كان ذلك أجمل يوم في حياتي، فعندما نظرتُ في المرآة ورأيتُ نفسي في الفستان الأبيض كنتُ متأكّدة أنّني سأكون سعيدة مع خطيبي مجد وأنّنا سنعيش قصّة حبّ طويلة. ولكن كنت بعيدة كلّ البعد عن معرفة ما سيحصل، وأنّ حياتي ستأخذ منعطفًا جذريًّا بعد ساعات قليلة.
فبعد الفرح، إتجهتُ مع مجد إلى الفندق لِنعيش حبّنا مليًّا بعد فترة مواعدة دامَت سنتَين. بقيَ مجد مصرًّا على الاّ يحصل بيننا شيء "إلى حين تصبح علاقتنا شرعيّة" حسب قوله. وبالطبع كنتُ فخورة بأنّ ذلك الشاب الوسيم كان يتمتّع بأخلاق عالية، خاصّة بعدما سمعتُ مرارًا عن آخرين يستفيدون مِن فترة الخطوبة لإقناع خطيباتهم بالإستسلام لهم.
ودخلنا الفراش وأحببنا بعضنا بشغف. ولكن بعد قليل، وضَعَ مجد يده على صدره وبدأ يَئِنّ. وخلتُ أنّه يُمازحني، فطلبتُ منه أن يتوقّف لأنّ الأمر لم يكن مضحكًا، ولكنّي أدركتُ بسرعة أنّه كان فعلًا يُعاني مِن شيء خطير. ووضعتُ قميص نوم عليّ، وركضتُ أدق أبواب النزلاء طالبة النجدة. ولكن عندما أتى طبيب الفندق كان مجد قد فارَقَ الحياة.
وتتالَت الأحداث بسرعة. جاء أهل مجد وأهلي وأُغميَ عليّ ونقلوني إلى غرفة أخرى. ثمّ جاءَت الشرطة والطبيب الشرعيّ. وبدأوا يسألوني أسئلة محرجة عن ظروف موت زوجي، وكان عليّ الدخول بتفاصيل دقيقة وتمنّيتُ أن أكون التي ماتَت بدلًا مِن مجد.وأخذَني أخي الكبير إلى داره، وأعطوني المهدّئات وغصتُ بنوم مليء بالصّوَر والأصوات.
وخلال مراسِم الدّفن، شعرتُ وكأنّ العالم بأسره ضدّي. الكلّ كان يُحدّق بي ليروا العروس القاتلة، المرأة ذات الشهوة المفرطة التي أودَت بحياة عريسها. كانت العائلتان جالستين كلّ منها في جهّة، الواحدة غاضبة والثانية خجلانة، وكنتُ الوحيدة التي بكَت مجد بصدق.
وبالرّغم من أنّ التحقيق أظهرَ أنّ مجد كان يُعاني مِن أمراض قلبيّة، إلا أنّ ذلك لم يُساعد على التخفيف مِن ذنبي في ذهن الناس. يا ليت أنّ زوجي صارحَني بحالته الصحيّة لكنّا قد وجدنا حلًّا وتفادَينا تلك الفاجعة، ولكنّه خافَ، على ما أظنّ، أن أغيرّ رأيي. ولكنّي كنت قبلتُ به كما هو، فحبّي له لم يكن سيتوقّف عند علاقات جنسيّة.
وأصبحتُ المرأة التي يجب تفاديها مِن قبل الرجال، ولكنّي لم أبالِ، فلم أكن أفكّر بأحد سوى مجد. تأثّر أهلي كثيرًا بكلام الناس، فنصحوني بعدم الخروج والبقاء في البيت ريثما تهدأ الأقاويل عنّي. لقد كان الموضوع حسّاسًا جدًّا لنوعيتّه الحميمة، فلو مات زوجي بأيّة طريقة أخرى لكنتُ أمسيت أرملة مفجوعة تستحق التقدير والشقفة.
إضافة إلى اتهامي بأنّني مخلوقة ذات شهيّة جنسيّة مفرطة، ألصقوا بي صفة الفأل البشع، وبدأوا يختلقون عنّي قصّصًا تقول إنني لو تزوّجتُ ثانية سيموت زوجي حتى لو لم ألمسه.
وأصبتُ بالاكتئاب لأنّني لم أحظَ بالدعم الذي يستحقّه وضعي كأرملة، ولم أعد أرغب بشيء. صرتُ كالشبح أطوف في المنزل وكأنّني غير موجودة، لا أفكّر بشيء سوى بحالتي التي لم أتسبّب بها. ولكن أصعب شيء على الإنسان هو إثبات براءته حين يدينه الناس مِن دون دليل. والغريب في الأمر أنّني صرتُ أؤمِن فعلًا بأنّني فأل شرّ لأيّ رجل.
