عمّي هو بطَلي!

إن كنتُ اليوم سيّدة سعيدة ومُتّزنة، فالفضل يعودُ إلى عمّي يوسف. ولا يمرُّ يوم مِن دون أن أطلُب الرحمة لروحه الجميلة. فلولاه، الله وحده يعلَم ما كان سيحدثُ لي وأين كان سينتهي المطاف بي. وأستطيع الجزم أنّ الأبطال موجودون بالفعل وليس فقط في الروايات والأفلام. إليكم قصّتي:

حين تزوَّجَ والدايَ، كانا مُتحابَّين أو على الأقل هذا ما اعتقداه، فعاشا أيّامًا سعيدة سويًّا لكن سرعان ما تبدَّلَ الوضع. إلا أنّ مجيئي إلى الدنيا، بطريق الخطأ، أرجأ المحتوم سنوات معدودة. فالإنجاب يا أعزّائي، لا يحلّ يومًا المشاكل الزوجيّة، بل يؤجّل فقط الصدام ويخلقُ التعاسة للمولود المسكين الذي سيتحمّل التداعيات لوقت طويل. وهذا ما حصَلَ لي. فقد بدأ الصراخ وتلَته الشتائم، وكنتُ أنام وأستفيق على مناخ عائليّ سامّ، إلى حين قرّرَت والدتي أنّ مِن الأفضل أن تبحَث عن سعادتها في مكان آخَر فرحلَت ذات مساء. حمَدَ أبي ربّه وواساني قائلاً:

 

- ستكون حياتنا أفضَل بعد اليوم، لا تخافي يا صغيرتي.

 

وأنا إتّكَلت عليه فهو لطالما وفى بوعوده لي.

بقيَت أمّي تسألُ عن أخباري عن بُعد، ولقد رأيتُها ثلاث مرّات فقط قَبل أن تسافِر مع زوجها الجديد إلى بلَد آخَر، وبكيتُ كثيرًا لأنّني شعرتُ أنّني لن أراها بعد ذلك. كنتُ وأبي قد انتقَلنا للعَيش عند جدّتي وعمّي يوسف، وأعترفُ أنّها كانت أجمَل أيّامي، فالجميع أحاطَني بحبّه واهتمامه. ثمّ وجَدَ والدي عمَلاً في أحَد بلدان الخليج العربيّ وكذلك عمّي، فبقيتُ مع جدّتي الحبيبة. مرَّت السنوات بهدوء... الهدوء ما قَبل العاصفة.

فسرعان ما تتالَت الأحداث وكنتُ قد بلغتُ العاشرة مِن عمري حين بدأَت تصرّفات أبي تتغيّر. فهو كان يزورُنا باستمرار وخاصّة خلال الأعياد ويبقى أيّامًا معنا. لكنّني لاحظتُ وجدّتي أنّه لَم يكن كعادته بل وكأنّه شخص آخَر. كانت أشياء صغيرة لكن عديدة، لِذا اتّصلَت جدّتي بعمّي الذي كان لا يزال يعمَل هناك وسألَته عمّا يجري، لكنّه طمأنَها بأنّ ما يُعاني منه أخوه ليس سوى بعض الارهاق. صدّقناه، فكلّ شيء جائز.

بُعَيد ذلك، أُصيبَت جدّتي بأزمة قلبيّة ثمّ أخرى ثمّ فارقَت الحياة. هي كانت تُعاني مِن قلبها منذ سنوات فلَم يتفاجأ أحَد سوايَ، فهي كانت أمّي البديلة. جاءَ ولَداها ليحضرا الدفن، وبقيَ أبي معي بعد أن قرَّرَ أن يترك عمَله في الغربة مِن أجلي. كان ذلك الخبَر بمثابة بلسَم على الجرح الذي خلّفَه موت جدّتي، فاعتقدتُ أنّني وجدتُ أخيرًا توازنًا في حياتي المُتقلِّبة.

