رصاصة وهميّة

هذه قصّة أختي تمارا، صبيّة مُفعمة بالحياة أُصيبَت بصدمة رهيبة خلَقَت في قلبها خوفًا شديدًا، لا بل مخاوِف مُتعدِّدة الأوجُه، وكانت التداعيات وخيمة. فالعقل البشريّ هشٌّ للغاية، ويُمكِن تخريبه بلحظة عن قصد أو لا، فيُترَك صاحبه يعيش في عالَم يصعب علينا فَهمه مهما حاوَلنا.

فالواقع أنّ تمارا كانت موجودة في فرَح صديقتها، حين أطلَقَ أحَد الحاضرين النار في الهواء ابتهاجًا، ما أدّى إلى وفاة إحدى المدعوّات وبالتحديد أخت العروس، التي كانت أيضًا صديقة أختي. لَم يُصِب تمارا أيّ مكروه، لكنّها وقعَت أرضًا وأُغمِيَ عليها، حين ركَضَ الناس إمّا لنجدة الضحيّة أو للهَرب خارج موقع الحَفل. وعندما استفاقَت، هي سألَت ما جرى، فطمأنَها الجميع أنّها بألف خير. لكن لدى معرفتها أنّ تلك الصبيّة توفِّيَت، أصرَّت على أنّها هي الأخرى أُصيبَت وبالتحديد في بطنها. ولإسكاتها وتطمينها، أخذوها إلى المشفى حيث خضعَت لفحص دقيق، وقيلَ لها إنّها بالفعل سليمة. لكن ابتداءً مِن ذلك اليوم، تغيّرَت حياة تمارا كلّيًّا.

حين وقعَت الحادثة كنتُ خارج البلاد مع زوجي وأولادي نزورُ حماتي وابنتها، ولدى رجوعي ركضتُ إلى بيت أهلي لأرى أختي التي بالفعل كادَت أن تموت بسبب إنسان جاهِل ومُتهوِّر. على كلّ الأحوال، تمّ إلقاء القبض عليه وبقيَ في السجن بانتظار مُحاكمته.

وجدتُ تمارا تعِبة ونحيلة، مع أنّ كان قد مرَّ على الحادثة حوالي الشهر، وظننتُ، كباقي العائلة، أنّها ستتعافى مِن الصدمة خلال تلك فترة. أمسَكَت أختي ببطنها وقالَت لي همسًا:

ـ الرصاصة لا تزال في بطني، أشعرُ بها تمامًا وكيف هي تتحرّك ببطء في داخلي. إلّا أنّ الكلّ يُصِّر على العكس. إنّهم يكذبون!

 

ـ يا حبيبتي، تمّ فحصكِ، والأطبّاء...

 

ـ كاذبون! مُنافِقون!

 

هي لَم تقتنِع منّي على الاطلاق، بل بقيَت مُمسِكة ببطنها وتصرخ مِن وقت لآخَر قائلة: "أرأيتِ؟!؟ هي تتحرّك الآن! يا إلهي... قد تصل الرصاصة إلى قلبي في يوم مِن الأيّام وأموت! لماذا لا يُصدِّقني أحَد ؟!؟". هزَّت أمّنا برأسها، ثمّ أخذَتني جانبًا لتقول لي بعدما رأت الدهشة على وجهي:

ـ هي هكذا مذ ما عادَت مِن المشفى... أنا خائفة عليها كثيرًا، إذ أنّها قرَّرَت التوقّف عن الأكل على أمَل أن تخرجُ الرصاصة مِن بطنها.

 

ـ تفاهات!!! علينا عرضها على طبيب نفسيّ، وفي الحال!

 

ـ وهل ظنَنتِ أنّنا لَم نُحاوِل؟ لمُجرّد ذكر الموضوع أمامها هي تبدأ بالصراخ والتهديد برمي نفسها مِن الشرفة.

 

ـ يا إلهي... ما الحلّ إذًا؟ هل نتركها هكذا ونتفرّج عليها وهي تموت جوعًا!؟!

 

ـ جِدي حلًّا يا حبيبتي، فلطالما كنتِ أذكانا.

 

جملة أمّي الأخيرة وضعَت ثقلًا رهيبًا على كتِفَيّ، إذ أنّني صرتُ المسؤولة ولو غير مُباشرة، عمّا قد يحصل لأختي، فقصدتُ الأطباء والأخصّائيّين وكلّهم قالوا الشيء نفسه: "إجلِبيها لنا لنراها ونُعالجها". طلبتُ منهم سبيلًا لأُعالجها بنفسي، ولو إلى حين تقبَل تمارا أن ترافقني إليهم، لكنّهم رفضوا، خوفًا مِن أن تتعافى مجّانًا، على الأقلّ هذا ما أعتقِدته. أين ذهبَت إنسانيّتهم وقسَمهم حين هم تخرّجوا؟

مرَّت الأسابيع وتفاقَمَ وضع تمارا، إذ هي لَم تعُد تأكل إلّا تجنّبًا مِن الموت، فباتَ قوامها مُخيفًا للغاية وفقدَت نشاطها، فبالكاد صارَت قادِرة على النهوض مِن مكانها. لكنّها بقيَت تمسكُ ببطنها وتُراقِب تحرّكات الرصاصة الوهميّة.

الرصاصة الوهميّة؟ آه... أجل! الرصاصة الوهميّة التي تتطلَّب إزالة وهميّة أيضًا! وجدتُ الحلّ!!!

لكن بقيَ عليّ إيجاد السيناريو المثاليّ وشريك، فكان مِن الضروريّ أنّ تُصدِّق أختي الكذبة.