ومضَت حوالي الثلاث سنوات حين رآني نادر عندما جاء لزيارتنا. أتى ذلك الشاب مِن قِبل أبيه الذي كان يعرف والدي منذ زمَن بعيد لِيحمل إليه تحيّاته. وأُغرِم بي نادر على الفور. وحين سأل عنّي، قيل له إنّني ملعونة وخطرة جدًّا ونصحوه الناس بالإبتعاد عنّي.
ولكنّ نادر كان إنسانًا مثقّفًا ومتعلّمًا لا يؤمِن بالخرافات، وأصَّر على التعرّف إليّ. والمحزن أنّ أهلي ذاتهم حاولوا إبعاده عنّي خوفًا عليه. ولكنّ كلّ ذلك لم يُؤثّر عليه بتاتًا.
وعندما دعاني إلى فنجان قهوة، كانت أوّل مرّة أخرج فيها إلى مكان عام منذ وقت طويل. ولاحظ نادر إرتباكي وحاول إلهائي بأخبار طريفة. ولكنّني قلتُ له:
ـ نادر... تبدو شابًا لطيفًا... لا أريدك أن تضيّع وقتكَ معي... عليّ أن أخبركَ بِالتالي...
ـ أعرف كلّ شيء... لستِ مذنبة عمّا حصل لزوجكِ، فهو كان مريضًا وسيموت في أيّ حال.
ـ مات أثناء...
ـ أعلم ذلك أيضًا، ولا بّد أنّها كانت صدمة كبيرة لكِ.
ـ أنتَ أوّل شخص يُفكّر بي... الكلّ تكلّم عن مجد... شكرًا لك.
ـ أريد أن أعيش معكِ... فإلى جانب إعجابي العميق بكِ، أشعر بالحاجة إلى إنقاذكِ مِن نفسكِ أوّلًا ومِن ثمّ مِن الناس... سأثبت للجميع أنّكِ أفضل إمرأة في العالم.
ـ قد تموت...
ـ لماذا؟ أتمتّع بصحّة جيّدة! لن يحصل لي شيءٌ... إقبلي بي وسترَين كيف ستتغيّر حياتكِ.
ـ يا ليت ذلك صحيح...
ـ هل تعتقدين أنّ بإمكانكِ أن تحبّيني يومًا؟"
ولم أجب. إكتفيتُ بالنظر إلى ذلك الشاب الشجاع والمحبّ، وقلتُ في نفسي إنّني سأحبّه حتمًا فكيف لي ألاّ أفعل بعدما بعَثَ فيّ الأمل؟
وحين أراد نادر أن يُقيم لنا فرحًا كبيرًا، منعَه أبي مِن ذلك تجنّبًا لكلام الناس، وأقنعَه بضرورة إبقاء الأمر طيّ الكتمان. وقَبِل نادر تجنّبًا للتصادم مع عائلتي.
وفي يوم زفافنا، كان الجميع صامتًا وكأنّهم لا يُريدون أن يفرحوا خوفًا مِن الذي قد يحصل. ولحسن الحظ أنّ عائلة نادر لم تكن على علم بقصّتي، لأنّهم كانوا يسكنون بعيدًا والاّ كانوا حتمًا قد حاولوا منع زواجنا.
وفي ليلة زفافنا، وعندما وصلنا الفندق، كنتُ بحالة يُرثى لها. كانت عيناي مليئتان بالدّموع ودقّات قلبي متسارعة. حاول نادر تهدئتي، ولكنّي بدأتُ بالبكاء وتوسّلتُ إليه أن يرحل بعيدًا عنّي. عندها قال لي:
ـ إن كنتُ سأموت الليلة فستكون أجمل ميتة! ولكنّني سأظلّ حيًّا وسأحبّكِ طوال حياتي... إسمعي... لقد تأثّرتِ كثيرًا بكلام الناس ولم تستعملي المنطق... الرّجل كان مريضًا وأيّ جهد كان سيقضي عليه... لستِ مذنبة ولا تجلبين الشؤم... لقد أخفى مجد عنكِ حالته فهو الذي سبّب موته بنفسه... تعالي وأجلسي بقربي..."
وبالطبع، لم يمت نادر، بل تعرّفتُ بين ذراعَيه إلى الحبّ الحقيقيّ.
وأنجبنا ثلاثة أولاد، ونحن نعيش اليوم بِهناء ولم يعد شيء يُخيفني بعد أن أدركتُ أنّني كنتُ سأعيش تعيسة ووحيدة طوال حياتي بسبب معتقدات سخيفة وكلام فارغ.
حاورتها بولا جهشان