الحبّ... هذا الشعور الجميل الذي يسكننا ويُعطينا سببًا لانتظار طلوع الشمس في كلّ صباح... كم أتوق إليه اليوم. فأنا بالرّغم مِن سنّي اليافع فقدتُ رغبتي بالأشياء والناس. حبيبتي مريَم... كيف تصدّقّين تلك الأقاويل البشعة عنّي مِن دون أن تتأكّدي منها؟ ألهذه الدرجة أوحَيتُ إليكِ أنّني معدوم الأخلاق؟ ألَم تسألي نفسكِ عن دوافع تلك التي بثَّت الأذيّة والسمّ بيننا؟ سامحتُك طبعًا، ولكنّ مرارة حياتي تذكّرني بكِ في كل نَفَس آخذه...
مريَم حبيبتي...
لم تكن حياتي سهلة بعد أن توفَّيَت والدتي الحنونة وأنا في الثانية مِن عمري. حُرِمتُ مِن محبّة الأمّ ومخافتها عليّ والسّهر على سعادتي. وبعد رحيل والدتي، توفّي أيضًا عمّي شقيق أبي فارتأى الكلّ أنّ جمع شمل العائلَتَين كان الأنسب. فتزوّج أبي مِن زوجة عمّي وسكَنّا جميعًا في بيت واحد. أقول جميعًا لأنّه كان لتلك المرأة أولاد، مِن بينهم فتاة شريّرة عمِلَت جهدها لتنكيد حياتي. لماذا تفعل ذلك؟ ربمّا لأنّها رأت فيّ الدخيل غير المرغوب فيه أو لأنّها وقَعَت بحبّي وأرادَتني لنفسها.
ووجدتُ نفسي لوحدي وسط أب مشغول وزوجة أب غير مبالية. فلم أكن ابنها ولَم تَرَ سببًا للاهتمام بي. هي لم تعذِّبني بل تجاهلَتني، الأمر الذي كان أفظع مِن أيّ عذاب.
وكبرتُ بهدوء أمضي وقتي في غرفتي أو برفقة بعض الأصدقاء، وبدأتُ أعتاد على حياة لا طعم لها.
ولكنّ أيّامي أخَذَت منعطفًا آخرًا عندما دخلَت عليها مريَم ابنة خالتي. كنتُ قد رأيتُها مرّات عدّة خلال طفولتي، ولكنّ البعد فرَّقَ بيننا ونسيتُ حتى شكلها. إلا أنّها كانت قد كبَرت لتصبح صبيّة جميلة ورقيقة. وعندما التقَت نظراتنا، علِمتُ أنّها ستكون الأميرة التي ستجلس على عرش قلبي. إبتسَمت مريَم لي وأدخلَت الدفء إلى عروقي الباردة.
قضينا النهار نتكلّم عن أشياء صغيرة، ولكن ما كان يهمّني هو النظر إلى عينَيها وهي تحكي لي عن المدرسة ورفاقها وطموحاتها. وحين غادرَت مع أهلها في المساء شعرتُ بالبرد مجدّدًا.
كنّا قد تبادلنا أرقام الهاتف لنكمل حديثنا، وباتَ سماع صوتها هو المحطّة الوحيدة المهمّة في أيّامي. لم أكن أبالي لشيء آخر فمهما حدثَ لي كنتُ على ثقة من أنّ نغمات حنجرتها ستعيد إليّ فرحتي وأملي.
ونَما حبّنا يومًا بعد يوم حتى أن صِرنا نتنفّس كلمات بعضنا. وكان اللقاء الثاني. أذكر كم كان قلبي يدقّ بسرعة وأنا انتظرها في الطريق. وراودَني ألف فكر، وتصوّرتُ مئة سبب لِعدم قدومها ولكنّها أتَت والبسمة على وجهها وهمسَت في أذني: "كم اشتقتُ إليكَ". ومشينا سويًّا ولم أجرؤ على الإمساك بيدها خوفًا مِن الناس وكلامهم. وعندما عدنا حيث التقَينا قطعنا لبعضنا وعدًا: ألا نفترق يومًا مهما قسَت الظروف، فقد كان أمامنا درب طويل وصعب.
وقرّرتُ أنّ عليّ العمل على تأمين أجمل حياة لحبيبتي لتكون فخورة بي عندما نتزوّج، وبدأتُ أبحث عن السبل لذلك.
ولكن في تلك الأثناء كان الشر يتحضّر لأذيّتي. فقد كانت ابنة عمّي قد علِمَت بقصّتي مع مريَم مِن مراقبتي واستراق السمع وراء باب غرفتي وأنا أتكلّم مع حبيبتي. وحتى عندما التقيتُ مع مريَم وذهبنا لنمشي سويًّا، كانت هي الأخرى هناك مختبئة خلف الأبنية والشجر. وبالرغم مِن سنّها، كانت ابنة عمّي أفعى سامّة بكلّ ما للكلمة مِن معنى. فمَن يتخايل أنّ ابنة الثامنة عشرة ستقصد مريَم وتتودّد إليها وتوهمها أنّها صديقة لا تريد سوى مصلحتها؟ كيف لي أن ألوم حبيبتي على تصديقها فلا هي ولا أنا كنّا نعلم بوجود هذا الكم مِن الشرّ؟
وأصبحَت الفتاتان أعزّ الصديقات، وصارَت ابنة عمّي تلعب بعقل مريَم وتزرع فيه أفكاراً سيّئة عنّي. وقالَت لها إنّني ولد صائع أحبّ معاشرة الشباب الضائع والبنات السهلة وأنّني أحتسي المشروب وأدخّن. ويومًا بعد يوم بدأت مريَم بتصديق تلك الأقاويل وتبتعد عنّي.
