كم أنّ الناس يستهترون بأبسط ما عندهم ويعتبرونه حقًّا مكتسبًا. ويا ليتهم يُقدّرون ما أعطاهم الله مِن قدرة على الرؤية والسّمع والنطق. أمّا أنا فلستُ مِن هؤلاء المحظوظين لأنّني وقعتُ ضحيّة أهل غير مبالين، وهمّهما الوحيد هو التحسّر على نفسهما وإلقاء التهم على بعضهما.
كنتُ فرداً من بنات وصبيان تلك العائلة الكبيرة العدد. ومنذ البدء، لم أشعر بأنّ أبوَيّ كانا حقًّاً على علم بوجودي. كنتُ رقمًا أضافاه إلى سلسلة ولادات مرغوبة وغير مرغوبة. وكشأن كثير مِن الناس، غير الميسورين، لم يُفكّرا بعواقب جلب هذا الكم مِن الأولاد إلى الدنيا.
كان أبي موظّفًا بسيطًا، بينما لم تعمل أمّي يومًا لكثرة انشغالها بالولادة والأعمال المنزليّة. وما زاد مِن عبئها كان وجود حماتها معنا، حماتها التي لم تفوّت فرصة لإغاظتها. فعندما كان يعود والدي في المساء، كان يجد جوًّا متشنّجًا بانتظاره، إلى جانب صراخ ولعب وشكاوى أطفاله وهموم إطعام وإلباس تلك العائلة الكبيرة.
لذلك سادَ التجاهل بين الأفراد أجمعين، لأنّه كان الوسيلة الوحيدة لعدم التقاتل.
وكبرتُ بصمت أنكبّ على دراستي المدرسيّة. وكنتُ لحسن حظّي مِن الأوائل. وأظنّ أنّها كانت طريقتي للهروب مِن البيت وكأنّني أنفصل لبضع ساعات عن مكان لا مكان لي فيه.
ومرضَت جدّتي الأخرى التي تسكن بعيدًا عنّا، ورأَت أمّي في ذلك فرصة للإبتعاد عنّا ولو لفترة قصيرة. فحمَلَت بعض الأغراض الخاصّة وذهبَت تداوي مريضتها. ولا أذكر أنّها قبّلَتني قبل رحيلها.
وسادَت الفوضى في البيت، ولم تعد تعلم جدّتي كيف تدير أمورنا، وأصبح أبي يُؤجّل عودته في المساء كي لا يدخل ما أسماه "جهنّمه الخاص".
في تلك الأوقات بالذات، وبسبب كلّ تلك الأوضاع التي ذكرتُها، حُدِّدَ مصيري.
فقد شاء القدر أن أصيبَ بالتهاب السّحايا الخطر. ولكن ما كان يبدو في البدء زكاماً عاديّاً لم يَلفت انتباه أحد. ولم يشأ أبي أخذي إلى الطبيب إلّا بعدما بلغَت حرارتي أقصى الدرجات، وبدأتُ أتقيّأ وأصاب بأوجاع عنيفة.
كانت أمّي لا تزال عند والدتها، ولم ترَ سببًا وجيهًا للعودة مِن أجلي. أمّا الطبيب فلم يُمعن بفحصي لقلّة خبرته أو معرفته، ولم يُشخّص مرضي جيّدًا. أعطاني فقط بعض الأقراص ووصَف لي الراحة وتناول الكثير مِن الماء.
وبعد أيّام، تمّ نقلي إلى المشفى بعد أن ساءَت حالتي بشكل مخيف.
وعندما استفقتُ في تلك الغرفة البيضاء كنتُ قد فقدتُ سمَعي.
كنتُ في الثانية عشرة مِن حياتي.
لن أقدر على وصف شعوري في ذلك اليوم، لأنّه كان مزيجًا مِن الخوف والغضب. الخوف مِن الذي ينتظرني والغضب مِن أمّ هاربة وأب غير مسؤول. لم أفهم لِما أتيا بي إلى الدنيا إن كانا سيرمياني جانبًا كما فعلا. ولو أسرعَ بي والدي إلى المشفى عند الدّلائل الأولى، لو سَهِرَ عليّ كما يفعل الآباء، لو عادَت أمّي إليّ، لو تربَّى أخوتي على الإهتمام ببعضهم؛ لما حصل لي ذلك.
لو... لو... لو...
وامتلأ رأسي بضجيج مزمِن بات يُلازمني ليلًا نهارًا واعتقدتُ أنّني سأجنّ.
مكثتُ سنة بكاملها في المنزل غير قادرة على الإلتحاق بمدرستي. فأرسلوني إلى مدرسة خاصة للصمّ والبكم لأنّهم لم يعودوا قادرين على التواصل معي ولقلّة ثقتهم بقدراتي. ولكن بفضل طبيب نفسيّ، إستطعتُ العودة وبقوّة إلى الدراسة بعد أن رفضتُ دخول تلك المدرسة الخاصة. ولكنّ حالتي لم تسمح لي باستعادة قدرتي على التواصل مع الناس. فقلّة سمعي ولاحقًا ثقل نطقي، كانا حاجزَين وقفا بيني وباقي العالم. ولم أعد أملك سوى الدرس، ونلتُ شهادة البكالوريا ودخلتُ الجامعة. مِن أين وجدتُ الشجاعة؟ ربما مِن يقيني بأنّني وحدي القادرة على مساعدة نفسي، بعدما اعتبرني أهلي "مسكينة" وصرفوا النظر عنّي نهائيًّا.
