لم يكن ولداي قد تخطّيا الثالثة والخامسة من العمر بعد، حين قرّر زوجي الذهاب لبناء حياته من جديد. لم أعرف أبداً سبب رحيله ولم أشكّ في شيء إلى أن حزم أمتعته وخرج من الباب قائلاً: "أحب امرأة أخرى وأنا ذاهب".
وانهار العالم تحت قدميّ...
انتظرته أشهراً طويلة على أمل أن يعي فظاعة تصرفاته لكنّه لم يعد أبداً، كما لو أنّنا لم نكن موجودين البتة بالنسبة إليه. انتهى بي الأمر وحيدةً من دون أي مصدر رزق وكان عليّ الاعتناء بولديّ. وبما أنّني كنت عاجزة عن تلبية احتياجاتهما وعن دفع أقساطهما المدرسية، اضطررت بحسرة لأن أضعهما في المدرسة الداخلية.
في ذاك المركز الديني المجاني لن ينقصهما شيء وسيتمكّنان من متابعة دراستهما لتأمين مستقبل أفضل لهما. وذلك بانتظار أن أجد حلاً مناسباً يجمعني بهما من جديد.
بعت المجوهرات القليلة التي كنت أملكها، ولحسن الحظّ، اقترحت عليّ صديقة لي علمت بما حدث معي أن أساعدها في محلها الكائن في فندق عريق في العاصمة.
بين ليلة وضحاها، انخرطت في عالم كنت أجهله ورحت طيلة النهار أشاهد السيّاح القادمين من كل أنحاء العالم وأراقب الزبائن الميسورين والأميرات... بدأت الروابط تنشأ بيني وبينهم وتعدّت حدود التعامل مع الزبائن ليتحول بعضها إلى علاقات صداقة. بعد مرور عام تقريباً، فتحت صديقتي فرعاً لها في فندق مترف في الإمارات وكلّفتني مهمة إدارته. عندئذٍ، وظّفت مساعدة لي وسارت الأمور على أفضل ما يرام فاسترجعت الأمل بالحياة وبدأت أتنفّس من جديد.
رحت أرى ولديّ كلّ نهاية أسبوع وأتشاطر معهما هذه الحياة بقدر المستطاع. كانا فرحتي وأثمن ما أملك في العالم وكنت فخورة بأنّني قادرة على اصطحابهما إلى العشاء في أفضل المطاعم وعلى تزويدهما بكلّ ما يرغبان فيه. لم يعد المال مشكلة بالنسبة إلي، لكن يوم الأحد عند المساء كان لا بد لهما من العودة إلى المدرسة الداخلية فكنّا نفترق والدموع تترقرق في أعيننا. كنت أقبّلهما بقوة وأهمس في أذنيهما بأنّ هذا سينتهي قريباً وبأنّ عليهما التحلّي بالقليل من الصبر بعد.
في هذا الفندق بالتحديد قابلت وليد، رجل أعمال يسافر كثيراً ويملك شقة فاخرة خاصة به يستعملها مكتباً له. كان في الخمسين من العمر وهو وسيم وغني ونافذ لكنّه كان متزوّجاً هو الآخر. بالرغم من مشاكله الزوجية، لم يكن قادراً على التخلّي عن المرأة التي كانت مصدر ثروته والتي ستظلّ على الدوام أم أولاده الثلاثة. معه، سافرت كثيراً واكتشفت العالم فاشترى لي محلاً وشقة صغيرة وسيارة. وهكذا تمكّنت من بناء حياتي من جديد.
منحني كلّ الحب والاحترام الذي افتقرت إليه، لكنّ المشكلة الكبيرة كانت أنّه ترك مساحة لي وحدي في حياته وليس لولديّ... فهو أرادني لوحدي من دون أعباء إضافية. لم أملك الشجاعة لكسر ذاك التوازن غير المتوازن وشعرت بالأسى لكنّني قررت التسلّح بالصبر، فلدى خروج ولديّ من المدرسة الداخلية سيحظيان بالأمان والراحة وسيتمكّنان من الذهاب إلى الجامعة بفضل المال الذي أدّخره. بالتالي، بقيت أراهما نهاية الأسبوع وهما يكبران من دوني.
سنة بعد سنة، شعرت بهما يبتعدان عنّي بالرغم من كلّ جهودي. لدى انتهاء سنوات الدراسة، وجدتهما رجلين حاقدين مضطربين يمتلئ قلباهما بالكراهية والغضب. اتّهماني بالتخلي عنهما وتركهما مهمَلين في المدرسة الداخلية لأكثر من عشر سنوات ليتحمّلا سوء المعاملة والحرمان والوحدة. لم أكن أراهما سوى يومين في الأسبوع لذا لم أشك في شيء على الإطلاق.
ما عادا يريدانني في حياتهما لكنّني كنت عاجزة عن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. قد أفسدت كلّ الأمور، وبالطبع رفضا وليد لأنّهما اعتبراه سبب مصيبتهما كما رفضا أية مساعدة مادية مني. تدبّرا أمرهما ووجد كلّ منهما عملاً ثم اختفيا ليعيشا مرة أخرى بعيداً عني ولم تكن تصلني عنهما أية أخبار.
أمّا حبيبي فانتهى به الأمر رجلاً عجوزاً سئمت زوجته من مشاطرته معي فقررت تركه معدماً! عندئذٍ، جاء يعيش معي ولم يعد البتة الرجل ذاته. صرنا نعيش من مدخولي وانتهت حياة الترف. في صباح أحد الأيام، مات وليد جراء أزمة قلبية فبكيت عليه كما لو كان زوجاً أو أباً. لم يعد عندي أحد وفقدت كل ما لديّ، حتى ولديّ.
بعد مرور سنوات طويلة، حين صار لولديّ أولاد، تمكّنا من مسامحتي فعادا واصطحباني للعيش بالقرب منهما ووضعا حداً لزمن الفراق الطويل. أخيراً، التمّ شملنا وصار بإمكاني التعبير عن حبي لهما يومياً.
حاورتها بولا جهشان