بعد وجبة الغداء ذهبتُ أرتاح على أريكتي المفضّلة بينما عمِلَ الباقون على إزالة الأطباق وغسلها. كنتُ قد تعبتُ مِن تحضير الأكل بسبب أوجاعي وسنّي المتقدّم. وأخذتُ أتفرّج على الأولاد وهم يلعبون حولي ولكن عندما طلبتُ منهم أن يخفتوا أصواتهم جاءَ أحدهم إليّ وسألَني:
ـ خالة سلمى... لماذا لا تحبّين الأولاد؟
ـ بل أعشقهم!
- ولكنّكِ لم تنجبي
- لأنّني لم أتزوّج لأنجب... وأبوكَ وعمّكَ وعمتّكَ هم بِمثابة أولادي... هيّا أذهب الآن وألعب قدر ما تشاء.
لم أشأ أن يرى الصبيّ دموعي لأنّ سؤاله هذا أرجعَ لي ذكريات مؤلمة مِن حياة قدّمتُها لِشقيقتي بدل أن أعيش مع الرجل الذي أحببتُه وأؤسّس معه عائلة خاصة بي.
كان لي أختاً وكنتُ أكبرها بأقل مِن سنة وبالرغم مِن أعمارنا المتقاربة شعرتُ دائماً بالحاجة إلى رعايتها لأنّ عدلا كانت حسّاسة وعاطفيّة وكنتُ أخشى أن تتأذّى. ورغم تنبيهاتي لها المستمرّة حصَلَ ما توقّعتُه: أُغرِمَت بِشاب ذات طبع حاد وميول واضحة إلى الخمر والنساء. ولأنّه كان يتمتّع بِخبرة كبيرة في الجنس اللطيف استطاع أقناعها على الزواج منه.
وبالطبع لم يغيّر عدنان شيئاً في نمط حياته الصاخبة فبقيَ يتصرّف وكأنّه لم يتزوّج. وعندما حاولَت عدلا مطالبته بالكفّ عن الشرب ومعاشرة بنات الهوى تلقَّت أوّل صفعة. ولأنّها سكتَت أدركَ عدنان أنها ستكف عن مضايقته فقط إن أهانها أو ضربها. لم أعلم بالذي يحصل فعلاً إلاّ عندما رأيتُ الكدمات على شقيقتي المسكينة. وفقدتُ أعصابي وبدأتُ أصرخ:
ـ كيف أخفَيتِ عنّي ذلك؟ هيّا... أحزمي أمتعتكِ وعودي معي إلى دارنا!
ـ أنا حامل.
وسكتنا وبكينا. حاولتُ أقناعها بِتركه حتى لو كانت تنتظر مولوداً ولكنّها أجابَت:
ـ أنتِ لا تعرفينه... لن يقبل أن أرحل وطفله في بطني... سيلحق بي ويقتلني... لن يدع امرأة تهين ذكورته... ومَن يدري قد يتغيّر عندما يصبح أبًا.
ولكنّني كنتُ متأكّدة أنّ هذا الصنف مِن الرجال لا يتغيّر بل تسوء تصرّفاته مع الوقت.
وهكذا بَقيَت عدلا مع عدنان وأنجبَت ولِدها الأوّل. ومِن ثم جاءَت البنت ومِن بعدها الولَد التالي. وعاشَت شقيقتي سنينًا صعبة جدًّا وأظنّ أن سبب مرضها الخبيث كان يأسها مِن حياة مليئة بالذل والتعنيف. وبعد سبع سنوات على ولادة أوّل ولد أغمَضَت عدلا عَينَيها لِتذهب إلى مكان خالي مِن العنف. وقبل أن تلفظ نَفَسها الأخير وتتركني لِوحدي قالت لي بِصَوت يرتجف:
ـ ماذا سيحصل لأولادي؟
ـ سأهتمّ بهم... أعدكِ بذلك.
