كان جهاد أخي غير نافع بشيء وذلك منذ طفولته. حاوَلنا جميعًا إعطاءَه حوافز ليستفيق مِن خموله ولكن مِن دون جدوى. كان ذلك الفتى يجد صعوبة بالنهوض مِن السرير في الصباح للذهاب إلى المدرسة، حيث كان يقضي وقته يستعير أقلام رفاقه ويُقنعهم بالقيام بفروضه نيابة عنه واعطائه أجوبة الامتحانات. ومع كل ذلك كان يرسب في آخر السنة، وصار كبيرًا على صفّه، الأمر الذي سهّل عليه بسط سيطرته على كل مَن كان أصغر منه. واعتادَ جهاد استعمال الاحتيال والعنف لنَيل مراده، الأمر الذي تسبَّبَ له بالطرد مِن المدرسة. وبالرغم مِن محاولة والدَينا إيجاد مدرسة أخرى له، بقيَ أخي يرفض العودة إلى حياة نظاميّة، وترَكَ العلم وأعباءَه للمكوث في البيت طوال النهار والخروج ليلاً لملاقاة مَن هم مثله.
حزِنَ أبي كثيرًا لأنّه لم يتصوّر أنّ الذي سيحمل اسمه ويُمرّره للأجيال القادمة، يقضي وقته في الطريق يُعاكس الصبايا ويستولي على كل ما يستطيع وضع يده عليه. ولكثرة خيبة أمله، أُصيبَ المسكين بداء خبيث أخَذَه بعد سنوات قليلة.
كنتُ قد أصبحتُ بسن يتيح لي العمل، فقرّرتُ وضع دراستي جانبًا لتغطية العجز الذي خلفّه موت والدي، مدركة تمامًا أنّ جهاد لن يحرّك اصبعًا لجلب القوت إلى البيت.
نما في قلبي امتعاض تجاه أخي الذي كان يأكل ويشرب ويلبس مِن تعبَي، ولكنّني لم أكرهه ربمّا لأنّني كنتُ معتادة على كسله فهكذا عرفتُه. أمّا أمّي فكانت تعتبره أفضل شاب على وجه الأرض، لأنّه كان ذكرًا وولدها البكر وكانت تجد له الأعذار وتطلب منّي أن أتحمّل الوضع، لأنّه حسب قولها يمّر بمرحلة مؤقّتة وسيتغيّر ليُصبح رجلاً مسؤولاً.
تعرّفتُ إلى شاب لطيف ووسيم ووقعنا في الحب. وحين طلَبَ منّي أن أتزوّجه أسرَعتُ بالقبول، أوّلاً لأنّني أحبّه وثانيًا لأخرج مِن بيتٍ أصبح العيش فيه صعبًا عليّ.
هل كنتُ لأتزوّج في ذلك الوقت بالذات والشاب نفسه لو كانت ظروفي العائليّة طبيعيّة؟ لا أظنّ ذلك.
فرِحَت أمّي لي واستاءَ أخي، لأنّ برحيلي مِن البيت كان سيضطرّ للعمل. وحاوَلَّ بشتّى الطرق إقناعي بالعدول عن مشروعي. إستعمل أساليب مختلفة، ولكنّه لم يفلح لأنّني، وبكل بساطة، كنتُ أعرفه عن ظهر قلب.
وهكذا انتقَلتُ للعيش مع زوجي في شقّته التي تبعد عن أهلي واستعدَّيتُ للعيش بسلام.
ولكنّني لم آخذ وقتي للتعرّف جيّدًا إلى شريك حياتي، واتّضَحَ لي أنّه لم يكن أبدًا كما تصوّرتُه. فقد تبّينَ لي أنّه زير نساء يُبدّد راتبه عليهنّ، وبدل أن أتابع دراستي كما كنتُ أنوي أن أفعل، وجَبَ عليّ البقاء في عملي، هذا لو كنتُ أريد ألا أموت جوعًا. باختصار، كنتُ قد استبدَلتُ أخًا كسولاً واتّكاليًّا ومعدوم الأخلاق بزوج يُشبهه بشكل فظيع.
