عندما جاءَت أمّي إلى غرفتي وقالت لي أنّها بحاجة للتكلّم معي لم أشكّ ولو لِثانية واحدة أنّها وجَدَت عروساً لي. وسبب دهشتي أنّني كنتُ أعاني مِن إعاقة في الرجلَين سببها حمّى قوية أصبتُ بها عندما كنتُ صغيراً. ومع تقدّم الطبّ أصبحَ بإمكاني إجراء عمليّة جراحيّة لإزالة العرَج القويّ الذي كان يعيق مشيي ولكنّني لطالما رفضتُ المعالجة لِكثرة خوفي مِن العمليّات. عندها أجبتُ والدتي:
ـ ومَن يرضى بي وأنا بهذه الحال؟
ـ أنتَ شاب وسيم وذكي وصاحب أموال كثيرة... على كل حال سأعرض تلك العروس على أخيكَ أيضاً وستقرّران سويّاً مَن منكما يريدها له... أودّها أن تصبح كنّتي.
ـ هل هي مهمّة إلى هذه الدرجة؟
ـ أجل... ولكن ليس كما تتصوّر... هي جميلة ولكن ليس كثيراً... وهي أيضاً ذكيّة ومحبّة وأخلاقها حسنة تماماً كأمّها... أعرف العائلة جيّداً والكل يشهد على سيرتهم.
ـ وماذا لو قلتُ لكِ أنّني لا أودّ الزواج بتاتاً؟
ـ لِما لا ترى فاتن أوّلاً ومِن ثم نتكلّم؟
وهكذا أخذَتنا أمّي إلى منزل الفتاة ولم أكن أبداً مسروراً لأنّني كنتُ أعلم أنّ العروس لن تُعجَب بي بسبب رجليَّ بل بأخي الذي كان يفوقني وسامة وحدقة. ولكن عندما رأيتُ فاتن وقعتُ فوراً تحت تأثير رقّتها وأناقتها ولعنتُ إعاقتي. جلسنا كلنّا نتكلّم ورأيتُها تنظر بإصرار إلى أخي الذي لم يعرها أي إهتمام. وعندما عُدنا إلى المنزل سألَتنا أمّي عن رأينا بالفتاة فأسرعَ وائل بالقول:
ـ لا... لم تعجبني... أعطيها لأخي.
وحاولتُ أن أخفي فرحتي ولكنّني سألتُ والدتي إن كانت فاتن ستقبل بي فقالت:
ـ لا عليكَ يا بنيّ... إن كنت تريدها فستكون زوجتكَ... لا أحد يرفض ولدي.
وبعد تشاورات عديدة تمَّت ما أسميتُها بال"صفقة" لأنّه كان مِن الواضح أنّ فاتن أُقنِعَت على القبول بي. ووعدتُ نفسي أن أعمل جهدي لإسعادها وألاّ تندم يوماً على الزواج منّي.
وبعد أشهر قليلة تمّ الزواج وجاءَت فاتن لِتعيش معنا في بيتنا الكبير. وبالرغم مِن لطافتها تجاهي بقيَت زوجتي بعيدة عاطفيّاً عنّي ولاحظتُ أنّها تخجل مِن الظهور معي علناً وتفضّل البقاء معظم الوقت في المنزل. عندها أخذتُ قراراً كان جد صعباً عليّ وهو السفر إلى أوربا لإجراء تلك العمليّة الجراحيّة لكي أعيش مع فاتن دون حواجز.
وعندما أطلعتُها على نواياتي رأيتُ على وجهها علامات السرور والإمتنان. وفي تلك الفترة شعرتُ بتقرّب بيننا شبيه بالحبّ الأمر الذي أعطاني حافزاً إضافيّاً للمضي بِمشروعي. ولكنّني أصرّيتُ على السفر لِوحدي لأنّني لم أكن أريدها أن تراني وأنا أتألّم. كنتُ أريد أن أبعِد عنها صورة الرجل الضعيف وكنتُ أودّ أن أفاجأها عند عودتي بالمشي كأيّ إنسان آخر.
