إنتبهي يا ابنتي، فقلبكِ طاهر للغاية وليس الجميع مثلكِ... آه... كم أخاف عليكِ... ماذا سيحصل لكِ عندما أفارق الحياة؟
هذا ما قالَته لي أمّي بُعَيد علمها بإصابتها بالسّرطان وقبَيل أن تغادر إلى حيث لا هموم ولا أوجاع. كانت المسكينة قد عانَت الكثير بعد موت أبي ومِن ثمّ أخي عندما كان صغيرًا. ولم يتبقّ لدَيها سوايَ فصِرتُ دنياها بأسرها.
وكانت على حق بما يختصّ بطيبة قلبي، فكنتُ قد قضيتُ حياتي ألَملِم جراح التي جَلَبتني إلى الحياة، ولم أفكّر ولو مرّة بنفسي. وأصبح لدَيّ شغف بمساعدة الآخرين.
وحين وجدتُ نفسي وحيدة، إنتابَني شعور بالفراغ، فلم يعد هناك مَن هو بحاجة إلى "بسمتي السحريّة" كما كانت تسمّيها المرحومة أمّي. لِذا انكبَبتُ على دراستي وأنهَيتُ الجامعة بعلامات جيّدة. وكان مِن حسن حظّي أنّني ورثتُ مِن أهلي بيتًا وبعض المال الذي كان منذ البداية مخصّصًا لي. وشكرتُ ربيّ لأنّهما كانا بعيدّي النظر ولم يتركاني مِن دون شيء كما قد يفعل البعض.
واحترتُ بما يخصّ مستقبلي المهنيّ، فكنتُ قد نلتُ إجازة في إدارة الأعمال ولكنّني لم أكن أهوى ذلك المجال لبرودته وتجرّده مِن المشاعر الإنسانيّة، لِذا فتّشتُ عن عمل مع المسنّين، ربّما لأنّ وجودي بين هؤلاء الناس كان يُشعرني ببعض الدفء. فالحقيقة أنّني لم أرَ والدَيّ يشيخان مع أنّني لطالما تخيّلتُهما في عقدهما الثالث، ينتقّلان بصعوبة والعصا في يدِهما.
وعندما جاء يومي الأوّل في ذلك الدّار للمسنّين كانت بسمة عريضة ترتسم على وجهي. ولم يفهم باقي الموظفّون سبب تلك السعادة، هم الذين كانوا مستائين مِن النزلاء وتصرّفاتهم المتعبة وغير المنطقيّة.
وبالرّغم مِن أنّني لم أكن على علاقة مباشرة مع المسنّين بل أعمل في القسم الإداريّ للدّار، فقد كنتُ أذهب خلال فسحة الظهيرة إلى الغرف وألقي التحيّة عليهم وأستمع إلى قصصهم وأحيانًا إلى شكواهم.
وهكذا تعرّفتُ إلى عيسى، رجل في السبعين مِن عمره، الذي أثّر بي لكثرة لطفه وتصرّفاته اللائقة. كان مِن الواضح أنّه عاش حياة جميلة مليئة بالأحداث والمعارف. إلا أنّني استغربتُ عندما قيل لي إنّه أب لثلاثة أولاد وجدّ لستّة أحفاد. وأغرب ما في الأمر أنّه كان لا يزال متزوّجًا. وعندما سألتُ الرّجل عن مكان زوجته وأولاده وأحفاده ولماذا هو في دار للعجزة ولا يأتي أحد لزيارته، أجابَني:
ـ قصّتي تستحقّ أن تُكتَب... فإن كنتِ تعرفين كاتبًا يُجيد رواية القصص...
ـ أعرف أحدًا... أخبِرني قصّتكَ وأعِدكَ بأنّها ستُكتَب وتُنشَر... ما رأيكَ بذلك؟
ـ عظيم! مِن أين أبدأ؟
ـ مِن البداية... فلدينا المتّسع مِن الوقت... أنا أعمل هنا...
ـ وأنا أعيش هنا! هـ هـ هـ... حسنًا... أنا إبن ناس أغنياء... لم أعتَز شيئًا في حياتي، ولكنّني لم أكن يومًا كسولاً بل أصرَّيتُ على أن أنهي دراستي وأن أعمل خارج مؤسّسات أبي كي لا يقول لي يومًا "أنا الذي عمِلتُ منكَ رجلاً ناجحًا". وظنَنتُ أنّ أولادي سيكونون مثلي عندما يكبرون ولكنّني كنتُ مخطئًا.
وبفضل مهارتي في الحساب والأعمال التي لا بدّ أنّني ورثتُها مِن والدي، صعدتُ سلّم النجاح. وكم كنتُ فخورًا بنفسي! ولكنّ والديّ لم يُشاركاني هذا الشعور بل امتعضا مِن استقلاليّتي.
