أخذَت حياتي منعطفاً مفاجىءً ومصيريّاً عندما واجهني يوسف خطيبي بحقيقة مفجعة. كنتُ أعرفه منذ سنين وكان قد أصبح فرداً من العائلة خاصة بعد طلاق والديّ وإخترتُ أن أبقى مع أمّي لأنّ أبي لم يكن رجلاً صالحاً. فبات يوسف يتردّد إلى بيتنا ويبيتُ أحياناً عندنا وكان وجوده معنا مطمئناً. وبعد فترة أصبح من البديهي أن نتزوّج ونقضي باقي حياتنا سويّاً. وبينما كنتُ أحضّر للزفاف طلبَ خطيبي أن نتلاقى لنتكلّم. لم يخطر على بالي أبداً ما كنتُ سأسمعه منه:
- ياسمينا... قبل أن أبدأ أريدكِ أن تتأكدي أنني أقدّركِ وأحترمكِ كثيراً ولا دخل لكِ بما حصل...
- يوسف! تُخيفني! ما الأمر؟
- لا أستطيع أن أتزوّجكِ... أنا آسف...
- ماذا؟؟؟ وتقول لي هذا الآن؟ وبعد كل هذه السنين؟ لماذا؟ ما الذي حصل؟ نحن متحبّان ومتّفقان على كل شيء.
- أنا... أنا أحبّ إمرأة أخرى...
- من هي؟ أريد أن أعلم!
- سأقول لكِ من هي... على كل الأحوال ستعلمين بالأمر... المرأة الأخرى هي أمّكِ.
-كفى مزاحاً! لستُ بحالة تسمح لي أن أضحك. من هي تلك التي سلبتكَ منّي؟
- قلتُ لكِ من هي... أمّكِ."
ونظرتُ إليه بإمعان وعلمتُ أنّه يقول الحقيقة. بماذا شعرتُ في تلك اللحظة؟ بإحساس عميق بالوحدة وبمرارة الخيانة. لم يعد يهمنّي أنّه أحبّ غيري بقدر الألم الذي ولّده خبث ومكر أقرب إنسانة لي. بكيتُ كالطفلة وصرختُ به:
- منذ متى؟
- منذ أكثر من سنة.
- ولكنّها تكبركَ بأكثر من عشرين سنة!
- هي الوحيدة التي تفهمني وتعرف كيف تعاملني. لستُ أقول أنّكِ أسأتِ التعامل معي ولكن معها كل شيء مختلف. أنا آسف جداً..."
حاولتُ إستيعاب الخبر ولكن ما من أحد يستطيع تقبلّ هذا. ركضتُ إلى البيت لأقول لأمّي رأيي بها ولكنني وجدتُ أمامي إنسانة باردة وقاسية لا تأبه لغير نفسها. لم تنكر شيء بل قالت لي بكل هدوء:
- ليس ذنبي إن لم تعرفي كيف تحبّين رجلكِ. الحياة غابة كبيرة يفوز فيها الأقوى. ليكن هذا درس لكِ... لطالما كنتِ ضعيفة... تماماً مثل أبيكِ... عليكِ تقبّل الوضع وإن لم تستطيعي فعل هذا فعليكِ الرحيل... هذا بيتي وأفعل ما أشاء به."
ثم أخذَت حقيبة يدها وخرجَت من المنزل على الأرجح لتلاقي يوسف وتخبره بما حصل. أمّا أنا فدخلتُ غرفتها وفتحتُ خزانتها وبواسطة مقصّ قطّعتُ جميع ثيابها. كانت هذه الطريقة الوحيدة التي وجدتُها حينها لأنتقم من التي سرقَت منّي خطيبي.
وقررتُ طبعاً ترك المنزل فكيف لي أن أبقى وأتفرّج عليهما وهما ينعمان سويّاً بحبّ كان مخصّصاً لي. وذهبتُ عند حنين صديقة لي كانت تسكن لوحدها بعد أن إنتقل باقي أفراد عائلتها إلى كندا للعيش هناك. أمّا هي فلم تشأ مرافقتهم قبل أن تنهي دراساتها العليا.
وعند حنين إستطعتُ إطلاق العنان لحزني ويأسي فبدأتُ آكل من دون وعيّ وكأن الطعام بإستطاعته ملء الفراغ الذي ولّدته هذه الخيانة العظمى. وتَخِنتُ بشكل رهيب وكلّما صعدتُ على الميزان زاد يأسي وكبِرَت حاجتي لأملئ بطني. وبعد أن تخطيتُ المئة كلغ إقتنعتُ أخيراً أنّ عليّ رؤية طبيب.
