عندما توفّيَ أبي، لم يترك لنا شيء سوى محلاً صغيراً لبيع السجائر والمرطّبات. أمّا أمّي، فكانت تعمل في تنظيف منازل السيّدات الثريّات. لذا كنتُ أقضي نهاري في الكشك، ألبّي طلبات المارّة والسائقين الذين كانوا يتوقّفون للحظة لجلب سجائرهم. كنتُ أتعب كثيراً لكثرة الزبائن أوّلاً ولأنني كنتُ أعاني من مشكلة في رجلي بسبب شلل الأطفال الذي أُصبتُ به عندما كنتُ صغيرة. مرّت الأيام والسنين هكذا وحياتي تتمحوَر حول عملي دون أن أفكّر في نفسي، خاصة أنّ حالتي الجسديّة لم تبشّر بأي خير من الناحية العاطفيّة. فكل الرجال الذين كانوا يأتون كانوا يعتبرونني صديقة لهم وليس أكثر. رضيتُ بمصيري حتى جاء مسعود.
لم يكن من الزبائن المعتادين فلم أره سابقاً. هو توقّف بالصدفة ليبتاع قنينة ماء قبل إكمال طريقه. لا أخفي أنني أعجبتُ به من أوّل نظرة ولكنني كالعادة كبتُّ مشاعري لأنّه لا فائدة من فعل شيء بهذا الخصوص. ولكن مسعود على خلاف غيره من الرجال، أمعن بالنظر إليّ وإبتسم لي عندما أعطيتُه الماء وقبل أن يرحل طلبَ أن يعرف إسمي. تفاجأتُ كثيراً وأجبتُ بصوت خافت:" نجوى". ثم رحل. وتمنّيتُ أن يعود ثانية وعاد في اليوم التالي في الموعد نفسه يطلب قنينة ماء. وأصبح يتردّد يوميّاً وفي كل مرّة كان يقول لي كلمة لطيفة ويبتسم لي حتى أن وقعتُ بحبّه. لم أعلم الكثير عنه سوى أنّه يعمل كسائق عند رجل مهم ويسكن مع أمّه المقعدة وأنّه أحبّني وكل ما يريده هو أن يكون معي. كنتُ أخيراً سأذوق طعم الحب بعدما فقدتُ الأمل كليّاً وأصبحتُ في الخامسة والأربعين من عمري. خلتُ أنّ الجميع سيكون سعيد من أجلي ولكنني فوجئتُ بردّة فعل قاسية ممن تعرّف على مسعود:
- إنّه يضحك عليكِ
- أتعتقدين أن شاب وسيم كهذا هو مغروم بكِ أنتِ؟
- أليس أصغر منكِ سنّاً؟
وأشياء أخرى من هذا القبيل، ما دفعني إلى التكلّم مع مسعود بكل صراحة:
- حبيبي... أحياناً أسأل نفسي لماذا تحبُّني... أعلم أنني لستُ جميلة ولستُ فتيّة ولديّ عاهة جسديّة... ما الذي أعجبكَ بي؟
نظر إليّ بحنان ووضع يده على وجهي وقال:
- كل هذا ليس مهمّاً... ما هو بداخلكِ هو الأساس...
- ولكن حبيبي عندما رأيتني لأوّل مرة لم تكن تدري ما بداخلي. لا بدّ أن شيئاً دفعكَ للتقرّب مني.
- ستعرفين كل شيء في الوقت المناسب يا حياتي...
وبعد فترة جاء مسعود إلى بيتنا وطلب يدي من أمي وإعتذر منّا أنّ والدته لم تستطيع المجيء بنفسها، لأنها لا تستطيع التنقّل. للحقيقة لم أكن أعرف حماتي بعد، فكلمّا ذهبتُ إلى بيت مسعود تكون هي عند أقارب لها في الجبل حيث الهواء النقي، لأنها كانت تعاني من أمراض كثيرة إضافة إلى شللها. وحدّدنا موعد الزفاف الذي أردناه بسيطاً بسبب حالة مسعود الماديّة. لم يكن يهمني شيء سوى أن أصبحً زوجته.
ولكن بعد فترة قصيرة وقبل شهرين من الزفاف جاء مسعود وعلى وجهه علامات الحزن العميق وأخبرني أنّ أمّه في حالة حرجة وهي بحاجة إلى عمليّة جراحيّة ملّحة ولا يدري ماذا يفعل فهو لا يملك شيء. أضافَ أنّ العرس سيؤجّل حتماً إلى أجلٍ غير مسمّى. عند سماع هذا شعرتُ أن كل شيء إنهار من حولي فبالإضافة إلى أسفي على أمّه كنتُ محبطة بسبب تأجيل تتويج حبّنا.