واشترَيتُ شقّة إنتقَلتُ إليها لأعيش فيها لوحدي، وسرعان ما أُغرِمتُ بنادلة لطيفة كانت تعمل في مطعمي المفضّل. وبالطبع لم يكن مِن المقبول أن يتزوّج إبن فلان مِن فتاة بسيطة، فعصَيتُ مرّة أخرى أوامر أهلي.
كنتُ قادرًا على ذلك لأنّني كما قلتُ لكِ، كنتُ مستقلاً مِن جميع النواحي، ولولا ذلك لتزوّجتُ مِن إبنة تاجر كبير أو مدير مصرف لا أحبّها ولا تحبّني.
تزوّجتُ مِن منى وعشتُ معها أيّامًا جميلة وأنجبنا 3 صبيان. كنتُ أحلم بإبنة ولكنّني رضيتُ بما أعطاني الله.
ـ كم مِن الجميل أن يستمرّ حبّ كلّ تلك السنين!
ـ لا... زوجتي الحاليّة ليست مُنى. دعيني أكمل... بعد ولادة آخر إبن لي، قرَّرَ والدَيّ مسامحتي وكنتُ سعيداً جدّاً أن يربى أولادي في كنَف جدَّيهما. لذا انتقلتُ مع عائلتي إلى البيت الكبير. وهنا كانت غلطتي. لم يخطر ببالي أنّ مِن المستحيل على مُنى أن تتعايش مع والدَيّ، وخاصّة مع أمّي التي كانت إمرأة قويّة وباردة وتكره كلّ مَن لم يولد وملعقة فضّة في فمه. ولم أكن على علم بما مرَّت به زوجتي يوميًّا أثناء وجودي في العمل. فكيف لي أن أتصوّر أنّ أمّي ستدفع بأولادي إلى كره والدتهم واضطهادها؟ ولكن هذا الذي حصل. نعم، فلقد كانوا صغارًا شديديّ التأثّر بالمغريات من هدايا ومال.
وبعد فترة لم تعد مُنى تتحمّل العيش تحت نير حماتها وأولادها. وبالرّغم مِن صمتها، كانت تتمنّى لو لم تتزوّجني وبقيّت نادلة بسيطة. فما كان نفع المال والجاه عندما يُهان المرء طوال النهار مِن أقرب الناس. لم ألاحظ شيئًا، لأنّ الأمور كانت تهدأ في حضوري ويدّعي الكلّ التناغم. ولم تقل لي زوجتي شيئًا ربما كي لا تفتن بيني وبين أهلي بعد أن عادَت الألفة بيننا أو لأنّها خالَت أنّ الأمور ستصطلح مع مرور الوقت.
وكبرَ أولادنا وزادوا كرهًا ومكرًا وقساوة. كانوا صورة طبق الأصل عن أمّي. وفي المقابل، ذبلَت مُنى حتى أصيبَت بانهيار عصبي حاد إستلزمَ نقلها إلى مؤسّسة خاصة حيث بقيَت باقي حياتها. أظنّ أنّها وجَدَت هناك الرّاحة والسّكينة واسترجعَت كرامتها. وبقيَت تخفي عنّي كلّ شيء حتى عندما كنتُ أزورها في المؤسّسة وأجلس معها ساعات طويلة لوحدنا. وبقيَ أولادي يُمثّلون دور الأبناء المحبّين أمامي. هل كنتُ منشغلاً بأعمالي أكثر مِن اللزوم أم أنّني لم أتصوّر أن تصل الأمور إلى ذلك الحدّ؟ لا بّد أن أكون قد أخطأت في مكان ما... لا أدري...
وطلبَت مُنى منّي أن أطلقّها كي أستطيع أن أحظى بحياة خاصّة طبيعيّة، ولكنّني بقيتُ أرفض إلى حين رأيتُ أنّ الأمر سيُريحها. وطلّقتها على مضَض.
وعشتُ حياة هادئة مِن بعد ذلك ولم أكن أهوى النساء بل الأعمال. وبعد أنّ مرَّت سنوات عديدة وكبرَ أولادي وتوفّي والداي، شعرتُ بالوحدة. لم أقطع زياراتي لمُنى ولكنّها لم تعد تحبّ رؤيتي، وكانت في غالب الأحيان ترفض أن تقابلني. وكان أبناؤها قد سئموا مِن التمثيل مِن زمن بعيد وما عادوا يتكبّدون عناء زيارتها.
كان قلبهم بسواد الليل، ولم يسكن بالهم سوى أمر واحد: المال. كنتُ قد قرّرتُ أن أجعل منهم رجالاً أقوياء وأن أحملهم على اتباع خطواتي، أي الإتكال على أنفسهم، لذا أعطَيتُ كلّ واحد منهم مبلغًا كافيًا لبدء عمل جيّد وتطويره. إلاّ أنّهم أرادوا كلّ شيء وعملوا على تدميري مِن الدّاخل. فادّعوا أنّهم لا يطيقون رؤيتي وحيدًا وأنّ عليّ إيجاد رفيقة لحياتي، وتوصّلوا إلى إيجاد العروسة المناسبة لي. فرِحتُ لهذا الكمّ مِن المحبّة والغيرة على سعادتي، فقبلتُ أن أتعرّف إلى سَمَر، إمرأة جميلة وجذّابة. وهم إختاروها لي حتى تنفّذ أوامرهم وخطتّهم بأن تأخذ منّي ما يُمكنها.
