زوجةٌ رائعة!

بحثتُ عن بديلة لأمّي فوجدتُها في آمال، سيّدة أربعينيّة التقَيتُ بها صدفةً وشدَّتني بأنوثتها الناضِجة ونظرتها المليئة بالحنان. حصَلتُ على رقم هاتفها بحجّة أنّني أريدُ شراء بوليصة تأمين مِن شركتها، وسرعان ما صارَ حديثنا عبر الهاتف أكثر حميميّة إلى حين أدرَكنا أنّنا سنصير ثنائيًّا إلى الأبد. في ذلك الوقت، لَم أكن أعلَم أنّها تُمثِّل بالنسبة لي صورة أمّي التي لَم أعرِفها لأنّها ماتَت وهي تلِدني، وظنَنتُ حقًّا أنّه حبّ كأيّ حبّ آخَر... باستثناء فارِق العمر الشاسِع بيننا. فآمال كانت تكبرني بحوالي الخمس عشرة سنة، ولَم يهمّني الأمر كثيرًا فهي كانت سيّدة نشيطة ومُفعَمة بالحياة وتُحافظ على قوامها وأناقتها. فالكلّ يعلَم أنّ المرأة تكون بِذروة أنوثتها في ذلك العمر، وتستطيع جذب الرجال مِن أيّ سنّ كانوا. لكنّني لَم أُفكِّر بأنّ حبيبتي قد لا تستطيع الإنجاب أو على الأقلّ ليس لفترة طويلة، فكلّ ما همَّني آنذاك هو أن أكون معها، بين أحضانها، أستمِع إلى صوتها العذب ونصائحها الصائبة. فالجدير بالذكر أنّ آمال كانت سيّدة أعمال ناجِحة، في حين كنتُ موظّفًا عادّيًّا في شركة صغيرة، وذُهِلتُ لِدهائها وقوّة منطقها. ومعها كنتُ أشعرُ بالأمان لأوّل مرّة، وكأنّ لا شيء مُريبًا أو مُخيفًا سيحدثُ لي، فقاومتُ كلّ مَن حولي لأتزوّجها، حتّى لو عنى ذلك قطع الصِلة مع أقرَب الناس. ويوم زفافي كنتُ أسعَد رجُل، وهي كانت أجمَل عروس.

بعد الزواج مُباشرةً، أقنعَتني آمال بترك وظيفتي والعمَل لدَيها في الشركة، وعلّمَتني أسرار المهنة بحذافيرها، ولولا تشجيعها لَما استطعتُ التعامل مع العملاء وبَيعهم بوالِص تأمين. شعرتُ بالقوّة والإقدام، وهي افتخرَت بي أمامي وأمام الناس، الناس ذاتهم الذين بقوا ينظرون إلى زواجنا وكأنّه خطأ جسيم وينتظرون نهايته المحتومة. كنتُ أعلَم ما يُقال، وهو أنّني اقترَنتُ بآمال بسبب مالها، وإلّا لِماذا أتزوّج مِن امرأة أكبَر منّي سنًّا لا تستطيع إعطائي ذرّيّة؟ هم لَم يفهَموا حبّي لها وحبّها لي، فليذهبوا كلّهم إلى الجحيم!

وعلى مرّ السنوات، صرتُ مُدير الشركة وأهتمُّ بكلّ شيء بضمير وعَزم، الأمر الذي دفعَنا إلى فتح فرع في الخارج بعدما كانت لنا فروع عديدة في البلَد. سافَرتُ لوحدي للاهتمام بكلّ التفاصيل لِأعودَ لاحقًا... وفي تلك السفرة التقَيتُ بِـ"الحبّ الحقيقيّ".

