عائلة شريرة

حضَنَني أهل خطيبتي يوم ماتَ والِدي، وشعرتُ بالفعل أنّني لن أكون وحيدًا يوم ترحَل أمّي الحبيبة. فالجدير بالذكر أنّني ولَد وحيد وتربّيتُ بالدلال، مُحاطًا بالاهتمام الذي يلقاه عادةً الأولاد في حالتي. لكنّ والدَيّ أنجَباني مُتأخِّرًا كثيرًا، فسرعان ما باتا كبيرَين في السنّ وبدأ المرَض يأكلُ جسَدهما. بقيَت لي أمّي لكنّها كانت في حالة صحّيّة هشّة، وقال لي طبيبها إنّ لا علاج لها سوى الأدوية التي تأخذُها.

تمارا خطيبتي كانت أكثر منّي حظًّا، إذ أنّها إبنة عائلة كبيرة ومُلتحِمة، فإن حصَلَ شيء لأحَد أفرادها، ركَضَ الجميع لمُساعدته وتجنّدوا بالتداور مِن أجله. كَم حسدتُهم على ما يملكونه بالرغم مِن القلّة التي يعيشون بها. فالعائلة هي كنز لا يُقّدَر بالفعل.

ومع موت والِدي، تغيّرَت مشاريع زواجي المُقبِل، إذ كان مُقرّرًا أن أعيشَ مع تمارا لوحدنا في الشقّة التي اشترَيتُها. فلَم أعُد قادرًا على ترك أمّي المريضة لوحدها ووجَبَ علينا العَيش معها، أو بالتحديد أنّ تعيشَ هي معنا. قبِلَت خطيبتي بكلّ طيبة قلب، مُضيفةً أنّ أمّي هي بمثابة أمّها وأنّها ستهتمّ بها كما يجب. شكرتُ ربّي على هكذا صبيّة، وتأمَّلتُ بمستقبل جميل معها.

مُستقبل جميل؟!؟

فاتّضَحَ أنّ حياتي مع تمارا لن تكون كما تصوَّتُها. كيف لَم أرَ في تمارا إلا ما هو جميل؟ هل لأنّني كنتُ مُتيّمًا بها أم لأنّها أخفَت عنّي ببراعة حقيقتها السوداء؟ ربّما مزيج مِن الاثنَين. على كلّ الأحوال، وقَعَ الضرَر ولا منفعة مِن البحث عن المُبرِّرات أو التفسيرات.

تزوّجنا وسط عدَد صغير مِن المدعوّين كانوا مُعظمهم مِن عائلة تمارا، ورحنا لبضعة أيّام إلى فندق جميل في الجبَل. ثمّ عُدنا إلى البيت حيث كانت أمّي بانتظارنا. وبدأَت حياتنا الزوجيّة.

لكن بعد حوالي الشهر قالَت لي زوجتي:

 

ـ أودّ جَلب أمّي إلى هنا.

 

ـ خَير؟ هل تُعاني حماتي مِن خطَب ما؟

 

ـ أبدًا... لكنّني أشعرُ بالوحدة مِن دونها.

 

ـ لدَيكِ أمّي.

 

ـ أجل، لكنّها ليست والدتي. أنتَ لا تفهَم... قضَيتُ حياتي بين ذويّ وانسلَختُ عنهم فجأة. لن يطولَ مكوثها معنا، فقط لفترة قصيرة.

 

ـ حسنًا حبيبتي، البيت كبير ويتّسِع لأمّي وأمّكِ.

 

جاءَت حماتي... ومعها أخت تمارا الصغرى! تفاجأتُ كثيرًا إلا أنّني لَم أظهر لهما اندهاشي، بل سألتُ زوجتي على انفراد عن الأمر فأجابَت: "حين علِمتَ أنّ أمّها ستترك البيت، بدأَت أختي بالبكاء ولَم تهدأ إلا حين وعدتُها بأنّ بإمكانها مُرافقة أمّها".

سكتُّ لأنّ الأمر كان مؤقتًا.