وبعد شهرَين أخذتُ طائرة إلى جنيف في سويسرا وأوصَتني فاتن بأن أتحلىّ بالشجاعة وبأن أعود إليها متعافٍ قائلة:"سأكون بانتظاركَ". وشعرتُ بِفرحة لا توصَف وأمل كبير في الحياة. ولكن شخصاً واحداً لم يكن مسروراً لي وهو وائل الذي تعوّدَ أن أكون معاقاً وضعيفاً ولم يتوقّع أن أتشجّع وأقوم بما رفضتُه سنين طويلة. وفجأة بدَت فاتن جميلة ومثيرة في نظره وقرّرَ أنّها مِن حقّه لأنّها كانت معجبة به في البداية. لِذا إنتظرَ حتى أن أقلَعَت طائرتي لِبدء عمليّة إغراء هدفها أخذ زوجتي منّي.
وعلِمتُ بما حصل أثناء غيابي لاحقاً أي أنّ وائل صارَ يهزأ منّي أمام زوجتي ويصوّر لها مدى خوفي حيث أنا وكيف مِن المؤكّد أنّني أرتجف وأصرخ كالفتاة هذا إن كنتُ حقّاً سأمضي بالعمليّة ولا أتراجع:
ـ سترَين... سيعود كما رحَل... أعرف أخي جيّداً... لطالما كان جباناً.
ـ لا تقل ذلك يا وائل... أخوكَ شجاع... ليس مِن السهل تغيير وضع كهذا.
وبقيتُ على اتصال يوميّ بِزوجتي أخبرها عن مجرى الأحداث كَوصولي إلى المستشفى وخضوعي إلى مجموعة صوَر وفحوصات أوليّة. وفي هذه الأثناء بدأ وائل بِمغازلة فاتن واستعمال شتّى الطرق لإقناعها بأن تكون له وليس لي. إشترى لها الورود وأهداها الحلى وفي كل مرّة كانت ترفضها وتذهب لأمّي لِتخبرها بالذي يحصل. وكانت والدتي تقول لها:
ـ حسناً فعلتِ... قبول الهدايا يلزم المرء بأمور عديدة.
وفي موعد العمليّة قضيتُ ساعة مع فاتن على الهاتف نتكلّم عن الذي سيحصل ولأتلقّى منها التشجيعات التي رفعَت مِن معنوياتي إلى حدّ بعيد. والمؤسف جدّاً هو أنّ أثناء إجرائي لِعمليّتي كان أخي الوحيد قد قرّرَ أن يحاول تقبيل زوجتي متأمّلاً أن يحصل على أكثر مِن ذلك. ولكنّ فاتن قاومَته بشدّة وصفعَته بقوّة قائلة: "عار عليكَ أن تخون ثقة أخاك خاصة بِوقت كهذا... إسمع... عندما رأيتُكَ لأوّل مرّة أُعجبتُ بكَ... والآن أحمد ربّي أنّني لم اختَركَ أنتَ... صحيح أنّني لم أستلطف أخاك ولكن معاملته واحترامه لي وإقدامه على العلاج مِن أجلي أقوى أثبات على حبّه لي... ولا أستطيع سوى أحبّ هكذا إنسان... عليكَ أن تحاول ولو بعض الشيء التمثّل به." وهذا الكلام إلى جانب الصفعة كان كافياً لإغضاب وائل إلى حدّ خطير فقرّرَ أنّه لن يدع زوجتي تفلَت مِن العقاب.
وانتظرَ أخي عودتي بِفارغ الصبر لا لاستقبالي معافياً بل لِتدمير زواجي. وسألتُ نفسي كثيراً لاحقاً مِن أين أتى كل ذلك الأذى تجاهي لأنّني لم ألاحظ يوماً شيئاً على وائل. صحيح أنّه كان دائماً يسخر مِن إعاقتي خاصة أمام الناس ولكنّني أرجَعتُ الأمر إلى دعابة تحصل بين الأخوة.
وبعد شهرَين على رحيلي عُدتُ إلى البلد ووافَتني فاتن إلى المطار وبِيدها باقة زهور عملاقة ويافتة تقول: "إشتقتُ لكَ." وركضَت اليَّ وعانقَتني بقوّة. كنتُ لا أزال أستعمل العكاّزات ولكن الفرق في مشيَتي كان واضحاً. وإصتحبَتني إلى المنزل حيث كانت أمّي بإنتظاري. أمّا وائل فوصَل في الليل بعدما قضى السهرة في الحانة مع أصدقائه. عندما رآني سلّم عليّ وكأنّه رآني قبل يوم فقط ولم أشعر بِفرحه للقائي.