كان اسمها ندى، وكانت مِن سكّان ذلك البلَد وإحدى الموظّفين الجدد لفرعنا. كنتُ قد أجرَيتُ بنفسي المُقابلة معها، لأنّ مُدير الموارد الانسانيّة كان مشغولًا بإجراء مُقابلات مع موظفين آخَرين، واختَرتُها لسيرتها الذاتيّة المُذهِلة... وجمالها ورقّتها. للحقيقة، لَم أستوعِب في الحال أنّني أُعجِبتُ بها، بل لاحقًا حين بدأتُ أراها يوميًّا في الفرع وأُفكِّر بها خلال اليوم والليل. فقد صارَت ندى جزءًا مِن أحلامي فرأيتُها خلالها معي ولي، وبالطبع شعرتُ بالذنب حيال زوجتي التي وثِقَت بي إذ ربطَت حياتها بي وكذلك أعمالها، ودفعَتني ليكون لي طموح كبير وثقة أكبر بنفسي. لستُ فخورًا ولَم أبحَث يومًا عن أيّ عِذر، خاصّة عذر فارِق العُمر، فالعديد مِن الأزواج يخونون زوجاتهم الأصغَر سنًّا منهم.

أقَمتُ علاقة رومنسيّة مع ندى، وفكّرتُ بالطلاق لكن ليس جدّيًّا، وعُدتُ وتذكّرتُ أنّني أستطيع الزواج مِن ندى والبقاء مُتزوِّجًا، على الأقلّ على الورق. أعجبَتني الفكرة، فعرضتُها على ندى شارِحًا لها أنّني لا أستطيع أن أخذل التي أعطَتني كلّ شيء، وهي قبِلَت أن تكون زوجتي الثانية. لكن في تلك الفترة بالذات، أخبرَتني آمال أنّ المُحاسِب قال لها إنّ أرقامنا السنويّة لَم تكن جيّدة على الاطلاق، وإنّ علينا تأجيل مشروع الفرع في الخارج بإقفاله، وطالبَتني بالعودة للبحث بالمُستجدّات. ودَّعتُ حبيبتي واعدًا بالعودة بأسرع وقت وطِرتُ إلى البلَد.

عدتُ إلى حياتي العادّيّة بعد رجوعي، وفعلتُ جهدي وزوجتي لإعادة الشركة كما كانت، فالفترة التي سبقَت كانت صعبة اقتصاديًّا. وهذا العمَل الدؤوب شغلَني لدرجة أنّني أهمَلتُ ندى، ولَم أعُد أتكلّم معها عن زواجنا المُرتقَب لأنّه بدا لي بعيدًا بعض الشيء. فكان في بالي أنّ مُستقبلنا سيكون هناك حيث هي، بينما أُكبِّر الفرع الجديد وأنعَم بأطفال تمنّيتُهم سرًّا وحلِمتُ بهم، فقط بدافع استمراريّة إسمي وتحقيق رجوليّتي. فعلى خلاف النساء، لا يكنّ الرجُل شعورًا بالأبوّة تجاه أولاده، إلّا لاحقًا حين يكبرون بعض الشيء.

مرَّت سنة بكاملها على هذا النحو، وعلِمتُ مِن ندى أنّها ستتزوّج مِن غيري بعدما سئمَت الانتظار، فتوسَّلتُ إليها أن تُمهلَني بعض الوقت، إلّا أنّها لَم تُعد تُصدِّق وعودي، فتمَّت خطوبتها على شاب كان عازِبًا على خلافي، وكان مِن أحَد الموظّفين الذين تمّ اختيارهم للعمَل في الفرع الخارجيّ، يا لسخرية القدَر! شعرتُ بالخوف لأنّني لن أجِد فرصة ثانية، وأنّني لن أعرِف بعد ذلك طعم "الحبّ الحقيقيّ" بعد أن ذقتُه مع ندى. لِذا أخذتُ طائرة إليها، بعد أن أقنَعتُ آمال بأنّ عليّ التفاوض مع صاحب عقار الفرع الجديد بعدَم تأجيره ريثما نستطيع فتحه مِن جديد. لكن في ذلك اليوم بالذات وقَبل أن تحطّ طائرتي، عُقِدَ قران حبيبتي بعد أن أقنعَها خطيبها بعدَم وجوب الانتظار أكثر مِن ذلك. بكيتُ كثيرًا، ثمّ استوعَبتُ أنّ الله لا يُريدُني أن أُحِدثَ ألَمًا فظيعًا لزوجتي بالزواج سرًّا عليها.