عشتُ وأبي لوحدنا وكنت قد تعلّمتُ كيف أطهو وأقومُ بالأعمال المنزليّة مِن جدّتي، فلعبتُ دور سيّدة البيت بعد عودتي يوميًّا مِن المدرسة. وبالرغم مِن التعب كنتُ سعيدة، إلى حين بدأ أبي يفقدُ عقله. كان ينسى أمورًا بديهيّة أو ينقلبُ مزاجه فجأة أو يتركَ البيت ليعودَ بعد ساعات طويلة ضائعًا ومُشوّشًا. أطلعتُ عمّي يوسف عمّا يجري، وهو جاءَ بسرعة ليرى ما يحصلُ لأخيه. وبعد أن رأى أطباء كثر أبي، تمّ الإجماع على أنّ عليه دخول مصحّة عقليّة. يا إلهي... ماذا فعلتُ ليحصل كلّ ذلك؟!؟ ألا يحقّ لي أنّ أعيشَ كسائر الأولاد؟

 

لَم يكن بمقدور عمّي أن يترك عمله، فمِن أين يأتي لي بالمال لأتعلّم وأكبُر؟ لِذا لَم يتبقَّ سوى الاتصال بأمّي حيث هي. تطلَّبَ إيجادها مجهودًا كبيرًا، وبعد أن أطلعَها عمّي على المُستجدّات وأنّ لا مكان لدَيّ سوى معها، هي قبِلَت أخيرًا أن تقومَ بواجباتها تجاهي. تمَّ تسفيري إليها بعد أن عانقتُ عمّي في المطار باكية ورجَوتُه عدَم نسياني على الاطلاق بل مُتابعة أخباري عن كثب. فلا تنسوا أنّ أمّي كانت إمرأة غريبة بالنسبة لي، وأنّها تزوّجَت وأنجبَت وتعيشُ في بلد تختلفُ عاداته عن بلدنا. تغييرٌ جذريّ لفتاة في سنّي، لكن ما عساني أفعلَ؟ طمأنّني عمّي يوسف، وعلِمتُ مِن الدمع الذي ملأ عَينَيه أنّه سيكون موجودًا على الدوام مِن أجلي.

لقائي بأمّي كان جافًا مِن جهتها، وشعرتُ على الفور أنها كالغريبة، لكنّني أمِلتُ أن تتغيّر الأحوال مع الوقت. إلا أنّها كانت مُنهمكة بولدَيها الصغار، وتُعطيهما كلّ اهتمامها وحنانها. أمّا بالنسبة لزوجها، فكان مِن الواضح أنّه لا يُحبّذُ وجودي في بيته. صبرتُ بينما فعلتُ جهدي لأصبَح عنصرًا مِن تلك العائلة، بالمُساعدة في الأعمال المنزليّة ومُلاعبة أخوَيَّ الصغار. لكنّ ذلك لَم يكن كافيًا فلقد قرَّرَت التي إسمها أمّي أن تُبعدَني عنها، فأرسلَتني بعد فترة إلى مؤسّسة تُعنى بالأولاد ذوي الاحتياجات الخاصّة. ماذا؟!؟ لَم أكن أشكو مِن شيء على الاطلاق بل كنتُ أذكى مِن أولاد سنّي! كيف استطاعَت والدتي إدخالي تلك المؤسّسة؟ بِمال زوجها طبعًا ومعارفه العديدة. أنا متأكِّدة مِن أنّني كنتُ جزءًا مِن صفقة "خدمات" تبادلَها زوج أمّي مع القيّمين على المؤسّسة.

في بادئ الأمر خلتُ أنّ ذلك المكان كان بمثابة مدرسة داخليّة وقبِلتُ على مضض أن ألتحِقَ بها، ففي آخِر المطاف لَم يكن رأيي مطلوبًا أو موافقتي. وفور وصولي، فهمتُ مِن زملائي أنّني في المكان غير المُناسب، فكلّهم كانوا "مُميّزين" مِن حيث عقلهم أو جسدهم أو تصرّفاتهم. بدأتُ أصرُخ طالبة العودة إلى أمّي، لكن ما مِن أحَد سمِعَ طلَبي أو عمِلَ به، بل العكس. فقد قاموا بتهديدي بالعقاب الصارم إن لَم أنصَع للقوانين والجداوِل، وأُلقيَ بي في غرفة مُظلمة برفقة فتاة ذات أطوار غريبة. خفتُ منها كثيرًا لكن كما اكتشفتُ لاحقًا، كانت تلك الفتاة ستصبح صديقة مُمتازة. فالإنسان يخافُ الذين هم مُختلفين عنه، ولا يرى روحهم الجميلة كما أنا فعلتُ خلال مكوثي في المؤسّسة. إلا أنّ نفسيّتي كانت مُحبطة، إذ أنّ المسؤولين لَم يعلّموني شيئًا سوى بعض الأشغال اليدويّة وعاملوني بقساوة وجفاف وقلّة إنسانيّة. إضافة إلى ذلك، هم كانوا يُعطوني حبوبًا مُهدّئة كلّما علا صوتي وطالبتُ بالرحيل.