بالطبع لاحظتُ برودة حبيبتي عبر الهاتف، وعندما سألتُها عن السّبب اختلَقَت الحجج. ويا لَيتها أفصَحت عمّا في قلبها لكنتُ برهنتُ لها عدم صحّة ما سمعَته. ولكن، على ما أظنّ، اعتبرَت أنّها لا تستطيع خيانة ثقة ابنة عمّي وإقحامها في مشاكل معي، ونسيَت أنّ للمتّهم الحق بالدّفاع عن نفسه. وخفتُ أن تكون مريَم قد التقَت بشاب آخر وأعطَته قلبها الذي وعَدَتني به أنا وحدي، فسَكنني الحزن وتمنَّيتُ لو تمّحي المسافة التي تفصلنا لأستطيع التعويض لها عن بعدي.
وفي ذات يوم انقطَعَت أخبار مريَم ولم أعد قادرًا على الاتصال بها. إمّا كانت لا تجيب أو تحظرني بكلّ بساطة. وصرتُ كالمجنون. في البدء خلتُ أنّ مكروهًا حصل لها، وأسرعتُ بالاتصال بخالتي التي طمأنَتني عن الجميع. وبقيتُ أتساءل عن سبب ذلك الصّمت المرير، حتى جاءَت ابنة عمّي إلى غرفتي ووقَفت عند الباب وقالَت لي:
ـ كيف حال الحبيب؟
ـ ماذا تريدين؟ ومنذ متى تسألين عن أحوالي؟
ـ منذ ما تركتكَ مريم.
ـ وما أدراكَ بالأمر؟
ـ يا مسكين يا أحمد... أنتَ بالفعل بريء... مريَم أعزّ صديقاتي... وكان مِن واجبي تنبيهها.
ـ لم أفهم...
ـ إسمع يا... أخي... ههه... كم أنّ تلك الكلمة غريبة... اسمع... مريَم تستحق أفضل منكَ... عندما شعرتُ أنّ شيئًا يحدث بينكما أخذتُ على عاتقي التقرّب منها وإخبارها عنكَ لتعرف حقيقتكَ.
ـ حقيقتي؟ وما هي؟
ـ أنّكَ مِن دون أخلاق... معشركَ سيّء وتتعاطى الشراب والسجائر.
ـ أنا؟ أجلس في غرفتي طوال الوقت... وأصدقائي مثلي أناس طيّبون ومسالمون!
ـ ربما... ولكن هذا ما قلتُه لحبيبتكَ.
ـ لماذا تفعلين ذلك بي؟ لماذا؟
ـ مِن دون سبب... فقط لأنّني قادرة على ذلك... آسفة لإزعاجكَ... سأتركَكَ ويأسكَ.
وركضتُ إلى بيت خالتي، ولكنّني لم أستطع التكلّم مع مريَم التي ادَّعَت المرض.
وانتهى كلّ شيء. انتظرتُ أيّامًا وشهورًا أيّ إشارة منها مِن دون جدوى.
ولقد مرّ على فراقنا خمس سنوات ولم يتغيّر حبّي لها أو يخفّ. لا أعلم شيئًا عنها ولا أدري إن كانت تتّبع أخباري. كلّ ما أعرفه هو أنّ حياتي مِن دونها فارغة.
هل ستقرأ قصّتي وتعلم بالذي حصل فعلاً، أم أنّ ما مررتُ به سيبقى سرّي لوحدي؟
أحيانًا أقول لنفسي إنّ عليّ نسيانها والبحث عن فتاة أخرى تُفرح قلبي وتملأ فراغه. ولكنّ صورة مريَم وصوتها يُرافقاني طوال الوقت. لقد استحوَذَت على روحي وملكَته إلى الأبد. ولا أزال أجلس لوحدي في غرفتي أحدّق بالجدران وأتذكّر أحاديثنا وأبتسم قبل أن أدرك مِن جديد أنّها مجرّد ذكريات.
مَن قال إنّ الرجال لا يُجيدون الحبّ؟ فأنا خير مثال على أنّ المشاعر لم تُعطى لذلك أو تلك بل أنّها ملك كلّ إنسان ذاق طعم السعادة ولو لفترة وجيزة.
سأظلّ أبحث عن مريَم في عينَي كلّ فتاة ألتقيها، على أمل أن أستعيد قلبي وأشعر بخفقاته مِن جديد.
حاورته بولا جهشان