على كلّ الأحوال، فرِحَت والدتي بالقادمتَين لأنّها تحبُّ الناس، ورأت أنّها ستتسلّى مع أمّ تمارا وابنتها المُراهقة. وهكذا صرتُ أذهبُ إلى العمَل وبالي مُطمئنّ، وأعودُ لأجِد زوجة مُحبّة وأمّ مُرتاحة والبيت نظيفًا ومُرتّبًا تفحُّ منه رائحة المأكولات الشهيّة. ألَم يكن ذلك حُلم كلّ رجُل؟

لكنّ الأمور بدأت تتبدّل بسرعة وبطريقة خفيّة ومُستتِرة، فاختفَت البسمة عن وجه امّي. وبالطبع ردَدتُ الأمر إلى صحّتها الهشّة وأوجاعها التي كانت تُراودُها باستمرار. سألتُها إن كان شيء أو أحَد يُزعجُها فأجابَت بالنفي بل أكّدَت لي أنّها سعيدة للغاية معنا. لكنّ شيئًا آخَر لفَت انتباهي هو نحالتها، فقد بدَت لي وكأنّها خسِرَت بعض الوزن وفي فترة قصيرة، مع أنّني كنتُ أراها تأكل بشهيّة حين نتناوَل وجبة العشاء سويًّا مع باقي سكّان البيت. أخذتُ موعدًا لها مع الطبيب، إلا أنّ والدتي رفضَت الذهاب إلى العيادة، فتركتُها وشأنها مُصمِّمًا على اصطحابها إلى الأخصّائيّ في وقت لاحِق.

تكلّمتُ وتمارا عن وضع أمّي وهي أعربَت عن ارتياحها، إذ أنّها أكّدَت لي أنّ والدتي هي بحالة جيّدة واقترحَت أنّها قد تكون تشتاقُ إليّ وتريدُ اهتمامًا ودلَعًا أكثر مِن قِبَلي، فوجدتُ نظريّتها مُقنِعة. وهكذا زدتُ إهتمامًا بأمّي وجلبتُ لها هديّة جميلة أعجبَتها. لكنّها بقيَت على حالها. أوصَيتُ أخت زوجتي بها على أمَل أنّ شباب تلك المُراهقة سيكون مُفيدًا لها، وحاولتُ التركيز على عروستي الحسناء، فما ذنبها إن كانت حماتها إمرأة كبيرة في السنّ ومريضة؟

ثمّ علِمتُ بفرَح لا يوصَف أنّ تمارا حامِل، فأخذتُ الجميع إلى مطعم جميل للاحتفال، وبدأنا نتكهّن عن جنس الجنين ونعِدُّ للتحضيرات اللازمة في هكذا مُناسبة. كَم كانت أيّامي جميلة آنذاك!

لكن في أحَد الأيّام، قالَت لي أمّي إنّها تودّ العودة إلى بيتها. تفاجأتُ بكلامها، فسألتُها مئة سؤال مِن دون جدوى. فكان جوابها واحد: إنّها تُريدُ العودة إلى المكان التي قضَت فيه أيّامًا جميلة مع زوجها الحبيب. لَم يُعجِبني كلامها فطلبتُ منها أن تتريّث، فمَن سيهتمّ بها هناك وهي لوحدها؟ ماذا لو حدَثَ لها مكروه وساءَت حالتها الصحّيّة بصورة مُفاجئة، ووجَبَ نقلها بسرعة إلى المشفى؟ قبِلَت والدتي البقاء معنا لفترة لكنّها بقيَت مُصِرّة على الرحيل.

في الفترة نفسها، إستطَعتُ أخذ أمّي أخيرًا إلى الطبيب الذي بعد فحصها، طلَبَ لها تحاليل شاملة، فهو لَم يكن مُطمئنًّا على حالتها. بعد بضعة أيّام، إتّصَلَ بي الأخصّائيّ ليقول لي إنّ صحّة والدتي تراجعَت بشكل مُفاجئ وجذريّ وإنّ عليّ التحضّر للأسوأ. يا إلهي! لَم أكن مُستعدًّا أبدًا أن أخسرَ أمّي الحبيبة، وصلَّيتُ أن يتسنّى لها على الأقلّ رؤية حفيدها أو حفيدتها!

أطلَعتُ تمارا على نتائج التحاليل طالبًا منها زيادة إهتمامها بوالدتي، وأوصَيتُ حماتي بالترفيه عنها أيضًا وكذلك إبنتها المُراهقة. كلّهنّ تجنّدنَ للتقويّة مِن معنويّات أمّي وشكرتهنّ على ذلك. وشكرتُ ربّي ضمنيًّا على وجود ضيفتَينا.

