شعرتُ بخجل كبير عندما رأيتُ إسراء في مدخل المبنى الذي كنتُ قد إنتقلتُ إليه قبل أسبوع. في الماضي، كنّا أعزّ الصديقات ولكن ما فعلتُه بها جعلنا نفترق طبعاً. وكيف لها أن تحبّني، بعدما سرقتُ منها خطيبها؟ لستُ إمرأة سيّئة ولم أتخيّل يوماً أنني قادرة على فعل هذا ولكن أحياناً يدخل على حياتنا أشخاص يصعب مقاومتهم مهما كانت مبادئنا. فعندما عرّفتني إسراء على خطيبها ونظرتُ إلى عينيه، علمتُ فوراً أنّه الرجل الذي كنتُ أبحث عنه. وهو أيضاً شعر بنفس الشيء تجاهي. قاومتُ إنجذابي له قدر المستطاع ولكن نادر لم يدعني وشأني بل بدأ يقنعني أنّ علينا الخضوع إلى قدرنا وأنّ صديقتي لن تأسف كثيراً، فهي إمرأة جذّابة وستجد سريعاً رجلاً آخراً. وقبلتُ بأن أخون إسراء وأقمنا علاقة حسبتُ أنّها ستدوم إلى الأبد. ولكن الخائن يبقى خائن وبعد أن نال مراده منّي، ذهب من غير رجوع وتركني مع شعور بالذنب لا يوصف. لم أرَ صديقتي منذ ذلك الحين وقيلَ لي أنّها مَنَعَت الجميع من ذكر إسمي أمامها وأنّها أصيبت بإكتآب عميق حملها إلى ترك البلد.
وبعد مرور سنين عديدة، ها أنا أقع وجهاً لوجه معها. لأوّل لحظة لم أستوعب أنّها هي، فكنتُ أظنّ أنّها مسافرة وعندما تأكّدتُ أنّ المرأة الواقفة أمامي هي صديقتي القديمة، إبتسمتُ لها بخجل وهمستُ لها: "مرحباً" ولكنّها أدارت لي ظهرها ودخلَت المصعد. ركضتُ إلى الناطور أسأله عنها، فقال لي أنّها تسكن مع زوجها في نفس طابقي ومقابل شقتي! يا لحظّي! للحظة خطر على بالي أن أترك المبنى وأذهب للسكن في مكان آخر ولكنني تعذّبتُ كثيراً لإيجاد هذه الشقّة بعدما تطلّقتُ من زوجي وقررتُ الإنتقال للعيش بمفردي. رضختُ لسخرية القدر وصممتُ على تفادي جارتي قدر المستطاع.
ومرّ أكثر من شهر ولم أرها وكنتُ سعيدة أنّ أوقاتنا ليست متزامنة، حتى أن دُعيتُ إلى إجتماع عام لسكّان المبنى. كانت ستكون فرصة لأتعرّف إلى باقي جيراني، على أمل أن يصبح البعض منهم أصدقاء لي، فكنتُ أشعر بالوحدة بعض الشيء. فذهبتُ إلى الشقّة التي أُقيمَ الإجتماع فيها ووجدتُ إسراء جالسة وسط أناس لا أعرفهم. ألقيتُ التحيّة على الحاضرين وعرّفتُ عن نفسي ولكنني جوبهتُ بسلام بارد ونظرات مجرّدة من أيّة مودّة. وعندما نظرتُ إلى صديقتي ورأيتُ بسمتها علمتُ أنّها أخبرَت الجميع بالذي حصل بيننا فيما مضى.
جلستُ على كرسي إلى جانب الحائط وشعرتُ بإنزعاج كبير. وبعدما ألقى رئيس اللجنة كلمته وناقش مع الآخرين سبل تحسين المبنى، حان وقت الرحيل. قررتُ حينها الذهاب إلى المجتمعين والتكلّم معهم ولكن كلّما إقتربتُ من أحدهم إبتعدوا عني. كان من الواضح أنّ لا أحد يريد التقرّب منّي. لاحظتُ كيف كانت تنظر النساء إليّ وإلى أزواجهنّ وتشدّهم بعيداً عني وكأنني مصابة بمرض معدٍ. خرجتُ من الشقّة دون أن أودّع أحداً.
