أحببتُ دُنيا حتى الجنون ولم أكترث لرأي أهلي فيها. كانوا قد مانعوا زواجي مِنها، فقط لأنّها مِن عائلة متواضعة وهم مِن نخبة المجتمع. أمّا أنا، فكل ما كان يهمّني، كان أن أعيش معها ونؤسّس سويّاً عائلة ونشيخ معاً حتى يفرّقنا الموت. حاولَ أبي إقناعي بالعدول عن قراري قائلاً:
- ماذا سيقول عنّا الناس؟ أبوها ناطور مبنى في حيّ متواضع وأمّها تعمل في المنازل... ألم يعد هناك فتيات تناسبنا؟ لقد عملتُ جهدي لأحافظ على إرث والدي رحمه الله وإنتظرتُ مِنكَ أن تفعل هذا أيضاً... الحبّ ليس مهمّاً، فالحسب والنسب هما ركيزة المجتمع الذي ننتمي إليه... أرجوك يا ماهر لا تجبرني على إتخاذ قرار صعب بحقّكَ، فأنتَ ولدي الوحيد.
- إن كنتَ تريد أن تحرمني مِن الميراث فهذا شأنكَ... أستطيع الإهتمام بنفسي وبزوجتي، فأنا أحمل شهادة تخوّلني أن أعمل في أفضل شركة في العالم.
- وتترك منصبكَ كنائبي في المصرف؟ كلّ هذا بسبب فتاة؟ هل فقدتَ عقلكَ؟
- بالعكس يا أبي... أنا أعمل الصواب... على الأقل حسب مفهومي أنا... بالنهاية هذه حياتي وسأختار كيف أعيشها... أظنّ أنّ الموضوع إنتهى.
وهكذا وقفتُ بوجه أمبراطوريّة عائلتي وتزوّجتُ مِن دنيا. سكنّا في شقّة في مكان بعيد عن أهلي وكنتُ سعيداً رغم إنقطاعي عنهم. كنتُ أفضّل أن يحضروا زفافي ويفرحوا لي ولكنّ همّي كان أن أرى وجه دنيا الجميل كل صباح حين أستفيق. ودام زعل أبي وأمّي أكثر مِن سنة، أيّ حتى أن علموا مِن قريبة لنا كانت تزورنا بإستمرار أنّ زوجتي حامل بصبيّ. عندها أرسلوا باقة ورد كبيرة مكتوب عليها: "مبروك... على أمل أن نراكما قريباً." وكم كانت فرحتي كبيرة في ذلك اليوم، لأنّ ذويّ كانوا قد إعترفوا أخيراً بزواجي وكان سيحظى إبني برعاية جدّه وجدّته. فأخذتُ دنيا وذهبنا إلى البيت الكبير وإستقبلنا الجميع بأذرع مفتوحة. وبعد أن قبّلَت أمّي زوجتي بقوّة وجلسنا لنتبادل الأخبار، قال لنا والدي:
- ليس مِن الجيّد أن تعيشا هكذا بعيداً عنّا... هذا البيت كبير كفاية ليتّسع لكما ونوّد أن تأتيا لتسكنا معنا... لا تخافي يا دنيا، فنحن لن نتدخّل بحياتكما ولن ترينا كثيراً، فجناحَي المنزل في إتجاه معاكس لبعضهما... أنا متأكّد أنّكِ لا تريدين إبعاد إبننا عنّا... فأنتِ كما أرى إمرأة عاقلة ومحبّة.
ولم تستطع زوجتي رفض طلب أبي وإنتقلنا للعيش معهما بعد فترة قصيرة. وعشنا أياماً جميلة، نجلس كلّنا على مائدة الطعام ونتكلّم عن أمور عديدة. ومِن بعدها رأى إبني فؤاد النور وسط البهجة والفرح. ولكن بعد هذه الولادة تغيّر كل شيء. إقترحَت أمّي أن نأتي بمربيّة لفؤاد رغم إصرار دنيا على الإهتمام به شخصيّاً ولكنّها لم تستطع مقاومة قرار والدتي وقبلَت بالأمر. كان شيئاً إيجابيّاً، لأنّنا هكذا إستطعنا الخروج سويّاً والإستمتاع بالحياة. ولكن في ذات ليلة، دعَت أمّي بعض الأصدقاء إلى العشاء وخلال المأدبة قالَت للمدعوّين:
- زوجة إبني أمّ رائعة... ككل بنات طبقاتها... فهنّ يحبّون الإعتناء بأولادهنّ ولزمني جهداً كبيراً لإقناعها بمربيّة... صحيح أنّها تمسك الشوكة والسكينة بالمقلوب ولكنّها لطيفة للغاية... أليس كذلك؟
وساد جوّ مِن الإنزعاج وقبلَ أن تتابع، قلتُ لأمّي:
- أجل إنّها لطيفة ورائعة وأنا أفتخر بها ومسرور جداً أنّها قبلَت أن تتزوّجني!
عندها صاح أبي:
- وكيف لها أن ترفض؟ فبعدَ أن تزوّجَتكَ لم تعد أمّها تنظّف المِنازل وإنتقلوا مِن غرفة ناطور إلى شقّة محترمة!
عندها قررتُ وضع حدّ لهذه المهزلة وتركتُ المائدة أنا وزوجتي وذهبنا إلى جناحنا غاضبَين. بكَت دنيا وحاولتُ إقناعها بأنّ أهلي سيتعوّدون عليها قريباً وسيحبّونها وكأنّها إبنتهما الخاصة. أجابَتني:
- أنا خائفة... أشعر أنّهما يريدان رحيلي وسيفعلون ما بوسعهما للتخلّص مِني...
