أنا بحاجة إلى زوجة... وأريدها أن تكون مثلكِ فأنا لا أحبّ الناس المتشاوفة أو المتطلّبة... وعلِمتُ أنكِ مِن عائلة بسيطة وهذا هو مطلبي... أنا أيضاً كنتُ فقيراً ولكنّ الظروف ساعدَتني على الخروج مِن عوذي... أستطيع الزواج مِن فتاة غنيّة ولكنّني لا أريدها أن تذكرّني بماضيّي كلّما تشاجرنا...
ـ أشكركَ على إختياركَ لي سيّدي ولكن... لديّ صديق و...
ـ أهو غنّي مثلي؟
ـ لا و لكن...
ـ هل سيؤمِّن لكِ حياة مريحة؟ أم أنّكِ ستظلّين تعملين مِن الصبح حتى المساء وسط غبار القماش؟ أنا لا أطلب منكِ أن تحبّيني فأنا لن أحبّكِ... الحب مضيعة للوقت... كل ما أريده منكِ هو أن تكوني موجودة عندما أعود إلى بيتي وأن تهتمّي بي وبالولد الذي سننجبه.
ـ ولد واحد؟
ـ أجل... الأولاد مُكلفون... ولدَيهم طلبات ومطلّبات عديدة... فكرّي بالموضوع مليّاً.
ـ وإن لم أقبل؟
ـ لا أستطيع إجباركِ على القبول ولكن سيكون عليكِ التفتيش عن عمل آخر.
وقبِلَت المسكينة لأنّها تأمّلَت بحياة جميلة مع رجل ثري بعيداً عن القلّة التي حاوطَتها منذ اليوم الأوّل. وهكذا تزوّجا دون ضجّة لأنّ وحسب أبي لا فائدة مِن أقامة زفاف كبير وصرف المال على مدعويّن لن يُعجبهم شيئاً. وبدأت حياتهما سويّاً. لم يكن والدي رجلاً بغيضاً ولكن بخله كان مزعجاً للغاية لأنّه كان يرفض أن يتقاسم شيئاً مع أيّ كان ولم يقتصر ذلك على المال بل على عاطفته وإنتباهه. كان يعيش لِنفسه فقط وكأنّه الكائن الوحيد على سطح الأرض. عانَت أمّي كثيراً معه وندِمَت جداً لأنّها لم تختار حبيبها ورأَت أنّ الحبّ مع إنسان فقير أفضل مِن الجفاء مع ثريّ. وكانت تنوي الرحيل ولكنّها حمِلَت بي وعلِمَت أنّ أبي سيأخذني منها إن تركَته، فلِذا بقيَت على أمل أن يتغيرّ زوجها عندما يصبح أباً. وكان ذلك ممكناً لو لم يرى فيّ مصدرجديد لِصرف المال الغير مُبرَّر. ولكنّ أمّي وقفَت بوجهه صارخة:
ـ قبِلتُ أن أعيش معكَ وكأنّنا فقراء مع أنّنا أغنياء...
ـ أنا الغنيّ فهذا مالي!
ـ أجل ولكنّني زوجتَكَ وعليكَ الإعتناء بي شئتَ أم أبَيتَ! دعني أكمل! سكَتُّ على بخلكَ عليّ ولكنّني لن أقبل أن تحرم أبننا مِن أبسط الأمور... ستشتري له أفضل الملابس وتؤكله أشهى المأكولات وترسله إلى مدرسة تؤمِّن له دراسة جيّدة... ولن أقبل بأقلّ مِن ذلك له!
سكَتَ ولم يجاوب وخالَت والدتي أنّه رضخَ لرغباتها ولكنّه لم يفعل على الأقل ليس كليّاً. ولكيّ يتجنّب أن يصرف عليّ ما استحقّه، قالَ لأمّي أنّ أحوال المصنع ليست جيّدة وبدأ يتداعى أنّه يواجه مشاكلاً ماديّة كبيرة بِسبب تدنيّ الطلب على النسيج الوطني بعدما دخلَت الأصناف الصينيّة الأسواق. ووصلَت كذبته إلى أن يصرف فعليّاً بعض العماّل ليثبتَ لزوجته صدقه. وطبعاً صدّقَته ولم تَعد تطلب منه شيئاً مكتفية بأن نأكل ونشرب فقط.
