كم كانت حياتنا صعبة في ذلك البيت الحقير. كنّا سبعة أولاد وبالكاد كنّا نأكل. سألتُ نفسي مرارًا لماذا الفقراء يُنجبون هذا الكم مِن الأولاد عندما لا يستطيعون إطعامهم بينما الأغنياء يكتفون بولد أو إثنَين. وبالطبع لمتُ والدَيّ على إنجابي ورميي في عالم لا يعرف سوى المال. وكبرتُ أفتّش عن لقمة العيش هنا وهناك، وأقوم بأعمال صغيرة لا مردود منها سوى القروش القليلة التي كنتُ أصرفها على قطعة جبن وخبز. وأقسمتُ أن أصبح ثريًّا كي لا أعود وأخاف مِن المستقبل وأنام شبعاناً ولو مرّة واحدة.
ولكنّني لم أكن أملك أيّا مِن المعطيات المطلوبة لبلوغ هدفي، فلم تطأ قدمي المدرسة إلّا سنوات قليلة كانت بالكاد كافية لأفكّ الحرف وأتعلّم العدّ. لِذا اكتفَيتُ ببناء الأحلام.
ولكنّ الله لا يخلق عبيده مِن دون موهبة ولو واحدة وأنا كنتُ موهوباً بالأرقام. لِذا وجدتُ عملًا عند البقّال أعدّ عنه محتوى صندوقه قبل الإقفال. وبعد فترة، تحوّل المحل إلى سوبر ماركت فبقيتُ في عملي وزاد مرتّبي. وبراعَتي في الحساب وصَلَت إلى آذان الجميع، وصرتُ أسدي خدمات مدفوعة هنا وهناك إلى أن جمعتُ مبلغًا لا بأس به وأشترَيتُ به سيّارة أجرة. وبفضل لياقتي وقيادتي الأمينة، كثر الركّاب بشكل سريع.
إلا أنّي لم أشارك أحدًا أرباحي حتى أقرَب الناس إليّ، وذلك خوفاً مِن العودة إلى الفقر. وكي أطمئنّ إلى مصير مدخولي الجديد، إستأجرَتُ شقّة صغيرة وابتعدتُ عمّن كان يُذكّرني بِبؤسي. ولم أضَع طوال حياتي فلسًا واحدًا في المصرف، أوّلًا لعَدَم ثقتي بهؤلاء المرابين وثانيًا لأستطيع رؤية تلك الأوراق الثمينة ولمسها حين أشاء. وحاوَلَ أهلي طلب المساعدة منّي، ولكنّني بقيتُ أتهرّب منهم حتى فهموا أخيرًا أنّ لا جدوى من ذلك. وارتاح قلبي واستطعتُ مواصلة حلمي.
وذات نهار أخبرَني أحد الركّاب أنّ ابن عمّه ربَح الجائزة الأولى بلعبة اللوتو وسافَرَ مِن بعدها حول العالم، وأنّه يُريدني أن اقلّه إلى المطار لاستقباله على أمل أن ينال مبلغًا ولو صغيرًا منه. وللحقيقة لم أصدّق الرجل، فقرّرتُ أن أنزل معه حتى قاعة الإستقبال. فكنتُ قد سمعتُ عن هؤلاء الفائزين ولطالما شكَكتُ بالأمر. وعندما وصَلَ المسافر وعائلته، صفّقَ له مستقبلون كثيرون جاؤوا مهنّئين.
وفي تلك اللحظة أخَذَت حياتي منعطفًا جذريًّا. فتراءى لي أنّ ألعاب الحظ هي أفضل طريقة للربح السريع ولتأمين مستقبلي حتى مماتي. فوداعًا للهمّ وانشغال البال! وبدأتُ أشتري أوراق اللوتو وأملأها بأرقام تاريخ مولدي أو سيّارتي، معتقدًا أنّها تحمل أهميّة ما. ولكنّني لم أربَح. وبفضل مهارتي بالأرقام، أخذتُ أدوّن كلّ الأرقام الرابحة على دفتر صغير وأقارنها ببعضها بحثًا عن رابط يقودني إلى التركيبة المثاليّة.
وفي هذه الأثناء تعرّفتُ إلى أمال، إمرأة مطلّقة ولدَيها ثلاثة أطفال. وعندما أعَرَبَت عن نيّتها الإرتباط بي رسميًّا رفضتُ رفضًا قاطعًا. فلم أكن مستعدًّا لصرف ملّيم واحد على أولاد غيري، بعدما عمِلتُ جاهدًا لتركيز أوضاعي. حتى الصّرف عليها كان موجعًا، وكنتُ أفعل المستحيل للتهرّب مِن الخروج معها كي لا أدفع مِن مالي العزيز. ولكن عندما قالَت لي أمال إنّ زوجها السابق هو الذي يتكفّل بمصاريف أولاده، إرتاح بالي قليلاً.
وقلتُ لحبيبتي:
ـ ومصروفكِ؟ تعلمين...