- لن يحصل هذا أبداً... لن أسمح بذلك... أعدكِ بأن أحميكِ مِن أيّ أذيّة.
ولم أكن أعلم آنذاك أنّني سأخلف بوعدي وأتخلّى عن المرأة الوحيدة التي أحببتُها في حياتي. فرغم إصراري على فرض إحترام دنيا على أهلي، لم أكن قويّ كفاية ولم أستطع ملئ الفجوة الموجودة بين مجتمعي ومجتمع زوجتي. وكانت قد بدأت حرب مِن قِبَل والديّ ومعارفهما على دنيا، فكلّما خرجنا إصطدمنا بملاحظات مؤذية وتهكّم الجميع، لدرجة أنّنا فضّلنا البقاء في البيت خوفاً مِن المشاكل. وإستمرّ الوضع هكذا ،حتى أن ضاق صدري مِن الإختباء وإشتقتُ للأيّام التي كنتُ فيها نجم السهرات وينتظرني الناس للإستماع إلى حديث نائب مدير أكبر مصرف في المِنطقة. وإلى جانب ذلك، بدأتُ أرى تأثير تربية زوجتي على إبني، فكانت تجهل أسس مجتمعنا وقلّة ثقافتها باتَت تهدّد مستقبل الذي يحمل إسمي. حاولتُ تعليمها بعض المفاهيم ولكنّها جابهتني بالرفض متعذّرة بأنّها تعرف ماذا تفعل وأنّ فؤاد ليس بحاجة إلى كل هذه المسائل. كان هذا قد يكون صحيحاً لو كنّا نعيش في بيئتها ولكن عندنا لم يكن ذلك مقبولاً. وعندما بدأ إبني بالذهاب إلى المدرسة، لم تكن قادرة على التحدّث معه بالفرنسيّة أو الإنكليزيّة، ما أخّره عن باقي رفاقه الذين حظيوا بأمّ مثقّفة. كل ذلك ولّد جوّاً مِن التشنّج وبدأتُ أرى زوجتي كما يرونها أهلي، أي إنسانة جاهلة وأخجل مِنها أمام الناس. وبالطبع هي أحسّت بذلك وإنتابها شعور بالنقص وثارَت عليّ وعلى ذوييّ قائلة:
- أنتم أناس متصنّعون... لا يهمّكم سوى المظاهر والألقاب... تربيتُ في منزل يحترم الإنسان لِقيمه ويحكم عليه حسب أفعاله وليس حسب شجرة عائلته... لقد تغيّرتَ كثيراً يا زوجي الحبيب، فمِن عاشق ملهوف، أصبحتَ تنتقد كل ما أفعله أو أقوله... أسأل نفسي أيّ رجل أنتَ حقّاً؟
- أنا إبن بيئتي أيضاً ولدينا قواعد عليكِ إتّباعها إن كنتِ تريدين العيش معنا وإلّا...
- وإلّا ماذا؟ عليّ الرحيل؟
- أجل.
وهنا كانت غلطتي: تركتُها تذهب دون أن أمنعها مِن ذلك. حزمَت أمتعتها وأوصَتني بإبننا وعادَت إلى بيت أهلها. في البدء لم آسف عليها وإعتقدتُ أنّ الخطأ قد أُصلح وأنّ الأمور عادَت إلى مجراها الطبيعي ولكنّ فؤاد بدأ يسأل عن أمّه ولم أكن أعلم ماذا أقول له وأملتُ أن يتعوّد على العيش مِن دونها ولو لفترة. وفي هذه الأثناء، بدأت أمّي تبحث لي عن زوجة بين أصدقائها وساد جوّ مِن الفرح في المنزل بعد أن غابَت عنه "بنت الناطور" كما كان الجميع يسمّيها. وقدّموا لي سناء إبنة مدير كبير في الدولة وأعجبَتني وقبلتُ بها. وفي غضون أشهر كنتُ متزوّجاً مِنها ولكنّني شعرتُ منذ يومِنا الأوّل بالفرق بينها وبين دنيا. فزوجتي الأولى كانت تفرح لأبسط الأمور وتعمل جهدها لإسعادي، بينما كانت الثانية صعبة الإرضاء وتريد إهتمام الجميع لها وحتى لو حصلَت على مرادها، كانت تبقى غير مكتفية. وكانت تقول لي كلّما تجادلنا:
- ألا تعرف مَن أنا؟ أنا بنت فلان... لقد عانَت أمّك الكثير لكي تُقنع أهلي بالقبول بكَ، فنحن أغنى مِنكم ولدينا عدداً أكبر مِن الأملاك...
وكنتُ أجيبُها:
- قد يكون ذلك صحيحاً ولكنّكِ فقيرة الروح ولن تستطيع ثروتكِ ملئ هكذا عجز.
وإشتقتُ لدنيا وتمِنيّتُ لو كنتُ أقوى ممّا أنا. وقرّرتُ أنّ حياتي لن تكتمل إلّا بوجودها، فأخذتُ أسأل عن أحوالها. علمتُ أنّها تزوّجت مجدداً وسافَرت إلى الولايات المتحدة. كانت قد ذهبَت إلى مدرسة فؤاد وودّعَته هناك ووعدَته بأن تعود وتراه مِن وقت إلى آخر. رحلَت دون أن تكلّمني، ولو كنتُ مكانها لفعلتُ الشيء نفسه. وأنا اليوم أعيش مع إمرأة لا أحبّها، أحاول قضاء معظم وقتي خارج المنزل لكي لا أتواجد معها تجنّباً للمشاكل والشجارات.
حاورته بولا جهشان