كنتُ دائماً أقول لزوجي أنّه متساهلٌ مع إبنتنا الوحيدة وكان يجيبني:
- لاعليكِ، فإنّها تستاهل ما هو الأفضل في هذه الحياة. ربما يأتي يوم وتتزوّج مِن رجل لن يحسن معاملتها... لا أستطيع تصوّر ذلك... على كل الأحوال، لن أدع أحداً يسيء إليها... إنّها جوهرتي الثمينة.
كنتُ أتفهّم سبب هذا التعلّق، فبعد أن ولدَت سعاد، قال لنا الطبيب أننا لن نستطيع إنجاب طفل آخر، فصببنا كلانا إهتمامنا عليها وعلقّنا جميع آمالنا بها. ولكنني كنتُ أكثر إعتدالاً منه في تربيتي، لأنني كنتُ أعلم أنّ الدلع المفرط لا يفيد الأولاد. وبما أننا كنّا مرتاحين ماديّاً، حصلَت سعاد على كل ما أرادته دون أيّ عناء، ما زاد مِن إصرارها على نيل كل ما وقع نظرها عليه، بما فيه الرجال رغم قوامها العادي، فهي لم تكن لا جميلة ولا جذّابة. وهكذا كان الوضع: تختار إبنتي صديقاً لها مِن بين أفضل وأجمل الشبّان وهم يخرجون معها لأنّها كانت تجلب لهم الهدايا وتحاسب عنهم في المطاعم. حاولتُ تنبيهها أنّ هذه الطريقة لا تجلب السعادة، بل كل مَن طمعَ بمالها ولكنّها لم تسمع مني وتابعَت ما كانت تفعله حتى أن وقعَت بحبّ مدرّب التنس الخاص بها وقررَت أن تتزوّجه. أتذكّر اليوم الذي أتَت به إلى البيت وعرّفَت عنه:
- أمّي... أبي... هذا هو الرجل الذي سأعيش معه حتى آخر أيّامي.
نظرنا إليه وعلمتُ فوراً أنّ ذلك الشاب الوسيم لا يسعى سوى إلى تأمين حياة مريحة لنفسه وأنّه زير نساء. أمّا زوجي فقال له فوراً:
- إسمع يا... خالد... إذا كنتَ تريد أن تعيش بسلام معها، عليك معاملة إبنتي وكأنّها أميرة... هكذا تستحقّ ولن أرضى بطريقة أخرى.
- وهذا ما سأفعله سيّدي.
وأظنّ أنني كنتُ الوحيدة التي رأت حقّاً حقيقة خطيب إبنتي وتمنيّتُ مِن كل قلبي أن أكون مخطئة. وأقمنا لسعاد عرساً فاخراً وعاشَت مع زوجها في شقّة إشتراها لها أبوها، بعدما فرشها لها بأجمل الأثاث. وكان مِن المفروض أن نعيش جميعاً بسلام بعد ذلك ولكنّ الواقع كان مختلفاً، لأنّ صهري لم يكن يحبّ إبنتي ورأى فيها فقط وسيلة لتأمين مستقبله. أمّا هي، فكانت مغرمة جداً به وبدأت ترى بالحقيقة شيئاً فشيئاً ممّا ولّدَ عندها مرارة لم تكن قادرة ان تخفيها عنّا. وملأ الحزن قلب زوجي، لأنّه أراد السعادة لإبنته وبدأ يكره ذلك الرجل الذي حصل على كل شيء رغم أنّه لم يكن جديراً بأن يربط حذاء "أميرته". وعندما كان خالد وسعاد يأتيان إلى منزلنا خلال فرصة نهاية الأسبوع، كانا يحاولان أن يبدوان سعيدان ولكن سرعان ما كان يبدأ الشجار وينتهي النهار على خلاف حاد. فصهرنا، كان ما زال يواعد نساء أخروات، كما كان يفعل قبل الزواج ويمضي معظم وقته خارج البيت تحت ذريعة أنّه يعطي دروساً في التنس لجلب المال. فعرضَت عليه إبنتي أن يغيّر عمله. فأجابها:
- وماذا تريدينني أن أفعل؟
- أستطيع التكلّم مع أبي... يعرف أناس كثر في مجالات مختلفة...
- هذا لن ينفع! لستُ معتاداً أن أعمل عند أحد... أريد أن أكون سيّد نفسي.
- حسناً... ربما سيقرضنا بعض المال لكي تبدأ عملكَ الخاص وتترك دروس التنس... لا أريد أن تحوم النساء حولكَ بعد الآن.
- هذا يتوقّّف على المبلغ الذي ستحصلين عليه... كلّما كان كبيراً كلّما أقنعتنيني بالعدول عن التنس.
وجاءت إلينا سعاد وطلبَت المال وأعطاه إيّاه زوجي قائلاً:
- قولي لهذا الفاشل، أنّه لن يرى قرشاً إضافيّاً... أنا لم أعمل طوال حياتي لكي أعطيه ما جنيته.
وأسّسَ خالد مدرسة للتنس، ما أثار غضب إبنتي لأنّه لم يتغيّر شيء سوى أنّ عدد النساء اللواتي تتعلّم هذه الرياضة قد زاد وزادَ أيضاً خوف سعاد بأن تخسر الرجل الذي تحبّه أكثر مِن كل شيء. فإنهارت أعصابها ولم تعد تأكل ولا تشرب وبات شكلها مخيفاً، أمّا هو فإنهمكَ في إدارة معهده ولم يعد يطلّ على المنزل إلّا لينام. جنّ زوجي عندما رأى سعاد وأقسم أنّه سيلقّن هذا الوضيع درساً لن ينساه. ولكنني تدخّلتُ ومنعتُه مِن فعل أي شيء:
- إبنتنا ليست طفلة... دعها تحلّ مشاكلها مع زوجها لوحدها... هي أرادَته فعليها إيجاد مخرجاً بِنفسها.