بعد ذلك صارَت حياتي بلا مذاق، فأكملتُها كالرجُل الآليّ. فعلَت آمال جهدها لأستعيدَ بسمتي، وسألَتني مئة مرّة عن سبب كآبَتي إلّا أنّني لَم أقُل لها أبدًا ما كنتُ أنوي فعله، أو حتّى كيف أنّني فهمتُ أنّني لا أُحبُّها فعلًا، بل انبهرَتُ بذكائها وشطارتها وشدَّني إليها حنانها الذي افتقَدتُ له طوال حياتي. كيف أقولُ لها إنّني وجدتُ فيها الأمّ وليس الحبيبة؟ فهي كانت في آخِر المطاف امرأة بكامِل أنوثتها، ولن تفهَم أنّها بالرغم مِن روعتها ليست حبّ حياتي. وبقيتُ أتتَبَّع أخبار ندى بواسطة إحدى صديقاتها، وعرفتُ منها أنّها تواجِه مشاكل زوجيّة بسبب عدَم قدرة زوجها على إعطائها الحياة التي تحلمُ بها، أيّ الحياة التي وعدتُها بها. فالجدير بالذكر أنّ لِندى ذوقًا رفيعًا ومُتطلّبات عديدة كنتُ قادِرًا على تلبيَتها، أمّا بالنسبة لذلك الشاب، فكان هذا الأمر صعبًا جدًّا. أعترفُ أنّني فرِحتُ ضمنيًّا لهذا الخبَر، فلو صبِرَت ندى لكانت الآن تعيشُ كالملِكة!

وبعد حوالي الشهرَين، حصَلَ ما غيَّرَ حياتي إلى الأبد: وقعتُ ضحيّة حادث سيّارة حطَّمَ عظامي وأقعدَني لفترة طويلة في كرسيّ مُتحرِّك. ولو رأيتم حالة آمال! كان الأمر وكأنّ الحادث حصَلَ لها شخصيًّا، وصِرتُ أنا الذي أواسيها! وبعد أن ترَكتُ المشفى أخيرًا وعدتُ إلى البيت، عاملَتني زوجتي مُعاملة لَم أظنّها قادِرة عليها أو أيّ امرأة أخرى. فإلى جانب قيامها عن بُعد بعمَلي في الشركة، هي كرّسَت نفسها لي كلّيًّا جسديًّا وعاطفيًّا ومعنويًّا، لِدرجة أنّني خجِلتُ مِن نفسي لِما كِدتُ أن أفعَله بها في ما يخصّ ندى. أيّ مجنون كنتُ؟ كيف أبدِّلُ هكذا جوهرة بصبيّة تافِهة لِدرجة أنّها، كما علِمتُ، تركَت زوجها أخيرًا لتجِدَ آخَر أكثر ثراءً؟ ماذا كانت ستفعلُ بي لو تزوّجتُها ووقعَت تلك المُصيبة لي؟ حتّى صديقتها إشمأزَّت منها حين رأتها تتركُ زوجًا طيّبًا، بذريعة أنّه لا يشتري لها الحقائب الفاخِرة التي تراها على كتِف النساء في المجلّات.

أكَلَني الذنب ووجَع الضمير، فوعدتُ نفسي بأن أرُدّ لآمال الجميل إن هي احتاجَت لي، خاصّة أنّها ستشيخ قبلي. فخلال تلك الفترة، إكتشفتُ أنّني كنتُ قد وجدتُ الحبّ الحقيقيّ منذ البداية ولا لزوم للبحث عنه في مكان آخَر، وحنانها لي لَم يكن حنان أمّ لابنها، بل حنان زوجة حقيقيّة لِزوجها... مُغفَّل أنا!