- ما العمل حبيبي؟ أليس هناك من حلّ؟
- بلى... أستطيع تدبير قرض ولكن ليس من المصرف لأنّهم يأخذون وقتاً طويلاً لدراسة الملف... هناك أناس يسلّفون المال ويستطيعون إعطائي المبلغ بسرعة. حالة أمّي لا تنتظر أكثر من ذلك.
- هيّا إذاً... خذ منهم المبلغ الذي تحتاج إليه!
- أجل... ولكن... يريدون ضمانات.
- ماذا تعني؟
- أعني أنهم يريدون التأكدّ أنني أملك شيئاً في حال لم أستطع دفع الأقساط والفوائد.
- آه... ولكنّكَ لا تملك شيئاً... ما العمل؟
- هذا صحيح ولكن... أنتِ لديكِ هذا الكشك ويمكنكِ إنقاذ حياة أمّي...
- لا... لا أستطيع... هذا كل ما لديّ في العالم!
- فهمتُ... إعتقدتُ أنّكِ تحبينني أو على الأقل تحبّين أمّي... وهل سيُبنى زواجنا على عدم ثقة كهذه؟ من الأفضل أن نُنهي علاقتنا الآن...
- لا يا حبيبي... أنا لم أقصد... أعني... أجل يمكنكَ أخذ الكشك كضمانة... أنا أثق بكَ وأريد أن تتحسّن أمّكَ بسرعة.
وهكذا كتبتُ الكشك لمسعود وأصبح بفعل هذا المالك الوحيد لما تركه أبي لي. وفور إمضائي على عقد البيع، لم أرَ خطيبي مجدداً فقد إختفى كليّاً من الوجود. وبعد أن إتصلتُ به من دون جدوى، قصدتُ بيته وقرعتُ بابه ولم يفتح لي أحد، فظننتُ طبعاً أن مكروهاً حصل له وبحثتُ عنه في المستشفيات والعيادات، حتى أن بدأتُ أفهم اللعبة. يا لغبائي! ولشدّة غضبي ويأسي ركضتُ إلى مغفر الشرطة لأقدّم بلاغاً به. قال لي الشرطي:
آنستي... إن كان عقد البيع سليماً لا أرى كيف ولماذا سنوقفه... هذا إذا وجدناه!
ورجعتُ ألى البيت مذلولة، لا أدري كيف أخبر أمي بالذي حصل. وعندما علِمَت بالأمر، كادَت أن تصاب بنوبة. بدأنا بالبكاء سويّاً وبالتحسّر على مصيرنا. وبعد أسبوعين تم إستدعائي إلي مركز الشرطة وعلِمتُ أن البوليس ذهب إلى شقّة مسعود وسألوا الجيران عنه وقيل لهم أنّه إستأجر منزله منذ قترة قصيرة وأنّه لم تكن معه والدته يوماً. وبعدما تحرّوا عنه، إكتشفوا أنّه محتلاً مشهور بالنصب على فتيات مثلي، يأخذ منهن ما يملكون ويرحل. وبما أن دعوات عديدة قد قُدِّمت ضدّه، قرّروا الإنتظار إلى حين تصرّفه بعقاري ليقبضوا عليه.
حزنتُ كثيراً على حظّي السيء وبدأتُ البحث عن طريقة لإيجاد لقمة عيشي.
ولا أدري إن كان هذا بفضل صلواتي أو صلوات أمي أو حتى لأنني إنسانة طيبة وبريئة ولكن لم يمرّ شهر حتى تمّ القبض على الغشاش حين وضعَ إعلاناً لبيع الكشك.
وإعترف بكل شيء وأُرجعَ لي ملكي وقال لي المحقق أنني محظوظة جداّ لأنّه في معظم الحالات يكون السارق أو الناصب قد باع ما أخذه وصرَفَ المال عندما يُعثر عليه.
تعلّمتُ الكثير ممّا حصل لي وتأذّيتُ في صميمي وأسأل نفسي اليوم إن كنتُ سأجرؤ على تصديق رجل بعد الآن وإن كان يحقّ لفتاة مثلي أن تحب.
حاورتها بولا جهشان