ـ لا تدعيه يؤذيهم... لقد عانوا كثيراً... أرجوكِ يا سلمى... أرجوكِ.
وبينما كانت تنهال دموعي على خدودي صمّمتُ على البقاء على وعدي مهما كلّفَني الأمر. لِذا وبعد مراسم الدفن ركضتُ أدقّ باب عدنان. وعندما فَتَحَ لي الباب ورأى حقيبتي على الأرض سألَني باستياء:
ـ ماذا تريدين؟ ولماذا جئتِ بِحقيبة؟
ـ لأنّني أريد العيش معكم.
ـ ومَن قال لكِ أنّني أريدكِ في بيتي؟
ـ نظراتكَ إليّ خلال سنين... لستُ غبيّة وأعلم أنّني أحظى بإعجابكَ... أليس كذلك؟
نظَرَ إليّ بإمعان مِن أسفل قدمَيّ إلى رأسي وأضاف:
ـ تعلمين أنّه سيكون عليكِ دفع ثمَن وجودكِ في بيتي... أفهمتِ قصدي؟
ـ فهمتُ قصدكَ تماماً... ولكن بِشرط... ألاّ تتزوّج وتجلب امرأة أخرى إلى هنا.
ـ لن أتزوّج طالما أعطَيتِني ما أحتاج إليه... أدخلي.
قد لا يفهم البعض تصرّفي هذا ولكنّني كنتُ فعلاً مستعدّة لأيّ شيء مِن أجل أولاد أختي. فكنتُ أخشى عليهم منه ومِن عنفه القاسي وخفتُ أن يخطر على باله الزواج ثانية والمجيء بإمرة قاسية مثله. وبالطبع لم يوافق أهلي على ذهابي لِعدنان ولكنّني لم ألتزم بأي قانون أو نصيحة أو حتى تهديد. لقد قطعتُ وعداً لأختي الوحيدة ولم أكن لأسمح لأحد بالوقوف بِوجهي. والجدير بالذكر أنّني في تلك الفترة كنتُ أواعد شابًّا أحببتُه كثيراً وكنّا قد بدأنا نتكلّم عن الزوّاج. ولكنّ موت عدلا غيّرَ كل المعطيات ولم يفهم حبيبي كيف ولماذا فضّلتُ أولاد أختي عليه. وعندما عَلِمَ بِذهابي للعيش عند عدنان شتَمَني وأهانَني. بكيتُ كثيراً ولكنّ شعوري بالواجب كان أقوى مِن أي حبّ آخر.
هل أتكلّم عن اشمئزازي عندما كان يلمسني عدنان وعن رائحته البشعة أو صراخه الدائم أو تهديداته بألقائي خارجاً إن لم أنفّذ جميع رغباته الجنسيّة؟ أم أسكت لأحكي فقط عن مدى حبّي وتعلّقي بالأولاد الذين كنتُ أحميهم مِن عنف أبيهم؟ فعدنان ورغم شرّه لم يكن يجرؤ على ضربي لأنّني كنتُ أنظر مباشرة في عينيَه وأتحدّاه على عكس شقيقتي التي كانت تريه خوفها منه. فكان وعلى مضد يكتفي بالصراخ والشتم. وبالطبع كان لدَيه عشيقات وأصدقاء غير لائقين وعندما كان يصل بِصحبتهم إلى البيت كنتُ أبقيهم خارجًا. والغريب في الأمر أنّه كان يرحل معهم ولا يرغمني على استقبالهم لأنّني كنتُ موجودة للاهتمام بالمنزل وبالأولاد وبِشهوته. فمِن دوني كان سيضطر إلى إيجاد زوجة ولم يكن مستعدًّا لِفقدان حريّته بالارتباط مِن جديد.
مرّة واحدة فقط عَرَض عليّ الزواج ولكنّني أجَبتُه:
ـ لن يحصل ذلك أبداً! لن أحمل اسم الذي أهانَ وعذّبَ وقتل أختي!
