أظنّ أنّ الرّجال يُحبّون بقوّة أكبر مِن النساء، هذا طبعًا إن أحبّوا بصدق وإخلاص كما أحبَبتُ جيهان. والأمر عائد بالمرتبة الأولى إلى التربية، فقد كبِرتُ في عائلة علَّمَتني احترام الناس وخاصة النساء، أن أكون وفيًّا للتي ستسكن قلبي. هكذا كان أبي مع أمّي وهي بادَلَته الحب والاحترام، وأنشآ سويًّا عائلة متناغمة يسودها جوّ سليم مِن كلّ النواحي.
جيهان لم تكن محظوظة مثلي، فهي ابنة أناس بشعين لم يُشعراها يومًا بالأمان أو حتى الحب، فكلّ فرد منهم كان يسعى لراحته ويبحث عن منفعته ولا يتردّد عن أذيّة الآخر. ولكنّ حبيبتي كانت مختلفة عنهم لِذا لم تطق العيش معهم، فلحظة أصبحَت راشدة تركَت البيت لتسكن في مبنى خاص بالبنات.
حين تعرَّفتُ إلى جيهان كنتُ أواعد صبيّة أخرى اسمها دينا كانت تتقاسم معها الغرفة، ولم تعنِ لي شيئًا آنذاك بل اعتبَرتُها فتاة جميلة ولطيفة وحسب. ولكنّ دينا فسخَت علاقتها بي ولم أفكّر بجّهان لكثرة حزني على فقدان التي كنتُ أنوي الزواج منها.
مرَّت أسابيع حتى التقَيتُ بجهان صدفة وأنا خارج مِن مكتب أبي حيث أعمل. كِدنا أن نصطدم ببعضنا وضحكنا لطرافة الموقف. قلتُ لها:
ـ جيهان!؟ ماذا تفعلين هنا؟
ـ أنتَ ماذا تفعل هنا؟
ـ هنا شركة أبي وأنا أعمل لدَيه.
ـ تعمل لدى أبيكَ؟ أمر غريب... أنتَ ابنه وعليه أن يجعل منكَ شريكه!
ـ هـ هـ هـا... هذا ما قصَدتُه، ولكن بالنسبة لي الوضع مؤقّت، فأنا أنوي قريبًا فتح شركة خاصة بي... ما أخباركِ يا جيهان؟ وما أخبار...
ـ لا تسألني عن دينا أرجوكَ! مذ ترَكَتكَ وهي تقفز مِن شاب لآخر حتى أنّني اخترت الإنتقال إلى مكان آخر. حين سكَنتُ معها كانت رصينة ومتَّزنة ومرتبطة بكَ، وخلتُ أنّني وجَدتُ فتاة مثلي.
ـ أنتِ أيضًا مرتبطة؟
ـ لا... لم أجد بعد الشاب الذي أبحث عنه...قد يكون غير موجود... للحقيقة عشتُ ظروفًا قاسية عند أهلي، ولم أعد أعلم كيف يكون الرجل الحقيقي.
عند سماع ذلك استيقظَت فيّ روح الشهامة، وتصوّرتُ أنّها تحكي عنّي عندما قالت "الرّجل الحقيقي". لِذا دعَوتها إلى فنجان قهوة في مكان لطيف وأخذنا نتكلّم عن أنفسنا.
أخبرَتني عن ذويها وكيف هَرَبَت مِن أجواء أسمَتها "مسمومة"، وعن تصوّرها لباقي حياتها، وأنا أخبَرتُها عن عائلتي الجميلة وطموحاتي. وعندما انتهَت الجلسة كنتُ شبه مغروم. تبادَلنا أرقامنا الهاتفيّة وفكّرتُ بجيهان طوال الليل.
وبدأت علاقتنا، وسرعان ما نسيتُ حبيبتي السابقة بين ذراعَي جيهان التي عَرِفَت كيف تصل إلى قلبي وبسرعة فائقة.
أخذتُها إلى أهلي ليتعرّفوا إليها، وأحبّوها كثيرًا ما عدا أختي الكبرى التي وجَدَتها متصنّعة وغير مناسبة لي. لم أزعَل منها لأنّني كنتُ أعلَم أنّها تريد الأفضل لي، ولأنّ جيهان لم تكن مِن عائلة مهمّة ناهيك عن عدم اكمالها لدراستها.
مِن جهّتي لم أستطع طبعًا مقابلة أهل جيهان، لأنّها كانت قد قطعَت علاقتها بهم منذ فترة طويلة، ولم يهمنّي الأمر خاصّة أنّني كنتُ أكرههم بسبب ما علمتُه عنهم، ووعَدتُ حبيبتي بأنّني سأعوّض لها عن نقصان الحنان الذي عانَت منه.