وهكذا كبرتُ وكأنّني فقير. أرسلَني أبي إلى مدرسة حكوميّة مجّانيّة ولبستُ زيّها كل يوم وأكلتُ أرخص المأكولات. ولم يكن لديّ ألعاباً جميلة بل فقط البسيطة منها والتي كانت تفيدني بصنع غيرها عندما كانت تتعطّل فكنتُ أنتزع منها قطعاً وأضيفُها على أخروات ممّا خلقَ عندي مهارة في الكهرباء والميكانيك. وعندما أصبحتُ في الخامسة عشر قرّرَ أبي أنّ لا فائدة مِن أن أكمل دراستي لأنّني أستطيع العمل معه خاصة بعدما رأى أنّ بإمكانه الإستفادة منّي في تصليح المكينات المعطلّة والإستغناء هكذا عن الموظّف المسؤول عن التصليحات.
وبدأتُ بالعمل وأحببتُه ولكنّني كنتُ أريد أيضاً متابعة علمي لأصبحَ مهندس ميكانيكي ولكنّني رضَختُ كالعادة لإرادة والدي. ولكن أثناء تواجدي في المعمل، لاحظتُ أنّ الأحوال لم تكن كما صوّرَها لنا أبي، فكانت الطلبيّات تأتينا مِن كل الأنحاء والعمل يدور بشكل ممتاز. وعندما واجهتُ أبي بذلك غضِبَ جداً منّي وبدأ يصرخ عالياً أنّ كل ذلك له وملكه لوحده وأنّ لا شأن لي بأيّ شيء. وتشاجرنا بقوّة وطردَني ليس فقط مِن المصنع بل مِن المنزل. ذهبتُ باكياً إلى البيت وأخذتُ هدومي وبعد أن ودّعتُ أمّي قصدتُ منزل جديّ. وبقيتُ هناك طوال سنة بكاملها مِن دون عمل أو دراسة. وكانت أمّي تزورني وتأتي لي بالقليل مِن المال لكي لا تُثقل على أهلها الذين كانوا بالكاد يستطيعون إطعام أنفسهم.
ولكن حدثَ شيء غير متوقّع قلَبَ جميع الميازين. لم يشأ أبي أن يجلب عامل صيانة مكاني، فعندما تعطّلَت إحدى الماكينات حاولَ إصلاحها بنفسه ولأنّه لم يكن يعلم كيف يفعل شبَّ حريق هائل في المعمل أدّى إلى مصرعه. وجاءَت والدتي إليّ فوراً وأخذَتني وذهبنا لنرى الأضرار ولنتعرّف على جثة أبي. لم نبكِ عليه فلم نكن نحبّه. ولم يبكِ أحد عليه أيضاً. وعندما خلنا أنّنا خسرنا المعمل، إكتشفنا أنّه كان قد أمّنَ عليه خوفاً مِن أن يفقد أعزّ ما لديه. كان بخله قد نفعَ لشيء ولو لمرّة واحدة. وليس ذلك فقط، بل ورثَت أمّي مبلغاً هائلاً مِن المال كان أبي قد وضعَه في المصرف بعدما حرَمَنا منه طوال سنين. وبمساعدة العاملين وشركة التأمين، إستطعتُ إعادة تشغيل المصنع بعد أقل مِن سنة. أحبوّني جميعهم خاصة أنّني طلبتُ مِن والدتي أن تدفع لهم رواتبهم أثناء إعادة التأهيل. وهكذا بدأنا العمل مِن جديد. وها أنا اليوم صاحب أكبر مصنع قماش في المنطقة أعيش سعيداً مع أمّي وزوجتي وولدَيّ. هل أفكّر في أبي مِن وقت لآخر؟ أبداً فلقد محوتُه مِن ذاكرتي لحظة ما مات. فالإنسان حين يموت لا يأخذ معه شيئاً ويترك للناس حوله سيرته الحسنة والمحبّة التي أعطاهم إيّاها. وهو لم يعطِ أحداً شيئاً ولكنّه رحلَ فارغ اليدين مِن دون كل المال الذي خبّأه طوال سنين.
حاورته بولا جهشان