إستعَنتُ بمعارِف زوجي الذي كان على عِلم بحالة تمارا، فتمَّ اختيار أحَد الأصدقاء الذي هو طبيب أسنان يستقبل زبائنه في عيادته الخاصّة. فجلَسنا معه وقدّمتُ له اقتراحي: سيدَّعي أمام أختي أنّه جرّاح، فأصطحبُها إليه بعد أن يُزيل مِن عيادته كلّ ما يتعلّق بطبّ الأسنان. سنُعطيها حبوبًا مُنوِّمة غير مُضّرّة طبعًا، ونقول لها بعد أن تستفيق إنّ الجرّاح أخرجَ مِن بطنها الرصاصة. بقيَ أن نجِد رصاصة أو ما يشبهُها. تردّدَ صديقنا لكنّه قبِلَ بعد أن أرَيتُه صوَر تمارا بحالتها المُخيفة، وبعد أن أكَّدنا له أنّ لا أخطار بذلك على الاطلاق، بل العكس لأنّه سيُنقِذ حياة إنسانة مريضة نفسيًّا.

قصدتُ تمارا لأزِفّ لها الخبَر السارّ قائلة: "إيّاكِ أن تُخبري أحَدًا، فذلك هو سرّنا، فكما تعلَمين، لا أحَد يُصدِّق قصّة الرصاصة سوى أنا والجرّاح. تعالي معي بسرعة لكن خذي الآن هذه الأقراص لتكوني مُرتاحة خلال العمليّة. هيّا، بسرعة!".

دخلتُ وتمارا عيادة طبيب الأسنان الذي كان قد خبّأ بورقة مطبوعة يافطته على بابه ومكتوب عليها "جراحة عامّة"، بعد أن وضَعَ جانبًا كلّ الآلات التي لها علاقة بالأسنان. بدأ المنوّم يُعطي مفعوله بأختي وغرِقَت في النوم بعد دقائق مِن جلوسها على الكرسيّ الخاصّ.

وبسرعة ودقّة فائقَتَين، وضَعَ صديقُنا صبغة حمراء على شاشة كبيرة، وألصَقَها بإحكام على بطن تمارا لتظنّ أنّه أجرى لها عمليّة استئصال الرصاصة. أمّا بالنسبة لهذه الأخيرة، فقد استطاع تأمين رصاصة صغيرة مِن أخيه الذي يُمارِس الصيد.

إنتظرتُ مع طبيب الأسنان بعض الوقت، ثمّ ساعَدنا أختي لتستفيق. ثمّ بارَكتُ لها صارِخة: "تمَّت العمليّة بنجاح! أنظري إلى بطنكِ وإلى الرصاصة التي وجدناها في داخله! مبروك يا أختي الحبيبة، يُمكنكِ الآن أن تأكلي قدر ما تشائين! هيّا بنا إلى مطعمكِ المُفضّل!".

عانقَتني تمارا وعانقَت الطبيب الذي همَسَ في أذني: "مشهد لا يُصدَّق! يا لِعقل الأنسان!".

أكلَت تمارا القليل مِن الطعام كَي لا تزعِج معدتها الفارِغة، ورافقتُها إلى بيت أهلي لتأخذ بعض الأمتعة وتمكُث معي، ريثما "يلتئم جرحها"، وأوصَيتُها بألّا تنزَع الشاش عن بطنها مهما كلّفَ الأمر، مُضيفةً أنّ القطَب ستذوبُ مِن تلقاء نفسها ويلتحِم الجرح مِن دون أن يترك ولا أيّ أثَر!

إستعادَت تمارا عافيتها الجسديّة بسرعة وكذلك بسمتها، إلّا أنّ ما حصَلَ لها كان مُقلِقًا مِن الناحيّة النفسيّة، وكان لا بدّ لها أن ترى أخصّائيًّا نفسيًّا، فشرَحتُ لها أنّ "إصابتها" قد أحدثَت صدمة لها ووجَبَ عليها التخلّص منها.

تبيّنَ على مرّ الجلسات أنّ تمارا تلقَّت صدمة نفسيّة شديدة، ناجِمة عن مُشاهدتها لموت صديقتها العنيف، مصحوبة بصدمة وخوف شديدَين أدّيا إلى حالة ذهانيّة فقدَت مِن جرّائها الاتصال بالواقع. فعقلها، غير القادِر على استيعاب الواقِع، خلَقَ اعتقادًا جسديًّا زائفًا، الرصاصة، لتجسيد الخوف والذنب الناتِج مِن عدَم قدرتها على انقاذ صديقتها. إلّا أنّ الأخصّائيّ طمأنَنا بأنّ الجلسات كافية لمُعالجتها فعليًّا، لأنّ حالتها كانت مُتعلِّقة بحادِثة مُنفرِدة مُعيّنة. حمَدتُ ربّي وبدأتُ أراَقب التطوّرات عن كثَب.

اليوم أختي تمارا مُتعافية تمامًا، وقد مرَّت سنوات عديدة على تلك الأحداث. ولقد أطلعتُها على خطّتي لإنقاذها وكيف أنّ ذلك الطبيب لعِبَ دور الجرّاح في عيادته للأسنان. ضحكنا كثيرًا بعدما أثنَت على حنكَتي. بالفعل، لو لَم تطرأ هذه الفكرة على بالي، لربّما قضَت أختي بسبب تمنّعها عن الأكل وما هو أفظع، لو قرّرَت التصرّف لوحدها في ما يخصّ انتزاع الرصاصة الوهميّة الموجودة بداخلها.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button