أخَذتُها أيضًا إلى شقّتي لترى أين ستسكن حين نتزوّج، وطلبَت منّي إن كان بإمكانها تغيير الأثاث كي لا تتذكّر أنّ زميلتها بالسّكن كانت ستعيش هناك، وقبلتُ بدون تردّد.
بدأنا نخطّط للفرح، وذهبتُ مع أخي إلى مصوّر يعرفه جيّدًا بعد أن تقاسم معه مقاعد الدراسة، وهناك بدأنا نتكلّم بالتفاصيل.
قال المصوّر لأخي:
ـ وأنتَ، ألم تجد عروستكَ بعد؟ حين تفعل سأصوّر عرسكَ مجّانًا!
ـ لا بعد... ولكنّني أريد عروساً بجمال جيهان... أخي، أرِه صورتها ليعلم عمّا أتكلّم.
ضحِكتُ وفتحتُ هاتفي، واختَرتُ أجمل صورة لخطيبتي وأرَيتُها للمصوّر الذي صَرَخَ:
ـ أعرف تلك الصبيّة... وجهها مألوف ولكنّني لا أتذكّر أين رأيتُها... إنّها حقًّا جميلة... هنيئًا لكما.
ـ قد تشبه أحدًأ تعرفه... أو لا... فهي فريدة مِن نوعها ولا تشبه أحداً!
ـ أراكَ مغروماً جدّاً بها... آه مِن الحب!
عندما انتهيتُ مِن ترتيب كلّ شيء بقيَ، أمر فستان العرس الذي كنتُ أنوي تقديمه لجيهان، لأنّ المسكينة لم تكن قادرة على دفع ثمنه، فاصطحبتُها إلى أفخم محل، وهناك اختارَت الفستان الذي أرتني إيّاه قائلة:
ـ فأل سيئ أن ترى فستان عروسكَ.
ـ إنّها أقاويل... لا تخافي لن يحصل لنا شيء... كم أنّكِ جميلة يا حبيبتي... أجمل عروس في الدنيا!
عُدتُ إلى البيت سعيدًا لأنّ الحياة كانت كعادتها تبتسم لي، فالجدير بالذكّر أنّني لطالما كنتُ محظوظًا، ربما لأنّني كنتُ إنسانًا طيبًّا ونزيهًا والله راضٍ عليَّ. وما زادَ فرحتي في تلك الليلة، كانت أختي التي أخبرَتني أنّها تعرّفَت إلى شاب جيّد مِن كلّ النواحي وأنّها تفكّر بالارتباط به جديًّا بالرّغم مِن أنّها التقَت به مِن فترة قصيرة، وقالت لي ممازحة إنّها قد تسبقني بالزواج. فرِحتُ جدًّا لها، خاصّة أنّها كانت قد بلغَت سنًّا يصعب فيه الزواج، وقلتُ لنفسي إنّ كلّ الأمور تسير بشكل يفوق كلّ التوقّعات.
باقي التطوّرات حدَثَت بشكل سريع جدًّا وغير متوقّع، الأمر الذي رسَّخَ في قلبي إيماني بأنّ الله يُكافئ عبيده على سيرتهم الحسنة حتى لو قاموا بالخيارات غير المناسبة، فهو يعلم أكثر منّا ما هو مفيد لنا حتى لو كان ذلك مؤلمًا.
فقبل الزفاف بأيّام معدودة وبعد أشهر على لقائنا، إتّصل بي المصوّر وخلتُ طبعًا أنّه يريد تأكيد بعض الأمور قبل اليوم المحدّد، ولكنّه كان يُريد أن يُطلعني على شيء مهمّ جدًّا غيّر حياتي بأسرها ونظرتي إلى الناس:
ـ تذكّرتُ أين رأيتُ عروسكَ يا سيّدي!
ـ حسنًا، إن كان الأمر بهذه الأهميّة... أين؟
ـ في عرس أخيها... أنا صوّرتُه... كان ذلك مِن حوالي الأربعة أشهر.
ـ أظنّ أنّكَ مخطئ... جيهان لا تتحدّث مع أفراد عائلتها ولم ترَهم منذ فترة طويلة.
ـ أنتَ مخطئ سيّدي... وإن كنتَ لا تصدّقني فتعال وانظر بنفسكَ إلى الصوَر.