ودخلتُ الجامعة، وهناك أيضًا فعلتُ المستحيل لأنجح... ولم يذهب تعبي سدىً. ولكنّ حياتي العاطفيّة بقيَت معدومة إلى أن أعجبتُ شاباً زميلي. كان يعيرني إنتباهًا خاصًا، وكان مِن الواضح أنّه يودّ التقرّب منّي. ولكنّني لم أستطع الدخول بعلاقة حبّ وأنا على هذه الحال. فكيف لي أن أتواصل معه؟ إن استطَعتُ سماعه كيف له أن يفهم ما سأقوله له؟ صحيح أنّ الحبّ لا يتطلّب كلامًا ويكتفي بدقّات القلب، ولكنّ ذلك موجود في القصص فقط وليس في الحياة الواقعيّة. لم أشأ أن أكون عبئًا عليه، خاصة عندما يُقرّر أن يُعرّفني إلى أصحابه وأهله.فمهما حاولَ سيشعر بالخجل بي يومًا، وأفضّل العيش لوحدي على أن أكون محط سخرية أو شماتة. لِذا رفضتُ ذلك الشاب وعملتُ جهدي على إبعاده نهائيًّا عنّي.
وتخرّجتُ مِن الجامعة بعد أن أنّهيتُ اختصاصًا بعلم النفس لكثرة تأثّري بالطبيب الذي ساعَدني. ووجدتُ وظيفة مؤقّتة سمحَت لي بجمع المال اللازم لإجراء عملية زرع قوقعة في أذني. ولكنّي لم أكمل جلسات إعادة تأهيل سمعي ونطقي بسبب عدم تجاوب أهلي. ومع الوقت حصلتُ على عقد محدّد كمختصّة نفسيّة لرعاية أطفال مصابين بالتوحّد. فمَن أكثر منّي يعلم معنى الوحدة والعيش في عالم حيث التواصل مقطوع؟ مَن أفضل منّي يعرف العذاب الذي يُحيط بكلّ مَن عاش وسط مجتمع لا يُحسن تكلّم لغّته؟
واعتقدتُ فعلًأ أنّني لن أحظَى بحياة طبيعيّة يومًا ما، وأعطيتُ كلّ حبّي وحناني لهؤلاء الأطفال حتى كافأني القدر على عذابي وعطائي. فكما ذكرتُ سابقًا، لم أكن أختلط بالناس، وخاصة الشبّان، معتقدة أنّ لا أحد منهم يُمكنه أن يشعر بالرغبة في التواجد معي. فالجدير بالذكر أنّني لا أسمع الكلام بالرّغم مِن الجهاز السمعي الذي أضعه، بل أعتمد على قراءة الشفاه. أمّا بالنسبة للنطق، فأفضّل أن أبقى صامتة على أن أتكلّم مع أحد بصعوبة.
وعندما تعرّفتُ إلى أيمَن عند زميلة لي، فعلتُ كما أفعل دائمًا عندما ألتقي بأناس جدد: أصمت وأنسحب مِن المحادثة. ولكنّ ذلك الشاب أصّر على معرفة رأيي بموضوع هام، فكرّر سؤاله. عندها نظرتُ إليه بحزن ومِن ثم بتحدٍّ وتمتمتُ بضعة كلمات. حدّقَ بي مطوّلًا فأشرتُ له إلى أذنيّ ومِن ثمّ إلى فمي. عندها قال:
ـ آه... فهمتُ الآن... ولكنّ ذلك لا يمنعكِ مِن إبداء رأيكِ... أليس كذلك؟
وأخَذَ ورقة وقلمًا وأضاف:
ـ تفضّلي!
وكتبتُ له جوابي. وعندما قرأه أضاف على الورقة قبل إرجاعها إليّ:" الآن دوّني رقم هاتفكِ مِن فضلكِ".
وبدل أن أدّون رقمي كتبتُ له: "لا أسمع المكالمات الهاتفيّة جيّدًا... ربما مِن الأفضل أن تتابع أحاديثكَ مع شخص آخر". وردّ إليّ الورقة مجدّدًا:" هناك الوتساب... ورأيكِ بأمور عديدة يهمنّي".
وبدأنا نتراسل، ولكنّني لم أكن مستعدّة للجلوس معه خاصة في مكان عام كي لا يرى الناس صعوباتي بالتواصل وأحرج أيمَن وأدفعه إلى الخجل بي. ولكنّه كان مِن النوع الذي لا يقبل الرّفض. وبتشجيع مِن أختي الصغرى، قبِلتُ دعوته لاحتساء القهوة. وكان قد أحضَرَ معه دفترًا لنكتب عليه، وكان يُكلمّني ببطء لأركّز على شفاهه. أخذتُ القلم وكتبتُ:
ـ لماذا كلّ هذا العناء؟ أليس مِن الأفضل لك أن تجد فتاة طبيعيّة؟
ـ لا... فأمامي فتاة تفوق الطبيعة."
حاورتها بولا جهشان