لكنّ الطبيب خابرَني بعد أيّام مُبديًا قلقَه على أمّي:

 

ـ سيّدي، لقد راجعتُ التحاليل وقارنتُها بتحاليل قديمة أجرَيناها لوالدتكَ يوم صارَت مريضة لدَيّ، وأرى تشابهًا كبيرًا بينها.

 

ـ لَم أفهَم قصدكَ.

 

ـ أرى أنّ والدتكَ لا تأخذ أدويتها على الاطلاق! فلقد عُدنا لنقطة الصفر.

 

ـ هذا غير مُمكِن، فأنا أراها تأخذُها في الصباح قَبل أن أذهب إلى عمَلي حين نفطرُ سويًّا، وفي المساء أثناء العشاء أو بعده!

 

ـ شيء مُحيِّر بالفعل. على كلّ الأحوال، أريدُ رؤيتها مُجدّدًا في القريب العاجل، فإذا بقيَت على هذا الحال، لن يطول عمرها!

 

إلى جانب خوفي وحزني، شعرتُ بإنزعاج لَم أستطِع تحديده وبقيتُ على هذا الحال لمدّة يومَين أو ثلاثة، فشيء ما كان يقول لي أمرًا بقيَ غامضًا. ومِن دون أن أعلَم السبب، قرّرتُ أخذ إجازة مِن عمَلي والبقاء في البيت. على كلّ الأحوال، كان عليّ مواصلة إقناع أمّي بالبقاء عندنا، بعد أن أصرَّت أن تعود لبيتها مرّة ثانية لِـ "تموت في دارها" كما قالَت.

مكوثي في البيت كان أفضل شيء فعلتُه في حياتي كلّها، كما إتّضَحَ لاحقًا، وأشكرُ ذلك الصوت الخفيّ في رأسي الذي أسمَيتُه لاحقًا "جرَس الانذار". فبِبقائي في المنزل، تمكنتُ لأوّل مرّة مِن مُراقبة "الدنياميكيّة" بين نساء البيت. فحتّى ذلك الحين كنتُ أتصوّر فقط ما يدورُ، واستنتجتُ أنّ الأمور تجري كما في الأفلام، أي بتناغُم وفرَح. إلا أنّني لمَستُ جوًّا محقونًا لكن بطريقة غير ملموسة بالرغم مِن الكلام المعسول الذي كانت زوجتي وأمّها توجّهانه لأمّي. كانت الكلمات لطيفة وطيّبة، لكنّ النغمة كانت مُختلفة وكذلك النظرات. فحتّى لو تنبَّهَ الشخص على تصرّفاته، لا بدّ أن يُخطئ ولو مرّة واحدة على مرّ الوقت. فكان مِن الواضح أنّ تمارا وأمّها لا تُحبّان أمّي، بل العكس، وردَدته إلى أمر شِبه طبيعيّ بين كنّة وحماتها. لكن ما شعرتُ به كان يتخطّى العدائيّة بين الزوجة وأمّ الزوج. لا... كان هناك شيء آخَر. لكن ما هو؟

في اليوم التالي لإجازتي، إقترَحتُ على تمارا أخذ أمّي وأمّها وأختها إلى المُجمّع التجاريّ، تحت حجّة صداع حاد أصِبتُ به فجأة. قلتُ لها إنّ رأسي سينفجِر وإنّني بحاجة لهدوء تام. وحين صارَ البيت خاليًا، جلستُ على أريكة الصالون لأُفكّر. كنتُ أعلَم أنّ هناك ما عليّ إكتشافه، لكن ما هو؟ فكّرتُ بذلك طوال النهار وخطَرَ ببالي فجأة أنّ الجواب قد يكون داخل البيت. لِذا بدأتُ حملة تفتيش في كلّ الغرَف والأماكن بحثًا عن... عن أيّ شيء!

وما وجدتُه كان فظيعًا! فحين دخلتُ غرفة أخت تمارا وفتحتُ الأدارج الواحِد تلوَ الآخَر، ظهَرَت أمامي علَب لا تُحصى مِن الأدوية، وكلّها مُخصّصة إمّا لوجَع المعِدة أو الرأس أو المفاصِل. لماذا فتاة صبيّة بكامِل صحّتها تستعمِل هذه الأدوية وبكثرة؟ وفي قعر الدرج المذكور، كانت هناك بودرة بيضاء، فذقتُها وتبيّنَ لي أنّها بودرة أدوية.

وفهمتُ كلّ شيء!