- ولكنّها إبنتي الوحيدة! أنتِ لا تحبّينها!
بالطبع كنتُ أحبّ إبنتي ولكنني كنتُ أعلم أنّ لجوءها إلى أبيها لم ولن يكون الحل، بل كان عليها أن تكون حازمة مع ذلك الرجل الذي كان طامعاً بمالها. وهذا ما قلتُه لها ولكنّها لم تسمعني وبقيَت تسامحه على كل شيء. حتّى جاء نهار ووقع في حبّ إحدى عشيقاته. عندها لم يعد يأبه للمال أو الجاه وكان مِن جهة أخرى قد أسّس معهده بشكل يؤمّن له ولحبيبته حياة مريحة دون أن يحتاج إلى سعاد أو لزوجي. وأخبرَها أنّه يريد أن يطلّقها ويتزوّج مِن أخرى ولم تتحمّل سعاد الخبر فأخذَت سكّيناً وفتحَت عروقها أمامه. أخذها فوراً إلى المستشفى حيث إهتمّوا بها وأنقذوا حياتها.
ركضنا لنراها وعندما إلتقى زوجي بخالد هجمَ عليه وحاول ضربه ولكنّ الآخير كان أقوى وأسرع وفرّ مِن المستشفى ركضاً. جلسنا قرب سرير إبنتنا ووعدناها بأن نكون دائماً بقربها. وعند خروجها، أخذناها إلى بيتنا وإلى غرفتها عندما كانت عزباء وحاولنا إقناعها بأن تطوي صفحة الماضي وأن تنسى خالد. ولكنّها لم تستطع نسيانه وأخذَت تتدهوّر صحّتها. عندها لم يبقى لزوجي سوى حلّاً واحداً وهو أن يكلّم خالد وأن يقنعه بالعودة إلى سعاد. حضّر له عرضاً لا يستطيع رفضه وذهبَ ليراه في المعهد:
- إسمع... أنا لا أحبّكَ وأظنّ أنّكَ على علم بذلك... لقد أسأت معاملة إبنتي منذ اليوم الأوّل...
- لذا أريد الرحيل.
- ولكن هي تحبّكَ وكثيراً... أكثر مما تستحقّ... كادَت أن تموت سعاد بسبب هذا الحبّ... ولن أخسر إبنتي مهما كلّفني الأمر... لذا سأعرض عليكّ ما يلي: سأعطيكَ المبلغ الذي ستطلبه مهما كان إذا عدلتَ عن ترك سعاد ووعدتَني أن تبتعد نهائيّاً عن صنف النساء... ماذا تقول؟
- كنتُ سأقبل بعرضكَ في ما مضى ولكن الآن سأرفضه، لأنني وجدتُ أخيراً الحبّ الحقيقي... قضيتُ حياتي أركض وراء النساء وآخذ منهنّ كل ما أريده حتى أن إلتقيتُ بإمرأة رائعة وكلّ ما أريده الآن هو أن أقضي حياتي معها... لا أحبّ سعاد ولا أستطيع العيش معها ولو ثانية واحدة... أنا آسف.
- ولكن سعاد قد تعاود محاولتها بالإنتحار... قد تموت إبنتي بسببكَ...
- هذا ليس مِن شأني... لن تكون أوّل إمرأة يتركها زوجها ولا الأخيرة... عليها مواجهة هذا الواقع وإذا لا تستطيع فعل ذلك، فأنا لستُ مسؤولاً.
عندها إنتاب زوجي غضب كبير ومسكَ المسدّس الذي كان قد أخذه معه وأطلقَ النار عدّة مرّات على خالد وأرداه قتيلاً. ومِن ثمّ أخذ الهاتف وإتّصل الشرطة ليسلّم نفسه. ركضَ موظّفو المعهد ورأوه جالساً على كرسيّ قرب جثة صهره وحاولوا إنعاش الفقيد ولكن مِن دون جدوى. وبعد دقائق قليلة، وصلَت الشرطة وإعتقلَت زوجي. كانت صدمة كبيرة ولم أستوعب ما حصل إلّا بعد حين. إتّصلتُ بمحامي وذهبتُ إلى القسم، لأكون قرب والد إبنتي، فرأيته في الزنزانة مرتاحاً لأنّه تخلّص مِن الذي تسبّب في تعاسة التي أحبّها أكثر مِن كل شيء.
أمّا سعاد فأصابها الجنون، لأنّ زوجها مات والذي قتله كان أبيها وأخذتُها إلى مستشفى للأمراض العقليّّة للمعالجة. مضى على هذه الحادثة أكثر مِن خمس سنوات وما زالت إبنتي في المصحّ وزوجي يقضي في السجن عقوبة عشرين سنة. أمّا أنا فبقيتُ وحيدة، أقضي وقتي بين زيارة سعاد وزيارة زوجي وأسأل نفسي ما كان حصل لو ربيّنا إبنتنا بشكل مختلف وجعلنا منها إنسانة واعية وقويّة تحسن الإختيار وتتحمّل صدمات الحياة.
حاورتها بولا جهشان