تحسَّنتُ شيئًا فشيئًا وصِرتُ قادِرًا على المشي، فأخذتُ عن زوجتي عبء عمَل الشركة وخفّفتُ عنها الحِمل في ما يخصّ إعاقتي. كنتُ أعلَم أنّها تعِبَت كثيرًا، فعرضتُ عليها أن نُسافِر في شهر عسَلَ ثانٍ حين أتعافى تمامًا، وهذا ما فعَلناه.

ذهبنا إلى اليونان وإلى جزرها الرائعة الواحدة تلوَ الأخرى، وهناك التقَينا صدفةً بمحاسِب الشركة الذي كان يقضي فرصته السنويّة مع زوجته. وبينما كانت المرأتان تتحدّثان سويًّا، فتحتُ معه موضوع وضع الشركة عامّةً، ثمّ تطرَّقتُ إلى النكسة الماليّة التي أدَّت إلى تسكير فرعنا في الخارج. عندها هو تفاجأ كثيرًا، وقال إنّ أوضاع الشركة لَم تنتكِس يومًا، بل إنّ أرباحنا بقيَت تتزايَد سنة بعد سنة. عدتُ وسألتُه مرّة أخرى عن الموضوع لكنّه بقيَ مُصِرًّا على كلامه... وفهمتُ ما فعلَته آمال. فلا بدّ أنّها علِمَت بعلاقتي بندى، لكن كيف؟ هل عبر أحَد الموظّفين أو مُدير الموارِد الإنسانيّة؟ وهل هي التي دبَّرَت لِندى حبيبًا؟؟؟

يا إلهي! كيف تفعلُ زوجتي ذلك؟!؟ زوجتي... أجل... فهذا مِن حقّها طبعًا ولا يحقُّ لي أن أغضبَ على اكتشافها خيانتي، بل أن أخجَل مِن نفسي!

ثمّ نظرتُ إلى آمال وهي تتحدّث مع زوجة المُحاسِب... يا لها مِن امرأة! فهي حافظَت عليّ وأبعدَتني بصمت عن عشيقتي مِن دون افتعال مشكل أو تهديدي بتجريدي مِن كلّ شيء، فهي كانت قادِرة على تدميري لأنّني لستُ شيئًا مِن دونها. هي لَم تُعاقِبني على خيانتها حين وقَعَ الحادث وصِرتُ مُقعدًا، بل أحبَّتني أكثر وفعلَت جهدها لأُحافِظ على كرامتي وكياني ورجوليّتي. تلك الرجوليّة التي أخذتُها عذرًا لي لِغشّها والتخطيط للزواج عليها. أيّ وحش أنا؟!؟ رحتُ إليها وعانقتُها وقلتُ للسيّدة الموجودة معها: "آمال هي بالفعل حياتي وكلّ شيء بالنسبة لي... ومعها أعيشُ الحبّ الحقيقيّ!".

لَم أقُل لزوجتي إنّني عرفتُ ما فعلَته، فما الفائدة؟ بل عليّ أن أشكرها لأنّها خلّصَتني مِن صبيّة سخيفة وجشِعة كانت لِتودي بي إلى الهلاك لو أقدَمتُ على الزواج منها. مضى على تلك الأحداث عشر سنوات، ولا نزال كالعرسان الجدد نضحك ونأمَل بالغَد. صحيح أنّها كبرَت في السنّ قليلًا، إلّا أنّني أراها كما كانت يوم رأيتُها لأوّل مرّة، وأعرِفُ أنّ القلائل هم مَن يعيشون سعداء هكذا مع شركائهم. وكلّ ما أطلبه هو أن يحفَظَ لي الله زوجتي الحبيبة، وأنّ يُعطيها العمر الطويل لأنعَمَ معها بأكبَر عدَد مِن الأيّام الجميلة.

 

حاورته بولا جهشان

 
المزيد
back to top button