ـ بدأت الناس تتكلّم... تقيمين في منزل صهركِ... تنامين في سرير واحد معه.
ـ أعلم ما يقوله الناس عنّي ولا يهمنّي ذلك... كل ما يهمّني...
ـ الأولاد!
ـ أجل... وحسب.
ـ أليس لدَيكِ أي شعور تجاهي؟
ـ بلى... أكرهكَ إلى أبعد حدّ... هذا شعوري تجاهكَ.
سكتَ مطوّلاً ومِن ثمّ خَرَج بعد أن أقفلَ الباب وراءه بقوّة. كان عدنان قد مَن لم يخشَ الوقوف بِوجهه.
ومرَّت السنين بِبطء وسط جوّ بشع ولكنّ الأولاد استطاعوا العيش بأمان ومتابعة دراستهم بِسلام. وعندما أصبح الصغير فيهم في سنّ الرشد جمعتُهم وقلتُ لهم:
ـ لقد حان وقت رحيل.
وذهبنا جميعاً إلى بيت أهلي الذي كان قد أصبح فارغًا بعدما فارقَ أبويَّ الحياة. وعندما عاد عدنان ولم يجدنا قصدنا طبعاً حيث نحن.
وعندما فتحتُ الباب قلتُ له:
ـ لم تعد قادراً على إيذائنا... لا قانونيّاً ولا جسديّاً ولا حتى نفسيّاً... أرحل وعِش كما تستحق أي لِوحدكَ... فعلى أمثالكَ أن يدفنوا أنفسهم في حفرة عميقة.
وأقفلتُ الباب بِوجهه وفتحتُ صفحة جديدة في حياتي. وبِفضل شهادات الأولاد ووظائفهم استطعنا العيش بِكرامة وبِمناخ سليم مليء بالفرح والحب.
وبعد بضعة سنوات وصَلَني أنّ عدنان مريض وأنّه مُلقى على فراشه بِسبب أفراطه بالمشروب وجميع أنواع الممنوعات. ولكنّ الأولاد رفضوا رفضاً قاطعاً زيارة أباهم لأنّهم لم ينسوا ما فعلَه بأمّهم وبنا. ولكنّني لم أستطع ترك إنسان يموت لِوحده ومرّة أخرى أخذتُ حقيبتي وذهبتُ إليه. وعندما رأيتُ حالته امتلأت عينَيّ بالدموع ليس حبّاً به بل شفقة عليه. أمّا هو فنَظَرَ إليّ بامتنان وقال لي بِصوت ضعيف: "لقد عُدتِ يا ملاكي!". وحمّمته ونظّفتُه وعاملتُه بِمحبّة وحضرّتُ له المأكل والمشرب وأعطَيتُه دواءه. لم يعِش عدنان أكثر مِن سنة وعندما كان يُحتضَر مسَكَ يدي وشدّ عليها ونظَرَ إليّ وكأنّني خشبة خلاصه الأخيرة. وماتَ وبدا وجهه وكأنّه أرتاح مِن حياته الصاخبة والمؤذية. بكيتُ عليه وعلى أختي وعلى نفسي ولأنّ وعدي كان قد أستُوفيَ أخيراً. عدتُ إلى الأولاد بِقلب خفيف تخلّصَ مِن القيود التي ألتفَّت حوله سنين طويلة.
وبالرغم أنّني لم أتزوّج ولم أنجب كان حظيتُ بِعائلة محبّة. لم يتركني أيّ مِن الأولاد حتى بعد أن تزوّجوا جميعاً. فعندما لا أكون مدعوّة إلى أحدى بيوتهم يأتون هم إليّ مع أولادهم. وها أنا اليوم أسعد "أمّ" في الدنيا وحين أغمض عينيّ كل ليلة قبل أن أنام أفكّر بأختي وأعدها بأنّ يوماً سيأتي ونكمل مشوارنا الذي قُطِعَ باكراً.
حاورتها بولا جهشان