فأخذتني حنين إلى صديق لها يعالج الإضطرابات النفسيّة التي تؤدي إلى السمنة وأخبرتُه كل شيء. بدأتُ بالعلاقة التي كانت بين أمّي وأبي وصراعهم الدائم على إدارة البيت وتربيتي ثم برحيل والدي وبقائي مع إمرأة تغار منّي إلى درجة سرقة حبيبي منّي. وتابعتُ جلسات عديدة وبدأتُ أرى حياتي بمنظار آخر ما جعلني أخفّف من أكلي بعدما فهمتُ سبب الفراغ الذي في داخلي.
وفي هذه الثناء تزوّجت أمّي من يوسف وعاشا في منزلنا. ولكن بعد فترة علمتُ أنّ حبّهم بدأ يتأثّر بمزاج والدتي وطلباتها وصراخها الدائم.
وبعد ستة أشهر على زواجهما تطلّقا. لا أخفي أنّ هذا النبأ أفرحني كثيراً فلقد نالا جزائهما على تعذبيي. وإرتحتُ كثيراً لدرجة أنني فقدتُ وزناً كبيراً وبدأتُ أذهب إلى النادي الرياضي حيث فوجئتُ برؤية أمّي هناك. لم أصدّق عينيّ!
ركضتُ نحوها وصرختُ بها:
- ماذا تفعلين هنا؟!؟
- أمارس الرياضة. هذا مكان مفتوح للجميع ويحقّ لأيّ أحد أن يتواجد فيه.
- إلا لكِ. لا أريدكِ هنا أفهمتِ؟
- لما تصرخين هكذا؟ ماذا سيقول عنّا ذلك المدرّب الوسيم؟ أووو... أنا آسفة... هل تريدينه لنفسكِ؟ يجب أن تقولي لي من تريدين كي لا آخذه منكِ... أنتِ تعلمين أن الرجال يفضلونني عليكِ.
- أنتِ إنسانة مريضة! أنا التي ستذهب... أنتِ إبقي هنا لوحدكِ فمصيركِ هو الوحدة.
- هيّا ... أهربي...هروبكِ هذا هو إعتراف بالهزيمة! أرأيتِ... أنا أفوز دائماً!"
نظرتُ إليها بإشمئزاز وحزن في آن واحد لأنني أسفتُ لأن تكون أمّ بهذا المستوى من الأنانيّة والغيرة تجاه إبنتها. غادرتُ النادي والمدينة كلّها لأنّ حنين لحِقَت أهلها في المهجر وأخذتُ شقّة صغيرة لأكمّل حياتي بعيدة عنها. وبعد فترة قرّرتُ الإتصال بأبي فلم يعد لي سواه في الدنيا. تواعدنا في مقهى صغير وحين دخَلَ المكان ورغم أنّه لم يتجاوز الخمسين من عمره رأيتُ رجلاً عجوزاً لونه مخطوف بالكاد يستطيع التنقّل. وحين سألته عن سبب تردّي صحّته أجابني:
- الهمّ وقلّة الإمكانيّات الماديّة... لم أكن أريد أن تعرفي ولكن بعد الذي أخبرتيني إيّاه عبر الهاتف... أمّكِ أدخلتني بديون كبيرة جدّاً فلم يكن يُشبعها شيء... مزاجها وصراخها الدائم وطلباتها المتزايدة دفعوني إلى الهروب وترككِ رغماً عنّي صدّقيني ولكن كان الوضع لا يطاق! فكّرتُ بأخذكِ معي ولكن كيف كنتُ سأهتمّ بكِ وأنا أركض كل النهار لجني المال لتسديد ديوني. إنظري إليّ... أنا شبه إنسان الآن... أعذريني حبيبتي لأنّني لم أجد الشجاعة الكافية لأضع حدّاً لأمّكِ.
عانقته مطوّلاً وهمستُ في أذنه: "كم إشتقتُ إليكَ... سأهتمّ بكَ وسترى كيف ستستعيد عافيتكَ".
وإنتقلَ والدي للعيش معي ويوم بعد يوم بدأ يتحسّن بفضل حناني والرعاية الطبيّة الملائمة. ولا أدري كيف ولكن علِمَت أمّي بموضوع أبي فإتصلَت بي عبر الهاتف وقالَت لي بصوت ناعم وحنون:
- إحترسي منه... إنّه إنسان مضلّل... أنسيتي أنّه تركنا ورحل؟ إرميه خارجاً! لا أحد يحبّكِ سوايَ فأنا أمّكِ... حملتُكِ في أحشائي تسعة أشهر... أنتِ حبيبتي..."
ولكن لم تنجح هذه المرّة خطّة والدتي. قبل أن أقفلَ الخط أجبتُها:
- أمّي التي حملَتني في بطنها ماتت منذ سنين... قبل أن تتحوّل إلى وحش وتخربَ حياة زوجها وتسرقَ خطيب إبنتها. أمّي ماتت يا سيّدتي... وأرجو أن يرحمها الله".
حاورتها بولا جهشان