لم أدرك مدى بشاعة غلطتي، إلا عندما أقمنا مأتم زوجي وليد.
قبل ذلك كنتُ أعيش حياتي كما أشاء دون أن أهتمّ بما يريده الآخرين. أظنّ أنّ السبب كان أنني لم أختار وليد بنفسي بل فعلَ ذلك عني أبي. وغضبتُ لأنني لم أكن أحبّه ولم أستطع حبّه طيلة زواجنا. وأخذتُ أعامله بعنف وإزدراء وإستغلّيتُ طيبة قلبه وحولّتها إلى ضعف. لم أشأ إعطائه أولاداً، لأنّ فكرة أن أربّي صوراً مصغرة عنه، كانت غير مقبولة لديّ ولأنني كنتُ دائماً أحلم بأن أتركه وأرحل مع رجل آخر، أعيش قصّة الحب التي أستحقّها. ومع مرور السنين أصبحتُ إمرأة حاقدة ومتسلّطة أسمح لنفسي بإقامة علاقات دون أي تأنيب ضمير. حتى أنّ أحد الرجال الذين خنتُ زوجي معه، قال لي في إحدى المرّات: "أشعرُ بالذنب تجاه زوجكِ... إنّه إنسان رائع..."
وطبعاً لم أتأثّر بما قاله وتابعتُ حياتي كما أريد. حتى أن أتى خَبَر وفاة وليد أثناء قيامه بعمله. حينها تحرّك شيء بداخلي لم أفهمه على الفور وعندما أتى الناس لتعزيَتي، إنتابني خوف شديد. فأنا ومنذ صغري كنتُ أؤمن بالفال والسحر والشعوذات، ربما لأنني ترعرعتُ بعائلة بسيطة تتمسّك بهكذا أمور لتفسير الأحداث.
وخلال حياتي كراشدة، كنتُ قد نسيتُ تلك المعتقدات السخيفة. وإذ بها تعود فجأة. ولا أدري لماذا وكيف ولكنني إعتقدتُ في ذلك النهار أنّ زوجي سيعود من عالم الأموات ويحاسبني على أفعالي. خرجتُ من قاعة التعازي وأنا أرجف وذهبتُ أختبئ في الحمام. ظنّ الجميع أنني أصبتُ بوعكة لشدّة حزني وحاولوا إقناعي بالخروج لإعطائي مسكّن. ولكنني بقيتُ هناك حتى رحلَ آخر المعزّين وذهبتُ فوراً إلى المنزل.
وعندما دخلتُ من الباب وجدتُ طبعاً الأنوار مطفئة، فسارعتُ لإضائتها جميعها. لم أترك زاوية واحدة مظلمة، خوفاً من أن يكون زوجي مختبأ في إحداها. نظرتُ في الخزائن وتحت السرير وأينما إستطعتُ وتناولتُ حبّة منوّم وخلدتُ إلى النوم. وعندما إستفقتُ في الصباح التالي تأمّلتُ أن أكون قد تخيّلتُ الأمر ولكنني إكتشفتُ أنّ خوفي قد زاد. بدأتُ أمشي في البيت أترقّب أي صوت أو حركة مشبوهة. ولكن خلال النهار وبسبب إنشغالاتي نسيتُ الخوف حتى أن جاء الليل. جلستُ أمام التلفاز لأتفرّج على برنامجي المفضّل وإذ بالكهرباء تنقطع. صرختُ بأعلى صوتي: "ما بكَ يا وليد... ألا تريدني أن أتابع مسلسلي؟ لطالما كنتَ تجدُه سخيفاً..."
ثم خلدتُ إلى النوم بعد أن تناولتُ جرعة كبيرة من المنوّم. ومن بعدها قررتُ أن أتخلّص من شبح زوجي وأن أطرد روحه من المنزل، فذهبتُ طبعاً إلى هؤلاء النصّابين الذين يعيشون من غباء بعض الناس. وقال لي الرجل أنّ روح زوجي باقية في البيت لأنّها لم تبلغ درجة الراحة وأنّ عليّ إشعال البخّور وتلاوة صلوات خاصة، موجودة في دفتر صغير أسود اللون كان قد أعطاني إيّاه مقابل ما اسماه "تبرّع بسيط".
