ما حصلَ كان ذنبي أنا وحدي، لأنّني إعتقدتُ أنّني أستطيع أن أغشّ الناس دون أن أُعاقَب وبالرغم أنّني لا أبحث عن أعذار لكنّ الوضع آنذاك كان صعباً جدّاً عليّ، لِدرجة أنّني بحثتُ عمّا ظننتُه أنسب حلّ.
كنت في السابعة والعشرين مِن عمري وكان لديّ حبيب، لكنّ الظروف كانت تقف بيني وبين حبّي هذا. وبالظروف، أعني أخي الصغير وسام الذي وُلدَ مِن بعدي بثلاث سنوات ولكن قبل أونه، ما سبّب له مشاكل صحيّة وتأخيراً عقليّاً بسيطاً. وعشتُ حياتي أهتمّ به وألعّبُه وأدرّسه وأفعل معه وله كل شيء. ومع السنين، باتَ متعلّقاً جدّاً بي ويعتمد عليّ بكل شيء. وحين توفّى أبي ومِن ثمّ أمّي، رحلا مطمئّنين البال عليه. ولَم أشعر بِعبء تلك المسؤوليّة إلا عندما تعرّفتُ إلى زياد وأحببتُه. وكان مِن المنطقيّ أنّ حبّاً كهذا يتتوّج بالزواج ولكنّ وسام كان العائق، فلَم يكن مِن المقبول أن آتي بأخي إلى البيت الزوجي وأفرضه على عريسي. فلَم يكن زياد مُجبراً على العيش مع شبه مُعاق بدلَ أن يسعدَ بحبيبته. حينها أدركتُ أن لديّ مشكلة ولم أعد أفكّر بشيء آخرٍ إلى درجة أننيّ فقدتُ النوم. فكنتُ أقضي الليالي كلّها وأنا أنظر إلى السقف فوق سريري وأتخايل زياد وهو يقول لي أنّه لم يعد يطيق الحياة مع أخي وأنّه سيتركني، بينما أتوسّله بأن يعيد النظر في قراره.
وكنتُ أدرس جميع الحلول المعقولة لأبعد وسام عنّا ولكنّني لم أستطع تقبّل فكرة رميَه في مؤسّسة خاصة، داركة تمام الإدراك أنهّ سيكون تعيساً جداً هناَك وأنّ ضميري سيعذّبني كثيراً. وبسبب شدّة الوضع، لاحظَت صديقتي الحميمة الحالة التي كنتُ فيها وحين أخبرتُها عمّا يمنعني مِن أن أكون سعيدة، قالَت لي:
- الحل سهل...زوّجيه!
- ماذا؟ تعلمين أنهّ ليس بكامل وعيه...صحيح أنهّ أصبحَ رجلاً ناضجاً ولكنّني متأكّدة أنّه لايعلم حتى ما هو الزواج أو حتى كيف يتزوّج...ومَن سيقبل بهكذا زوج؟ مِن المؤكّد أنَّك تمزحين!
- أبداً ...ليست كل الفتيات مثلكِ ...أعني أنّ هناك مَن يريد أن يتزوّج مهما كان السبب...وأخوكِ ليس معاقاً عقليّاً بكل معنى الكلمة، بل هو بسيط بعض الشيء ...إن وجدَت الفتاة المناسبة أي المتفهمّة والصبورة قد يكون سعيداً معها وهي كذلك. وهكذا يرتاح بالكِ وتتفضّين لحياتَكِ مع زياد.
- حسناً ...جِدي لي تلَك العروس ودعي الباقي لي.
وللحقيقة لم أتصوّر أبداً أن تقَع صديقتي على بنت الحلال التي ستخلّصني مِن هميّ، فنسيتُ الموضوع وإستمريّتُ في البحث عن حل. ولكن بعد حوالي العشرة أيّام، إتّصلَت بي تلك الصديقة وقالَت لي:
- هيّا زغردي!
- ما الأمر؟ ما الذي حدث؟
- أنسيتي؟ العروس... وجدتُها!
- لا أصدّق ذلك ! لا تمزحي معي فالموضوع حسّاس! يكفيني ما أنا به!
- لستُ أمزح ...وجدتُها حقّاً... إنّها فتاة وقعَت ضحيّة شاب رذيل تسلىّ معها بعض الوقت بعدما أوهمَها أنّه سيتزوّجها ثم رحلَ ولم يعد... ووقعَت المسكينة في حيرة مِن أمرها وظنَّت أنّ مستقبلها قد ضاع ...لقد تحدّثتُ معها وشرحتُ لها وضع وسام وقبِلَت أن تتزوّجه دون أيّ شرط.
وحين سمعتُ ذلكَ، شعرتُ وكأنّ كل همومي قد أُزيلَت عن صدري وإستطعتُ أن أتنفّس مِن جديد . وأخذتُ رقم العروس وخابرتُها وإتّفقنا على مكان نلتقي به. وحين جلستُ معها، قلتُ لها:
- إسمعيني يا ليلى ...وسام كالطفل وهناك أشياء كثيرة لايعي لها ... لن يكون الزوج الذي تحلم فيه كل فتاة...ستقومين ولوحدكِ بجميع الأمور...
- أعلم... وأنا راضية بكل هذا ...ولكن هناك أمر يحيّرني...كيف سنعيش؟ صحيح أننيّ أعمل ولكنّها وظيفة بسيطة.
- لاعليكِ ...لقد تركَ لنا أهلنا ما يكفي ...سأعطيه حصّتي كتعويض لكِ ولِما ستمرّين به...لن تحتاجين لشيء. ولكن على أخي أن يوافق على الزواج ومنكِ بالذات، فهو حتى الآن لا يعرف شيئاً عن الموضوع.