ركَضتُ إلى غرفة أمّي، وأخذتُ كلّ أدويتها وقارنتُ شكلها ولونها مع الأدوية التي وجَدتُها في غرفة المُراهقة... وكانت مُطابقة بالشكل واللون!

حين عادَت النساء مِن مشوارهنَّ، طلبتُ رؤية زوجتي على إنفراد:

 

ـ تمارا... أنظري ما وجدتُه في غرفة أختكِ... بالتحديد في درج خزانتها.

 

ـ كيف تُفتِّش في غرفة أختي؟!؟ ألا تخجَل مِن نفسكَ؟ ألا تعلَم أنّ هناك حُرمة عليكَ إحترامها؟

 

ـ هذا بيتي! غريب... لَم تسألي لِما هذه الأدوية؟ إنّها مُراهقة، فلماذا تأخذُ هذا الكمّ مِن الأقراص؟ فأنا أراها بصحّة مُمتازة!

 

ـ المسكينة تُعاني مِن أمراض كثيرة وخطيرة، لكنّنا لا نتكلم عن الأمر حفاظًا على سُمعتها.

 

ـ هذه الأقراص ليست لأمراض مُعيّنة أو خطيرة، بل لأوجاع عابِرة وخفيفة. ماذا تخفين عنّي يا تمارا؟ وهل أنتِ مُتواطئة؟

 

ـ أنتَ مجنون! لستُ مُتواطئة بشيء! فقد تكون أختي هي التي تُبَدِّل الأقراص لأمّكَ!

 

ـ أنا لَم أقُل مُتواطئة بماذا، ولَم أُحدِّد سبب وجود هذه الأقراص يا تمارا. وهذا إعتراف مُباشَر يا عزيزتي.

 

ـ لا! إسمَع، أنا حامِل بطفلكَ ولا يجوزُ أن تُعاملَني هكذا!

 

ـ ولا يجوزُ أن تُحاولي قتل أمّي! لا تستعملي جنيني ضدّي، فلن تنجَحي. قولي لي، ما الذي فعلَته والدتي لكم ليصير موتها هو هدفكنّ؟

 

ـ أختي تُعاني مِن صحّة رديئة وحَسب! ليس هناك مِن شيء آخَر!

 

ـ ستذهبين وأمّكِ وأختكِ إلى بيتكم، وإذا تحسّنَت تحاليل أمّي أثناء غيابكنّ بعد أن أُعطيها بنفسي دواءها، إنتظري منّي أوراق الطلاق. ومَن يدري، قد أشتكي عليكنّ لدى الشرطة، وإن اتّضَحَ أنكنّ تُرِدنَ موت أمّي فسيكون معكنّ كلام آخَر...

 

ـ لا تُكمِل! أرجوكَ! سنرحَل!

 

عادَت صحّة أمّي إليها على مرّ الأيّام وتأكّدتُ مِن شكوكي. وبقيَت تمارا عند أهلها إلى حين الولادة، ثمّ أخذتُ إبني منها لأُربيّه مع والدتي. لَم تُمانِع زوجتي، فهي فضّلَت أن يبتعِد ولَدها عنها مِن دخول السجن. على كلّ الأحوال، لَم يكن لدَيّ الأدلّة الكافية ولَم أشأ سجن أمّ إبني، بل اكتفَيتُ بالحضانة وتطليقها.

فكرة مَن كانت؟ لستُ أدري إن كانت زوجتي التي إقترَحَت "التخلّص مِن العجوز" أو أمّها، إلا أنّني مُتأكّد مِن أنّ تمارا وافقَت على قتل أمّي الحبيبة.

ربَّت والدتي إبني لسنوات بدون أن تعلَم يومًا السبب الحقيقيّ وراء تطليقي لزوجتي وأخذ طُفلنا منها. لمَّحتُ لها أنّها خانَتني وهي اكتفَت بهذه النظريّة. سمَحتُ لتمارا زيارة إبنها أسبوعيًّا لكن بحضورنا، وهي تزوّجَت مِن جديد بعد سنتَين، وسافرَت مع زوجها بعيدًا ربّما لتهرب منّي في حال غيّرتُ رأيي واشتكَيتُ عليها. لَم يتدخّل باقي عائلتها بالموضوع، ولا أعرفُ إن كانوا على عِلم بالذي حصَل.

رحلَت أمّي إلى دنيا الحقّ في الموعِد الذي حدّدَه خالقها وليس كما كانت قد حدّدَته تمارا، فلكلّ منّا ساعته.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button