نمنا جميعاً وفي الصباح إجتمعنا حول الفطار لأخبرهم بالتفاصيل ما جرى معي. ولكنّ وائل قال:
ـ يا للمسكين... كنتَ تتألّم هناك وغيركَ يمرح هنا.
ـ ماذا تقصد؟
ـ لا شيء... لطالما كنتَ بريئاً... لم أقل شيئاً... لم أقل شيئاً!
وكان مِن الوضح أنّ وائل يودّ أن يخبرني شيئاً مهمّاً ولكن ليس أمام الباقين. ولكنّني لم أتوقّع ما جرى لاحقاً عندما قصدتُ غرفته وسألتُه عمّا يجري. عندها أغلق الباب وقال لي:
ـ أنا سعيد لكَ يا أخي ولكنّكَ فعلتَ ذلك سدىً... مِن أجل إنسانة لا تستحقّ العناء.
ـ أتقصد بذلك فاتن؟ ما الأمر؟ تكلّم!
ـ لم أكن أريد إخباركَ... ولكن عندما رأيتُ فاتن تتظاهر بالسعادة عند رؤيتكَ قرّرتُ أنَّ عليكَ أن تعلم حقيقتها... يا أخي المسكين... خلال غيابكَ حاولَت فاتن إغوائي حتى أنّها... حاولَت تقبيلي... ولكنّني أبعدتُها عنّي وصفعتُها!
ـ يا إلهي! هذا لا يصدَّق! فاتن؟؟؟
ـ أجل... أنا آسف ولكن عليكَ أن تعلم مَن هي زوجتكَ.
وأخذتُ عكازاتي وأسرعتُ بالذهاب إلى المطبخ حيث كانت فاتن وأمّي تحضرّان الغداء. وصرختُ لِزوجتي:
ـ أهكذا تكافئينَني لِمعاملتي لكِ وتضحيَتي الكبيرة؟ أتعلمين كم عانيتُ قبل وبعد العمليّة؟ كل ذلك لِتغرسي سكينّاً في ظهري؟ تغوين أخي؟ أخي؟؟؟
ـ هذا ليس صحيحاً... هو الذي فعَل...
ـ حاولتِ تقبيله وصفعَكِ! هذا أقل شيء يفعله المرء بكِ أيتّها الخائنة!
ـ بل هو الذي أتى ولصق شفاهه على شفاهي... وأنا التي صفعَته!
ـ أخي لا يكذب!
عندها قرّرَت أمّي التدخّل قائلة:
ـ بلى... هو كاذب... لا دخل لِفاتن بالذي حصل... اخبرَتني المسكينة أنّ وائل يهديها أشياء جميلة ورفضَتها كلّها... عندها قرّرتُ مراقبة أخاك لأرى ما ينوي فعله... إنّه إبني وأعرفه جيّداً... وحين ظنّ أنّه معها لوحدهما حاولَ فرض نفسه عليها وصدّته. كنتُ واقفة وراء الباب ورأيتُ كل شيء.
عندها نظرتُ إلى وائل الذي كان قد لحقَ بي لِيَستمتع بِشجارنا ورأيتُه ينظر إلى الأرض قبل أن يخرج مِن المطبخ وأدركتُ أنّه كذبَ عليّ. فقلتُ لِفاتن:
ـ سامحيني... أرجوكِ... أعدكِ بألاّ أشكّ بكِ مجدّداً... أحبّكِ كثيراً وفكرة فقدانكِ تثير جنوني... تعالي نترك هذا المنزل ونعيش بعيداً عن وائل.
ـ موافقة... هناك سيولد ولدنا... أجل... أنا حامل.
وعانقتُ زوجتي مطوّلاً ورحلنا عن البيت بعد اسبوع. لم أرَ وائل خلال كل تلك الفترة لِكثرة خجله مِن الذي فعله.
وقبل أن نرحل سمعتُ فاتن تسأل أمّي إن كانت حقّاً وراء الباب عندما حاول وائل تقبيلها فأجابَت:"لا... ولكنّني كما قلتُ أعرف إبني... كنتُ متأكّدة أنّكِ بريئة ولم يكن هناك مِن طريقة أخرى لِتبيان الحقيقة... إذهبا بِسلام ولا تنسيا أن تسألا عنّي."
حاورته بولا جهشان