لم أحكِ لأحد عن مصيبتي كي لا تنهال عليّ الشماتة، وتحمّلتُ غيابات زوجي التي تزايدَت يومًأ بعد يومًأ إلى أن قرَّر أخيرًا ألا يعود. تَرَكَني مِن دون أن يُعطيني تفسيرًا أو مبرّرًا، وخلتُ حقًّا أنّ مكروهًا حصَلَ له حتى وجدتُ خزانة ملابسه فارغة وكذلك حسابي في المصرف حيث كنتُ قد وضعتُ القليل الذي ادّخَرتُه عبر السنوات.
بغرابة، لم أشعر بالحزن أو الأسى على ما حصَلَ لي، بل بارتياح كبير، ووعَدتُ نفسي بأن أستمتع بحياتي الجديدة التي فَرَضَت نفسها عليّ. كنتُ ولأوّل مرّة في حياتي سيّدة نفسي وغير مُجبَرة بشيء أو أحد.
بقيتُ في البيت نفسه، وبقيتُ أدفع إيجاره مِن راتبي، ولم يخطر ببالي أبدًا أن أعود إلى أمّي أو أخي، وأخفَيتُ حتى عنهما رحيل زوجي آملة ألّا يعرفا بالأمر أبدًا.
ولكن ما مِن شيء يبقى سرّيًّا، وسرعان ما جاء جهاد يدقّ بابي. عندما رأيتُه أمامي قلتُ له:
ـ زوجي في عمله... إنّه يقوم بساعات إضافيّة، فالأيّام صعبة.
ـ هـ هـ هـ... ساعات إضافيّة مع عشيقاته؟
ـ ماذا تقول؟ سيعود بعد ساعات قليلة.
ـ بل لن يعود أبدًا! الكل على علم بهروب زوجكِ وبنوعيّة حياته... لا داعٍ للكذب عليّ فأنا أخوكِ الحبيب!
دخَلَ وجلَسَ على أريكة الصالون بل استلقى عليها قائلاً:
ـ لا يُمكنني ترك أختي لوحدها في هكذا ظروف... سأعيش معكِ.
ـ ماذا؟ لن تفعل! على كل حال لا تستطيع ترك أمّنا لوحدها.
ـ أنتِ تركتِها!
ـ لأنّني تزوّجتُ!
ـ أمّنا باتَت مسنّة ومِن المستحسن أن تذهب إلى دار للعجزة، وأنا أنتقل إلى العيش هنا.
ـ عُد إلى بيتكَ ودَعني وشأني.
فتحتُ الباب وانتظرتُ أن يخرج لأقفل وراءه بإحكام. ماذا كان يظنّ؟ أنّني سأقبل به بهذه السهولة؟ لن أصرف قرشًا واحدًا على رجل بعد ذلك!
إتصَلتُ بأمّي لأقول لها إنّ زوجي تركَني، وإنّ ابنها ينوي رميها في مؤسّسة ليعيش على حسابي ولكنّها لم تصدّقني:
ـ أنتِ تكرهين أخاكِ مذ كنتِ صغيرة وتغارين منه ومِن الاهتمام الذي حظيَ به... لم يخطئ زوجكِ بتركَكِ.
بكيتُ بعدما أقفلتُ الخط، إلا أنّني مسحتُ دموعي بسرعة لأفكّر بطريقة لتفادي ما هو قادم.
مرَّت حوالي الستّة أشهر ولم أسمع مِن جهاد ولا مِن أمّي، وخلتُ صدقًا أنّني نفذتُ مِن قبضتهما، إلا أنّني رأيتُ أخي بانتظاري أمام الباب حين عدتُ مِن عملي:
ـ ماذا تريد؟ لِما أنتَ هنا؟ وما هذه الحقائب؟
ـ جئتُ أعيش معكِ يا أختي العزيزة.
ـ عُد إلى أمّكَ فهي الوحيدة التي تستوعبكَ وتقبل بكَ.
ـ أمّي؟ صارَت في دار العجزة!
ـ ماذا؟ وكيف أقنعتَها بالذهاب؟!؟
ـ لنقُل إنّني استعَملتُ أساليب خاصّة بي... المسكينة وقعَت وكسَرَت رجلها ويدها ولستُ مؤهّلاً للاهتمام بها.
