كان قد توفي أبي منذ أيام قليلة حين جاء "فريد" ليقدّم تعازيه لنا. كان شريك أبي في الشركة وكان يعيش في الخليج، لذا لم تعرّف عليه قبلاً.
لم أكن بصدد التعارف على أحد وأبي يرقد في التراب. ولكنه جاء وتودَّد لي. سألتُ أمّي عنه فقالت لي أن أبتعد عنه دون أن تقول لماذا. جاوبته بتهذيب وليس أكثر. ولكنّه أصرَّ أن يجلس بقربي طوال الوقت وأن يحدّثني. ثم رحل. لا أنكر أنّه ترك أثراً فيّ رغم أن إعجابي به لم يكن معنى الكلمة.
في اليوم التالي عاد وجاء إلى بيتنا وأخذ يتكلّم عن علاقته بأبي وكم كان يحبّه. بدت أمي منزعجة منه ولكن بقيت لطيفة معه. بعد رحيله قلت لها:
- "ما الأمر؟ من هذا الرجل الذي يزعجك إلى هذا الحدّ؟"
- "سمعتِه، إنّه شريك أبيك. لم أحبّه يوماً ولكن..."
- "لكن ماذا؟"
- "هو الذي موّل الشركة وله الحصّة الأكبر. والآن رحل أبوك ولا أدري ماذا سيحصل لنا."
- "ماذا تعنين؟"
- "يستطيع أخذ حصّته ولن يبقى لنا سوى القليل."
- "لا تفكّري بالأمر، أنا أكيدة بأنّ أبي كان حريصاً أن يؤمّننا."
ولكن مخاوف أمّي كانت في محلّها. حصص الشركة كانت معظمها لفريد، وحصّتنا لا تكفي لتغطية مصاريفنا. فكنّا فعلياً لا نملك شيئاً، ومعاشي الصغير لا يكفينا لكي نعيش بكرامة.
- "لا تخافي يا أمي، سأجد عملاً ثانياً. دعيني أتصرّف."
ولكني لم أجد شيئاً يناسب مؤهلاتي وبدأت حالتنا تسوء.
جاء فريد مجدداً محمّلاً بالورود والهدايا. جلس واستفهم عن أوضاعنا وعرض أن يساعدنا. ولكن أمي رفضت قطعياً.
- "إذا احتجتما إلى أي شيء أنا موجود. فأنا لستُ غريباً، أنا مثل المرحوم تماماً."
- "لا أحد مثل المرحوم، قالت أمي بصوت عالٍ."
- "أعلم، أعلم... ولكن فهمتم قصدي."
بعد أن أقفلنا الباب وراءه سألتُ أمي لماذا لا تحبّه.
- "لأنّ أباكِ كان يكلّمني عنه وعن مغامراته. ليس رجلاً طيّباً، يسعى فقط وراء لذّته وراحته. وإنني أرى كيف ينظر إليكِ. ولا تنسي أنّه مُسنّ، إنّه بعمر أباكِ."
- "مَنْ قال لك إنني أريده؟ أنا فقط مهذّبة معه لأنه في بيتنا."
- "أتمنى أن تكون هذه الحقيقة يا ابنتي. لا أريدك أن تتعذّبي مع إنسان كهذا."
في اليوم التالي وجدتُ "فريد" واقف أمام مبنى مكان عملي.
- "هيّا إصعدي معي، سأوصلكِ إلى بيتك."
- "لا شكراً، أنا معتادة أن أمشي."
- "إصعدي أو سألحق بك حتى البيت أمام كلّ الناس!"
صعدتُ بسيارته الفخمة. لم ركب سيارة فخمة كهذه من قبل. أعجبني الأمر ولكن حرصتُ ألاّ يلاحظ "فريد" شيئاً. أوصلني إلى البيت وقبل أن أترجّل أخذ يدي وقبّلها بإحترام:
- "أنتِ "لايدي" وهكذا تستحقين أن تُعامَلي."
لا أدري لماذا، ولكنني لم أقل شيئاً لأمي. خفتُ منها أو خجلتُ من قبولي لرفقته. على كلّ حال، كنتُ واثقة أنني لن أدعه يصطحبني إلى مكان. ولكن هناك رجال يعرفون كيف يُقنعون النساء بأشياء عديدة. ربما هي الخبرة او الإصرار على النيل بمرادهم. و"فريد" كان من هؤلاء الرجال. وأنا كنتُ من تلك النساء اللواتي يظننّ أنفسهنّ قويات جداً.
وبات يأتي ليصطحبني من العمل كل يوم. في البدء كنتُ أحاول أن أرفض ولكنه كان يجد عذراً مناسباً كلّ مرة. واصبحنا قريبين وتطوّرت العلاقة بيننا. أصبح جزءاً من نهاري، أنتظره وأبتسم عندما أراه. ولكن عقلي كان يُحذّرني منه. كان أكبر منّي سنّاً، وكانت حياته مختلفة عن حياتي. لم أكن أدري إنْ كان يكنُّ لي عواطف حقيقيّة أم أنه أراد صبيّة يُجدِّدُ شبابه معها.
أمّي بدأت تلاحظ عليّ تغييراً لم يُعجبها. لم تكن تعرف شيئاً ولكن لم يعجبها الوضع. حاولت معرفة ما يجري ولكن لم أقل لها شيئاً. كنتُ راشدة وأستطيع أخذ قراراتي بنفسي.
ثمّ طلب "فريد" يدي. لم أدري ماذا أقول له. كنتُ أريد أن أصبح زوجته ولكن شيئاً كان يزعجني. قلتُ له أن يصبر قليلاً حينما أخبر أمي بالأمر. غضب كثيراً وعرض عليّ أن نتزوّج سرّاً. رفضتُ طبعاً.
دخلتُ البيت وأنا حزينة جداً. رأتني أمي وأجبرتني على الجلوس وإخبارها بما يُزعجني. وبعد استجواب طويل قلتُ لها الحقيقة. هزّت رأسها وابتسمت:
- "كنتُ أعلم أنه سيحاول معك أيضاً."
- "ماذا تعنين؟"
- "إسمعي حبيبتي... هذا الرجل شرير جداً. حذّرتكِ منه وكان يجب أن أخبرك عن السبب. منذ سنين طويلة كنتُ مع أبيك في سهرة أقامتها الشركة. رآني "فريد" وأُعجب فيّ كثيراً. حاول مغازلتي، ولكن لم أتجاوب معه طبعاً لأنني إمرأة متزوجة أولاً ولأنني كنتُ أحبّ وأحترم أبيك جداً. ذهبتُ إلى الحمّام لأغسل يديّ وتبعني إلى هناك وحاول تقبيلي. صفعته وشتمته، فقال لي "ستدفعين الثمن. لا أحد يُقاومني ولا أحد يُهينني هكذا".
"ومنذ ذلك الحين بدأ يُضيّق على أبيكِ ويجعله يبيع حصصه بالشركة الواحدة تلو الأخرى. ولكن الظاهر أنّ موت أبيك والقلّة التي نعيش فيها لم تكفيه فقرّر أن يحصل عليك لينتقم منّي. أنا أكيدة أنّه لو تزوّجك لكان حوّل حياتك إلى جحيم. أحمد الله أنك أخبرتني بكلّ شيء."
منذ ذلك الحين لم أدع "فريد" يقترب منّي مجدداً. بعد فترة فهم أنه لن يحصل عليّ ورحل، ولكن قبل أن يختفي قال لي: "كان عليّ المحاولة، ولكن الظاهر أن النساء في عائلتكم عنيدات".
حاورتها بولا جهشان