ولأنّني كنتُ قد بقيتُ سنوات مِن دون أن أحبّ أحدًا، وقعتُ بغرام سَمَر التي كانت متمرّسة بإيقاع الرّجال في شباكها. ونسيتُ مُنى وعالم الأعمال وكلّ ما لا يتعلّق بتلك المخلوقة الرّائعة. وتزوّجتُها بعد أن كتبتُ لها قسمًا كبيرًا مِن أملاكي، لأنّها خافَت أن يُشكّل فرق العمر بيننا تهديدًا لمستقبلها. فالجدير بالذكر أنّني أكبر سَمَر بعشرين سنة.
وبدأ استنزافي مِن كلّ الجهّات. تارة كان أولادي يُطالبوني بالمزيد، وتارة أخرى كانت زوجتي تفتعل المشاكل لأصالحها بالمجوهرات والشيكات وكلّ ما يُمكنها بيعه وقبض ثمنه.
وجاءَت سَمَر بأخيها ليعرض عليّ مشروعًا قال إنّه مربح. لم أكن بحاجة إلى هذا النوع مِن المغامرة خاصة بعدما تقلّص حسابي المصرفيّ وحصصي في شركتي. إلا أنّني لم أستطِع الرفض، فكنتُ أعلم أنّ زوجتي ستستاء كثيرًا منّي، لأنّها كانت جد مقرّبة مِن ذلك الأخ الغامض. كيف لم أرَ المكيدة آتية وأنا رجل أعمال متمرّس؟ الحبّ يا عزيزتي... الحبّ يُعمي ويجعل مِن المرء طفلاً صغيرًا أعمىً.
وأخَذَ أخ سَمَر كلّ ما استثمرتُه في ذلك المشروع وما تبقّى لي وهَرَبَ إلى الخارج. ولامَتني زوجتي على كلّ شيء، وانقَلَب أولادي ضدّي، لأنّهم لم يعودوا بحاجة إليّ بعدما تقاسموا مع سَمَر وأخيها الغنيمة.
ولكثرة حسرتي، إنتكَسَت صحّتي ولم تعد تريدني زوجَتي في البيت لأنّني بنظرها "عجوز لا نفع منه". ولم يعرض أيّ مِن أولادي أن يهتمّوا بي، بل قالوا لي وبكلّ بساطة إنّ مِن الأفضل للجميع أن أذهب بإرادتي إلى دار العجزة على أن أُجبَر على ذلك. وفهمتُ الرّسالة. إتصَلتُ بصديق قديم لي كنتُ قد أسدَيتُ إليه في ما مضى خدمة كبيرة درَّت عليه مبالغ كبيرة، وطلبتُ منه أن يتكفّل بمصاريف الدّار. قَبِل على الفور وبكلّ طيبة قلب. وها أنا هنا اليوم.
ـ ومُنى؟ ماذا حَدَث لها؟
ـ ماتَت... ولم أحضر جنازتها... سَمَر منعَتني مِن ذلك، لأنّها كانت تريدني أن أبتعد كلّ البعد عن حياتي السابقة... يا لغبائي... هل أنا إنسان سيّئ؟ هل أستحقّ ما حَدَث لي؟
ـ أبدًا سيّدي... إنسانة عظيمة قالَت لي يومًا: "إنتبهي يا ابنتي... قلبكِ طاهر وليس الجميع مثلكِ".. كانت خائفة عليّ ولكنّني لستُ بطيبتكَ... سيأتي يوم و...
ـ وألتقي مجدّدًا بمُنى... أوّد ذلك مِن كلّ قلبي... ليس فقط بسبب حبّي لها واشتياقي إليها، بل أيضًا لأطلب منها السّماح لأنّني لم أرَ ما كان يحدث... ولو فعلتُ لما قضَت حياتها مذلولة... الذنب ذنبي!
ـ الذنب ذنب والدتكَ التي لم تحبّكَ كفاية لتربية أحفادها على احترامكَ واحترام أمّهم.
ـ أمّي لم تحبّ أحدًا يومًا... هل تظنّين أنّني سأراها هي الأخرى عندما أرحل مِن هذه الدنيا؟ وماذا سأقول لها؟ وهل ستعذّبني أنا ومُنى مجدّدًا؟
ـ لا أظنّ ذلك سيّدي... فمكانها ليس معكَ ومع مُنى... إنّ الله يُحاسبنا على أفعالنا ويأخذ لنا حقنّا... وحتى ذلك الحين، تأكّد من أنّكَ بين أيادٍ أمينة، فسأعمل على أن تحظى بالرّعاية اللازمة هنا... إعلم يا سيّد عيسى أنّ منذ اليوم أصبَحَ لكَ صديقة جديدة.
حاورتها بولا جهشان