ـ ماذا فعلتَ لها؟
ـ ما فعلتُه لها ليس بأهميّة ما سأفعلُه بكِ إن أبقَيتِ باب شقّتكِ مُقفلاً بوجهي... هيّا... لندخل سويًّا بهدوء وكل شيء سيسير كما يجب.
كان التهديد واضحًا، وارتأيتُ أنّ مِن الأفضل ألا أغضِب إنسانًا يُعنّف أمّه ليتخلّص منها.
لم أنَم تلكَ الليلة مِن كثرة خوفي مع أنّني أقفلتُ باب غرفتي بالمفتاح. فكّرتُ بكل الاحتمالات، وقرَّرتُ أن أتصرّف مع جهاد بلطف حتى أجد الحل. لم يستغرب أخي خضوعي له، لأنّه كان معتادًا أن يحصل على مراده بالقوّة وأن تنصاع له ضحاياه، أمّا أنا، فأخَذتُ أبحث عن زوجي بعد أن اختفى كليًّا. وجدتُه يعيش في شقّة في المدينة المجاورة فدقّيتُ بابه. خال أنّني آتية لمعاتبته ولكنّه تفاجأ بي أقول له:
ـ أريد منكَ أن تعود إلى البيت... إشتقتُ لوجودكَ كثيرًا... أعدكَ بألا أتدخّل في حياتكَ الخاصّة... ستكون حرًّا بأن تفعل ما تشاء... سأعمل دوامًا إضافيًّا وسأتكفّل بجميع المصاريف... سأفعل كل ما تريده شرط أن تعود.
ولأقنعَه، أخرجتُ مِن حقيبة يدي سوارًا مِن الذهب وأعطَيتُه إيّاه. إبتسَمَ وقال لي: "سأكون في البيت غدًا."
لن أنسى وجه جهاد عندما رأى زوجي داخلاً البيت ومعه أمتعته، كان المشهد يُساوي كنوز الدنيا! قلتُ لزوجي:
ـ جاء أخي ليمكث فترة قصيرة أثناء غيابكَ، ويُمكنه الآن الاطمئنان عليّ بعدما عاد رجل البيت، والرحيل مرتاح البال.
بغضون ساعة، كان جهاد قد حزَمَ حقائبه ورحَلَ مِن دون أن يُودّعنا. إرتحتُ مِن واحد وبقيَ الآخر.
بدأتُ بنقل أمتعتي سرًّا وعلى مراحل إلى غرفة فندق خارج المدينة. وعندما انتهَيتُ مِن القسم الأكبر، إنتظرتُ خروج زوجي مع إحدى عشيقاته لآخذ ما تبقّى، وذهبتُ في الظلمة.
مكثتُ في الفندق إلى أن نفَذَ مالي. وجدتُ عملاً في آخر البلاد كي لا يجدني أحد بعد أن تركتُ عملي القديم. عندها انتقَلتُ إلى شقّة صغيرة لبدء حياتي الجديدة. لم أكن خائفة، لأنّني أدركتُ أنّني تغلّبتُ على أقبح رجلَين ولم يعد باستطاعة شيء أو أحد أن يوقفني.
بقيتُ أطمئنّ على أمّي هاتفيًّا وعبر موظّفة تعمل في الدار علِمتُ منها أنّ أمّي اشتكَت للسلطات على جهاد لِما فعلَه بها، خاصّة أنّه بات يزورها ويُهدّدها بفعل المزيد بها إن لم تعطِه قلادتها الذهبيّة وخاتمها.
إنتهى الأمر بأخي في السجن لمدّة ليست بقصيرة، بعد أن اكتشفَت الشرطة أنّه الشخص نفسه الذي كانوا يبحثون عنه في قضايا نصب وترهيب.
جلبتُ أمّي إلى شقّتي وجعلتُها تقسم لي بألا تعطي أخي عنواننا.
زفافي بعد شهر، ولقد أخذتُ وقتي هذه المرّة باختيار شريك حياتي، وأنا واثقة مِن أنّه قادر على حمايتي لو قرّر جهاد مضايقتي بعد خروجه مِن السجن، فخطيبي شرطيّ.
حاورتها بولا جهشان