لَم أرَ أمّي مُجدّدًا، فهي كانت قد تخلّصَت منيّ. عمّي بقيَ يسألُ عن أخباري بانتظام، لكنّه لاحَظَ أنّني لَم أكن موجودة كلّما هو اتّصَلَ بأمّي أو قيلَ له إنّني مشغولة. ولأنّه لَم يكن غبيًّا على الاطلاق، فهِمَ أنّ شيئًا ما يحصل، فانتظرَ حتّى يتمكّن مِن أخذ إجازة ليُسافِر ويراني شخصيًّا.

وصَلَ عمّي يوسف بيت والدتي مساءً ولَم يجِدني هناك. حاولَت أمّي وزوجها إختلاق الأكاذيب لكن مِن دون نتيجة، فأمسَكَ يوسف زوج أمّي مِن رقبته وهدّده بقتله إن لَم يقُل له أين أنا. علا الصراخ والبكاء، ووسط تلك الجلبة إعترفَ الماكِر أنّهما أرسلاني إلى المؤسّسة. ضرَبَ عمّي زوج أمّي حتى أُغمِيَ عليه، وركَضَ يدقُّ باب تلك المؤسّسة ليلاً إلى أنّ فتحوا له. حدَثَ الشيء نفسه مع المُدير الذي كان يبيتُ في جناح خاصّ به، فهدّدَه عمّي بجلَب الشرطة له إذ أنّني أُدخِلتُ مِن دون سبب وجيه، وما هو أهمّ مِن دون تقرير طبّيّ يؤكِّد حالتي الخاصّة ويُبرّر وجودي في المؤسّسة. مرّة أخرى، هدّدَ يوسف بأن يبرِحَ الرجُل ضربًا. وأمام إصراره وجدّيّته، رضَخَ المُدير لطلبه أخيرًا.

 

كنتُ غارِقة في النوم حين فُتِحَ باب غرفتي ورأيتُ عمّي يوسف واقفًا أمامي، وخلتُ نفسي أحلُم فابتسَمتُ له. لكنّه قالَ لي:

 

- إحزمي أمتعتكِ، سنرحل في الحال.

 

ثمّ حملَني وخرَجَ بي إلى سيّارة أجرة كانت بانتظارنا. لَم نغادِر تلك البلاد فورًا، بل فقط بعد أن وقّعَت والدتي على التنازل عنّي لعمّي وعدَم المُطالبة بي على الاطلاق. عندها فقط عدنا إلى منزل جدّتي. لَم نكن قد تبادَلنا أيّ حديث عمّا حصَل، فكان مِن الواضح أنّ عمّي خلّصَني مِن حياة لا مُستقبل لها ولا أمَل. وهو مكثَ معي بضع أيّام ثمّ وضعَني عند سيّدة خمسينيّة طالبًا منها أن تُعاملني جيّدًا، وهذا ما حصَلَ. بعد أشهر قليلة رجعَ يوسف بصورة نهائيّة إلى البلَد، بعد أن وجَدَ عمَلاً في الفرع المحلّيّ للشركة التي يعمَل فيها. ومنذ ذلك اليوم عشنا معًا وكبرتُ تحت جناحَيه ورعايته ومحبّته. هو صارَ أبي وأمّي وأخي وأختي وكلّ عالَمي، ولَم يخذلني يومًا بل بقيَ عازبًا مِن أجلي. ماتَ والدي في المصحّة بعد سنوات، وكنتُ أزورُه وعمّي دائمًا إلى أنّه لَم يعُد يتعرّف علينا بسبب مرضه. وحين تزوّجتُ، طلبتُ مِن الذي اختارَه قلبي أن يعتبِر عمّي أبي ويتصرّف معه على ذلك الأساس. وهكذا لَم نتركه حين كبُرَ وكنّا معه يوم فارَقَ الحياة. بطلٌ حقًّا وإنسان عظيم لا مثيل له!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button