ـ أعلم! الكرَم ليس صفة مِن صفاتكَ الحسنة... لا تخَف... أنا امرأة عاملة وسأصرف على نفسي... كلّ ما أريده هو مناخ عائليّ لأولادي ورجل يحميني مِن كلام الناس.
ـ ولكنّكِ تحبّيني... أليس كذلك؟
ـ أجل... أجل.
فأنا لم أكن واثقًا مِن حبّها لي خاصة أنّني لم أكن أشعِرها بالأمان. مِن جهّتي، كنتُ أرى في أمال صورة الأمّ العطوف التي تُغرق مَن حولها بحنانها، على خلاف أمّي التي كانت تنجب ولا تربّي. وكنتُ على حق، فأعطَتني زوجتي ما كان ينقصني وأظنّ أنّنا كنّا سنعيش بسلام لولا ولَعي باللوتو. فما بدأ كاختبار أصبح إدمانًا.
وعلى مرّ الأسابيع والأشهر ومِن بعدها السنين، بات لي دفاتر مليئة بالأرقام أتفحّصها ليلًا نهارًا محاولًا إيجاد الرابط بينها.
وسئِمَت زوجتي منّي بعدما حاولَت إقناعي بأنّني أضيّع وقتي:
ـ لا أفهمكَ... تصرف مالًا وفيرًا على اللوتو وتحرمنا مِن أبسط الأمور... ما هذا التناقض؟ ألسنا أجدر بمالكَ؟
ـ لدَيّ مخطّط... سأربح الجائزة الأولى... سترَين؟
ـ وماذا ستفعل بها؟
ـ سأحتفظ بالثروة في... لن أقول لكِ أين... وأعيش بأمان.
ـ ستحتفظ بالثروة لك وحدك؟ ألن تتقاسمها معنا؟
ـ هل فقدتِ عقلكِ؟ ولِما أفعل؟ هم ليسوا أولادي وأنتِ تجنين ما يكفيكِ!
ـ حسبتكَ تغيرّتَ... إعتقدتُ أنّكَ ستحبّني وتحبّ أولادي...
ـ أحبّكِ... أحبّكِ! أطلبي ما تشائين ما عدا المال!
ولكثرة انشغالي باللوتو، بدأتُ أهمل عملي وأفضّل البقاء في البيت أفكر بحسابات الأرقام. وكلّما شعرتُ أنّني وجدتُ التركيبة السريّة، كنتُ أذهب إلى البائع وأشتري عشرات الأوراق وأعبّئها حسبما يمليه عليّ منطقي. ولكن كالعادة كنتُ أصطدم بفشل ذريع. ولم أفهم لماذا حساباتي لم تكن ناجحة، فقد كنتُ أراجع أرقام السّحوبات الرابحة، وأقارنها ببعضها وأدوّن التي تأتي دائمًا أو حتى نادرًا. كان لا بّد أن أعثر على نمط يأتيني بالرّبح والمال .
وبِعتُ السيّارة بعدما أنفقتُ المال الذي كنتُ وضعتُه جانبًا. ولكنّني لم أكن حزينًا، بل كان أمَلي بالرّبح يُعطيني الحافز اللازم لإجتاز محنتي. وفي يوم مِن الأيّام، عدتُ إلى البيت فلم أجد زوجتي ولا الأولاد. كانت أمال قد تركَتني بعد أن ملَّت تقتيري وهوَسي. فوجَدت أن لا منفعة منّي وأنّها ستكون بحال أفضل مِن دوني. لم أحاول إسترجاعها لكثرة انشغالي ببلوغ هدفي. بل بالعكس إرتحتُ لرحيلها إذ لم أعد مجبرًا على إعطائها شيء مِن جائزتي عندما أربحها.
ومرَّت سنة وباتَ وضعي صعبًا جدًّا. وفي ذات يوم عندما وصلتُ إلى بائع أوراق اللوتو نظَرَ إليّ الرّجل بتعجّب:
ـ ماذا تفعل هنا؟ يا لوقاحتكَ!
ـ ما الأمر؟ ماذا تقصد؟
ـ ألن تشبع أبدًا؟ أترك فرصة للآخرين!
ـ لا أفهم ما الذي تقوله! أيّة فرصة؟
ـ كيف تأتي لتلعب باللوتو بعدما ربِحَت زوجتكَ الجائزة الأولى؟
ـ ماذا؟ زوجتي؟ متى؟ وكيف؟؟؟؟.
وأخرجَ الرجل صحيفة وأراني إسم أمال الثلاثيّ. وكاد أن يُغمى عليّ. ثم نظرتُ إلى البائع وسألته:
ـ هل إشترَتها مِن هنا؟
ـ أجل... جاءَت وعبّأت الورقة أمامي خلال ثوانٍ... وكانت تلك أوّل تجربة لها... ألستَ على علم بذلك؟
ـ لا... لستُ على علم بشيء.
ـ يا مسكين... حاولتَ جهدكَ طوال سنين...
ـ وبعتُ كلّ ما لدَيّ...
ـ وربحَت زوجتكَ مِن أوّل محاولة.
ـ صحيح أنّها فعلًا لعبة حظ.
حاورته بولا جهشان