ودعَيتُ ليلى لِتناول الغداء عندنا، لكي يتعرّف عليها وسام وجلَست قربه على المائدة وإهتمَّت به وحدّثته. وبعدما رحَلَت، سألتُ أخي عن رأيه بها فقال لي:
- إنّها جميلة ...هل ستعود قريباً؟
وبدأت ليلى تتردّد إلى منزلنا وبعد فترة وُلدَت مودّة بينهما أوعلى الأقل مِن جانب أخي الذي بدأ ينتظرها بفِارغ الصبر. وحين سألتُه إن كان يريدها أن تعيش معه طوال الوقت، أسرعَ بالقبول. وأقمنا حفلاً صغيراً حضرَه زياد خطيبي وصديقتي وبعض الجيران.
ومِن بعدها عشتُ معهما بضعة أشهر ثمّ تزوجتُ بدوري. ومع أننيّ كنتُ أعلم أن حياة أخي بعد الزواج لن تكون سهلة، فضّلتُ عدم التعاطي بشؤون الزوجَين لكي يعتادا على تسوية أمورهما لوحدهما وأيضاً لأننيّ كنتُ قد سئمتُ مِن الإعتناء به. كنتُ سعيدة أنّني وجدتُ مَن يأخذ كل المسؤوليّة عنيّ، معتبرةً أنهّ يحقٌ لي أن أنعم بأياّم هنيئة مع الرجل الذي أحبّه. وكان ذلكَ خطأً فادحاً مِن قِبلي، لأنّه كان بإستطاعتي إيقاف ما كان يحصل قبل وقوع المصيبة.
فبعد مغادرتي المنزل وترك وسام وحده مع زوجته، بدأت هذه الأخيرة بإقناعه على إعطاءها توكيلاً يمكنهّا مِن التصرّف بأمواله. وبِسبب عدم إدراكه للأمور، قبِلَ معها وأصبحَ المسكين تحت رحمتها. ولم تكتفي ليلى بذلك، بل أقامَت علاقة مع البقاّل الذي كان يأتي لها يوميّاً بالمشتريات إلى البيت. ومع أنّ أخي لم يكن واعياً لأِمور الحياة، لم تغِب عن إنتباهه ممارسات زوجته مع عشيقها، فهي لم تتكّبد حتى عناء الإختباء، بل كانت تقوم بمعاشرته أمامه ظانة أنهّ لن يفهم ماذا يجري.
وحين غضبَ المسكين ولامَها على خيانتها له، إكتفَت بِلَمّ أمتعتها وترك المنزل. ولَم تنسَ بالطبع أن تمرّ على المصرف لِسحب المال الذي أصبحَ بتصرّفها. ولَم أعلم بالذي حصل إلاّ بعد أياّم، حين إتصلتُ بِوسام للإطمئنان عليه، فأخبرَني بأنّ ليلى هجرَته وهربَت مع البقاّل وأنّ المصرف أخبره بأنّ رصيده أصبح فارغاً. وركضتُ إليه وجدتُ أخي بحالة يُرثى له، فإلى جانب صدمته النفسيّة والعاطفيّة، كان قد بقَي أياّم دون أن يستحّم أو يأكل. قمتُ بالتنظيفات اللازمة وحضرّتُ له الطعام وحاولتُ تهدئته ووعدتهُ بأننيّ سأهتمُ بكل شيء. وبعد أن وضعتُه في السرير، عدتُ إلى منزلي وأنا أفكّر بالمصيبة التي حلّت وبطريقة للإعتناء به دون أن يؤثّر ذلك على زواجي، فكنّا قد عُدنا إلى نقطة الصفر مع فارق كبير وهو أنهّ لم يعد هناك مالاً لإعالة أخي. ولكن بعد ساعتَين على وصولي البيت، جاءني إتصال مِن جيران وسام ليخبروني أنّ حريقاً شبّ في شقتّه وأنهّم ينتظرون قدوم فوج الإطفاء. وحينها صرختُ لهم: "وأخي؟ أهو بخير؟" سكتوا مطوّلاً وأجابوا: "حاولنا الدخول ولكنّ النيران كانت قويّة جداً." وركضتُ مع زوجي إلى المبنى الذي كان محاطاً بالدخان وسيّارات الإطفاء والإسعاف ورأيتُ جثّة وسام تُنقُل على محمل. ووقعتُ إرضاً لِشدّة حزني. كنتُ السبب بالذي حصل لأننيّ كنتُ متأكدّة أنّ أخي أضرمَ النار قصداً بعد رحيلي لينهي حياته بعدما تركَته ليلى. فلولا خوفي مِن أن يؤثّر وجوده على مستقبلي لما زوّجته مِن فتاة لا أعرف عنها شيئاً وكأنّني أريد التخلّصِ منه بأي ثمن.
ومنذ تلك الليلة، لم أعد أعرف طعم السعادة. وكيف لي أن أنعَم بشيء بعدما تسّببتُ بموت أخي الوحيد الذي إعتنيتُ به منذ صغري والذي إئتمنَني أهلي عليه. فكنتُ قد خذلتُ الجميع حتى زوجي الذي لم يفهم لماذا لم آتِ بِوسام ليعيش معنا بدلَ أن يُقنع بزواج لم يرده فعلياً. ومع مرور الوقت، أصبحتُ مكتئبة لِدرجة أننيّ أهملتُ نفسي وزواجي وفضّلتُ أن أنفصل عن زياد الذي لم يعد يحبّ المرأة التي أصبحتُ عليها.
حاورتها بولا جهشان