وهذه "المساهمة البسيطة" كان ثمنها باهظاً لدرجة أنني إضطررتُ إلى بيع قطعة من مجوهراتي. ولكن بالنسبة لي، لم يكن الثمن غالياً، إذا كان سيؤدّي إلى التخلّص من الذي قرّر أن يصبح شجاعاً بعد موته. وأكدّ لي المشعوذ أنّ مع ذهاب روح زوجي، ستُمحى كل ذنوبي لأنّه سيأخذها معه، لذا عملتُ جهدي لأطرد الرجل الذي زعجني بوجوده قبل وبعد موته. وبالطبع لم تنجح حلول المشعوذ، لأنّه كاذب ونصّاب ووجدتُ نفسي في بيت كبير أخشى أن أتواجد فيه. فقرّرتُ أن أبيع هذا المنزل وأنتقل إلى حيث لا يمكن لوليد أن يتبعني، لأنني قرأتُ أن الأرواح تلازم الأماكن التي عاشَت فيها. وبما أنني كنتُ على عجلة من أمري، بعتُ العقار بربع سعره وإشتريتُ بالمال الذي حصلتُ عليه، شقّة صغيرة جداً بالكاد تسعني تاركة ورائي قسم كبير من الأثاث وذكرياتي الأليمة.
ولكن لم أجد الراحة في مسكني الجديد، فبعد أن وصلتُ ببضع ساعات شعرتُ بوجود وليد معي وبدأتُ أصرخ: "دعني وشأني!!! ماذا تريد مني؟؟" حتى أن دَقَّت عليّ جارتي لترى إن كنتُ بخير. وعندما فتحتُ لها، قلتُ لها بكل بساطة: "لا عليكِ... أنا أصرخ على المرحوم زوجي... لحِقَ بي إلى هنا ولن يدعَني أعيش بسلام!"
وهكذا إنتشرَ خبر جنوني في المبنى وفي الحيّ كلّه وأصبحتُ محطّ سخرية الجميع، خاصة الصغار الذين كانوا يضحكون عليّ كلّما مررتُ بجنبهم. وصلَ الأمر إلى أن أقضي معظم وقتي محبوسة في البيت، خوفاً من نظرات وتعليقات الناس. ومع مكوثي في البيت، أصبتُ بإكتئاب حاد خاصة أنني كنتُ أقضي وقتي أتحدّث مع زوجي الذي بالطبع لم يكن يجيب عليّ.
ولم يعد يأتي أحد من أقربائي أو أصدقائي لزيارتي لكثرة إنزعاجهم من تصرفاتي الغريبة وبما أنني لم أكن قادرة على شراء حاجاتي من المحلّات، طلبتُ أن يوصلوها مباشرة إلى منزلي. وكان يأتيني بها شاب صغير ولكن عندما تأكّد أنني أعيش لوحدي وأن لا أحد يأتي ليطمئنَّ عليّ قرّرَ أن يسرقني. ففي يوم من الأيّام عندما فتحتُ له الباب، دفشني بقوّة إلى الداخل وأشهر عليّ سكّيناً كبيراً وأجبرني على إعطائه كل ما تبقّى لي من مجوهرات وجميع مدّخراتي التي كنتُ أحتفظ بها لأعيش. ثم هربَ ولم يعثر عليه أحد.
وهكذا وجدتُ نفسي من دون أي شيء، ما حملَني إلى اللجوء إلى الجمعيّات الخيريّة لكي أحصل على بعض المواد الغذائيّة. وبعد فترة ولكثرة حزني على نفسي وعلى ما أصبحتُ عليه ساءت حالتي الصحيّة ونُقلتُ إلى المستشفى ثم إلى دار للعجزة مع أنني كنتُ ما زلتُ في الخامسة والخمسين من عمري. فالواقع أنّه لم يكن لديّ أحد ليهتم بي وكان خبر جنوني قد أقنع الدار على وجوب بقائي هناك.
ولقد مرّت حوالي خمسة سنين على وصولي إلى المؤسسة وبعد تحدّثي إلى طبيبهم النفسي، فهمتُ أنّه لا وجود للأرواح والأشباح وأنّ ما خلتُه زوجي، كان ضميري يؤنّبني على ما فعلتُه به. ولكن قد فات الأوان الآن ولم يعد لي مخرج آخر سوى أن أقبل بواقعي. وإن فكّرتُ في الأمر مليّاً أجدُ أن وليد إنتقمَ منّي بصورة غير مباشرة، فمِن إمرأة قويّة وجريئة وومكتفية ماديّاً، أصبحتُ عجوز ضعيفة وهزيلة وفقيرة. أهي لعبة القدر؟ أم هو عقلي الذي قرّر أنني تماديتُ كفاية على رجل كان فعلاً يحبّني وينوي إسعادي؟
حاورتها بولا جهشان