ومن بعد هذا الإجتماع، بدأت المضايقات. في البدء، لم أربط الذي يحصل بالغضب العام الذي وجِّه نحوي، فكانت أمور صغيرة ككيس نفايات قرب بابي أو إنقطاع مفاجئ للتيّار الكهربائي، فهي أمور قد تحصل لأسباب عدّة. ولكن عندما بدأ الناطور تجاهلي ورفض القيام بواجباته معي، علِمتُ أنّ مؤامرة تُحاك ضدّي. ولم تنتهي الأمور إلى هذا الحدّ، بل تصاعدت يوم بعد يوم. ففي ذات صباح، عندما نزلتُ إلى المرآب لأذهب إلى عملي، وجدتُ سيّارتي مزيّحة على طولها بواسطة آلة حادّة وكان من الواضح أنّ أحداً فعل ذلك عن قصد. قررتُ حينها أن أكلّم هاتفيّاً رئيس لجنة المبنى لآخذ موعداً منه وأطلعه على الذي يحصل لكنّه كان دائماً يؤجّل مقابلتنا. غضبتُ كثيراً وقصدتُ شقّته لأجبره على الإستماع إليّ وعندما قرعتُ بابه فتحَت لي زوجته:
- ماذا تريدين؟
- مساء الخير... أودّ التكلّم مع زوجكِ من فضلكِ.
- ليس موجوداً.
- في أي وقت يمكنني مقابلته؟ لديّ أمور مهمّة أودّ أن أخبره عنها.
- ليس موجوداً الآن ولا في أيّ وقت آخر!
- ولكن...
- إسمعيني جيّداً... ليس مرغوب فيكِ هنا... لا نريدكِ بيننا... نحن أناس شرفاء وهذا مبنى محترم... دعي رجالنا بسلام لأنّ غضبنا سيكون قاسياً جداً... أنصحكِ بالرحيل.
وأقفلَت الباب بوجهي ووقفتُ أبكي بصمت. لم أكن أستحق هكذا معاملة، فأنا لم اكن إمرأة سيّئة. صحيح أنني أخطأتُ التصرّف مع إسراء ولكنني كنتُ صغيرة وتعلّمتُ الدرس جيّداً. ولم أكن أتصوّر أنّ صديقتي ستحقد علي كل هذه المدّة، خاصة أنّها تزوّجَت ولكن من الواضح أنّها لم تغفر لي. أدركتُ حينها أنّ عليّ ترك شقتي، فليس من جدوى من العيش في مكان حيث تحصل أمور كهذه يوميّاً.
وبعد بحث دام أسابيع، وجدتُ أخيراً مسكناً آخراً وبدأتُ توضيب أمتعتي. وبينما كان العمّال ينقلون فرشي، تفاجأتُ برؤية إسراء واقفة على بابي وعلى وجهها بسمة الإنتصار:
- فعلتِ حسناً...
- هل نلتِ مرادكِ الآن؟ ها أنا راحلة بعيدة عنكِ وعنكم جميعاً!
- أجل... لا أريدكِ قربي أو قرب زوجي فأنتِ سارقة رجال!
- حصلَ هذا مرّة واحدة وأنتِ تعلمين أنّ نادر تركني بعد فترة قصيرة. الذنب ليس ذنبي فقط. ألن تنسي ما حصل؟
- أنا لستُ آسفة على نادر، فهو رجل مخادع يركض وراء نزواته... كنتِ صديقتي... كنتُ أثق بكِ وأعتبركِ أختاً لي... عرّفتكِ على خطيبي لتفرحي لي ولتشاطريني أوقاتي السعيدة ولكنكِ غدرتيني... أتدرين ماذا حصل بعد ذلك؟ تركتُ البلاد وذهبتُ إلى مكان عشتُ فيه بإكتآب سنيناً طويلة، أسأل نفسي كيف أثق بأحد بعدما خانتني أعزّ الناس على قلبي. خضعتُ لعلاج نفسي طويل لأستعيد ثقتي بنفسي وبالناس. تألّمتُ كثيراً بسببكِ ولستُ مستعدّة أن أراكِ هنا كل يوم. إرحلي من حياتي...
وذهبتُ دون أن يتسنّى لي أن أعتذر حتى. وتركتُ المبنى وفي قلبي حزن عميق، آملة أنّ يوماً سيأتي وتسامحني صديقتي على الذي فعلتُه بها.
حاورتها بولا جهشان