قصَدَتُ محلّ المصوّر كالمجنون، وهناك رأيتُ المئات مِن الصّوَر تظهر فيها خطيبتي مع عائلتها وتعمّ بينهم الفرحة والضحكة. تأكّدتُ مِن تاريخ الصّوَر وكانت بالفعل عائدة إلى أشهر قليلة، أي إلى لفترة نفسها التي كنّا نتواعد فيها والتي قضَتها جيهان تبكي وتشكي مِن كرهها لبشاعة ذويها، وتذكّرتُ أنّ في ذلك اليوم قالت لي إنّها ذاهبة لحضور فرح إحدى صديقاتها التي لم أتعرّف إليها يومًا لأنّها، وحسب قول خطيبتي، سافَرَت فورًا بعد زواجها.
هكذا إذًا... غضِبتُ كثيرًا ولكنّني لم أفهم سبب أكاذيب جيهان، فماذا كانت ستجني مِن ذلك؟ وخَطَرَ ببالي أن أسأل مَن عَرَفَها جيّدًا وسَكَنَ معها، أي حبيبتي السابقة، وذلك بالرّغم مِن عدم رغبتي برؤيتها بعدما ترَكَتني مِن دون انذار سابق وبعد أن علِمتُ أنّها تواعد شبّاناً كثراً، ولكن كان عليّ معرفة حقيقة جيهان.
إنتظَرتُ دينا على باب الشقّة في موعد ذهابها إلى عملها، وحين رأتني حاولَت تجاهلي ولكنّني لحقتُ بها وأوقفتُها. عندها قالَت لي:
ـ ماذا تريد منّي أيّها الكاذب؟
ـ أنا كاذب أم أنتِ؟ أذكّركِ بأنّكِ تركتِني فجأة واستبدَلتِني بسرعة.
ـ ترَكتُكَ بسبب حياتكَ المنحلّة! لا أريد إنسانًا مثلكَ! لقد علِمتُ بأمر النساء والشرب... وأشكر ربّي أنّني اكتشفتُ حقيقتكَ باكرًا.
ـ ماذا؟ مَن قال لكِ كلّ ذلك؟ آه... جيهان فعَلَت، أليس كذلك؟
ـ أجل... كيف علِمتَ؟
جلسنا في مكان هادئ، وأخبرتُها القصّة بكاملها، وهي مِن جهّتها قالت لي إنّ جيهان فعَلَت جهدها لتسويد سمعتي لدَيها.
إستنتجنا طبعًا أنّ جيهان رأت فيَّ شابًّا مناسبًا للزواج مِن حيث سمعَتي ومال أبي ومستقبلي، فأزاحَت زميلتها في السّكن جانبًا. ومِن المؤكّد أنّها قصَدَت مقرّ الشركة عمدًا لرؤيتي وتشويه سمعة حبيبتي السّابقة، وبدأت تروي لي قصصًا عن عذابها مع عائلتها لتكسب عطفي. وكلّ ما فعلَته كان بسبب الأخبار التي سمِعَتها عنّي مِن دينا التي كانت تتغّنى بمزايايَ طوال الوقت أمامها. علِمتُ أيضًا أنّ جيهان تسكن بعيدًا عن أهلها، لأنّها تسجّلت في جامعة لم تذهب إليها يومًا لأنّها فضّلَت البحث عن ضحيّة، أي رجل يُؤمِّن لها حياة رخاء تجنّبها الدّراسة والعمل. وبالطبع فسختُ خطوبتي بجيهان بعد أن واجهتُها بالحقيقة التي اكتشفتُها، وهي لم تحاول حتى نكران شيء بل اكتفَت بالقول:" حسنًا... على الأقل حاوَلتُ".
وفي مساء اليوم نفسه، وجَدتُ أختي باكية بعد أن تَرَكها حبيبها مِن دون إعطائها أيّ تفسير. إستَنتَجتُ أّنها لم تكن صدفة أبدًا، فمِن شبه المؤكّد أنّ ظهور ذلك الرّجل فجأة في حياة أختي واختفاءَه يوم فسخ علاقتي بجيهان، لم يكن سوى لعبة أعدَّتها لتتمكّن مِن أختي التي لم تحبّها وتنفّع أحد "معارفها" مِن ثروة أبي.
الله وحده يعلم ما كانت تنوي جيهان فعله بنا جميعًا لو تزوّجتُها، ولكنّني متأكّد مِن أنّها كانت ستسبّب لنا الأذى والحزن، فأمثالها لا يردعهم إلا مَن هو أقوى وأعظَم مِن جميع البشر.
أنا اليوم متزوّج مِن دينا حبيبتي الأولى فكما يُقال: "لا يصحّ إلا الصّحيح".
حاورتها بولا جهشان