أحيانًا عندما يكبر الرجل في السنّ ويشعر بالحاجة إلى إثبات أنّه لا يزال شابًا وبإمكانه جذب النساء، يقوم بما قد لا يفعله لو كان أصغر سنّاً على الأقل ليس قبل أن يُحكّم عقله والمنطق.
وهذا ما حصل لخالي عُمر الذي كان قد بلغ الستّين مِن عمره وأحبّ أن يرتبط مِن جديد، بعدما ماتَت زوجته وكبر أولاده وسافروا كل واحد منهم إلى بلد. كانت أحوال عمر جيّدة جدًّا بعدما قضى حياته يُوظّف ما يجنيه بالعقارات والأسهم. وكان يملك منزلَين الواحد في وسط العاصمة والثاني قرب الشاطئ بالقرب من اهله. لم يكن ينقصه سوى التي ستأتي وتُفرِح حياته.
ولأنّه كان ثرّيًا، تهافتَت الفتيات والنساء بعدما أُذيعَ خبر رغبته في الإرتباط. ولم يقع اختياره إلاّ على سناء، إمرأة جشعة لا حدود لِطمعها والتي رأَت في خالي فرصة لتحصل على كلّ ما حُرِمَت منه مع أهلها وزوجها السابق الذي كان فقيرًا وغير ناجح بشيء. وبواسطة أصدقاء مشتركين، دخلَت سناء إلى حياة عُمر واجتهدَت لتتفوّق على منافساتها باستعمال أساليب لا تعرفها سوى ذوات خبرة عميقة في الرّجال.
وتزوّجا، وأقام لها خالي زفافًا ملكيًّا تحدّث عنه الناس لوقت طويل، وانتقلا للعيش في منزلهما قرب الشاطئ. ولكن سرعان ما ملَّت سناء مِن العيش قرب أهل زوجها الذين لم يُحبّوا أسلوبها بالتعامل مع عُمر ورأت فيهم مصدر إزعاج. لِذا طلبَت مِن زوجها أن ينتقلا إلى العاصمة فقبِلَ معها على الفور.
وأنجبَت سناء لِعُمر ولدَين، وكانت فرحتَه لا توصَف بعدما اشتاق إلى وجود أطفال يركضون ويلعبون حوله. وزاد حبّه لزوجته وتعلّقه بها ولم يعد قادرًا أن يرفض لها أيّ طلب. وبالطبع، إستفادَت الزوجة مِن الوضع لتؤمِّن لنفسها مستقبلًا لم يكن لِخالي مكانٌ به.
كان عُمر كلّما سافر للإطمئنان على أعماله، يترك عائلته في بيت الشاطئ قرب أهله، الأمر الذي كان يُثير غضب سناء إلى أقصى حدّ. لِذا قرّرَت أن تجعله يبيع البيت ليشتري آخر قرب أهلها هي. ولكنّه بقيَ يرفض أوّلًا لأنّه كان متعلقًّا بالبيت، وثانيًا لأنّه كان يُريح باله خلال سفراته، وجود ذويه قرب زوجته وولدَيه.
وكانت تلك بداية أحداث إنتهَت بمأساة لم يتصوّرها أحد، وحتى اليوم أجد صعوبة في تصديق إلى أيّ مدى يصل الإنسان لبلوغ غاياته.
فقد أخَذ موضوع البيت حجمًا بَلغَ حدّ الشجار والشتائم، ولكنّ خالي لم يتراجع وأدركَ أنّه أخطأ في اختيار زوجته. ورأى حقيقتها، أيّ أنّها غير قادرة على الحبّ. فحتى معاملتها مع ولدَيها كانت جافة وقاسية. فكلّ ما كانت تريده كان المال ثمّ المال.
وفكّر عُمر جدّيًّا بالإنفصال عن زوجته، ولكنّه بقيَ متردّدًا بسبب ولدَيَه ممّا أعطى لسناء الوقت الكافي لتنفيذ خطّتها الدنيئة.
قصدَت سناء صيدليّة يملكها أحد أقربائها، وبعد أن أطلعَته على وضعها، أعطاها حبوبًا مهلوسة وعلّمها كميّة الجرعات اللازمة كي لا يُكتشف أمرها.
وراحَت اللعينة تدسّ محتوى الحبوب في مشرب ومأكل عُمر الذي لم يتصوّر طبعًا أنّه يعيش مع إنسانة بهذا الإجرام. ويوماً بعد يوم، بدأت طباع خالي تتغيّر. في البدء، لم يُلاحظ أحد شيئًا عليه، ولكن بعد فترة أصبح مِن الصعب تجاهل تصرّفاته الغريبة.
صار ينسي الأسماء والأحداث ولا يتذكّرها الاّ بعد حين أو أبدًا، وكان يبدو تعبًا حينًا أو فائق النشاط في أحيان أخرى. وظنّنا أنّ العمر هو السبب فلم نتدخّل. وحدها أمّي كانت تقول:" سناء ستقود خالكم إلى الجنون" ولكنّها كانت تعني تصرّفاتها الماكرة وليس المهلوسات طبعًا.
وبدأت سناء تشتكي للجميع من حالة زوجها، وتتذّمر منه ملوّحة بالطلاق، بينما كانت تزيد له الجرعات لتبلغ غايتها، أي بيع منزل الشاطئ. هل كان الأمر يستحقّ كلّ ذلك العناء؟ أظنّ أنّ عناد خالي هو الذي دفعها إلى كسره وليس الإستيلاء على المنزل فقط.
وأتذكّر أنّني زرتهم ذات مرّة ورأيتُ خالي جالسًا على الكنبة يُحاور أناسًا غير موجودين ويُلوّح بيدَيه تجاههم. عندها قالت لي سناء:
ـ أنظري إليه... كم هو مثير للشفقة! لم أعد أحتمله! لو علِمتُ أنّ ذلك سيحصل لما تزوّجتُ مِن عجوز!
ـ ربما عليكِ أخذه إلى طبيب.
ـ لماذا؟ ليُجروا عليه التجارب ويُعذّبوه؟ لا! هكذا أفضل."
وعدتُ إلى البيت حزينة، لأنّ عُمر كان دائماً رجلًا متزّنًا يطيب الجلوس معه لكثرة ثقافته وذكائه.
وفي مرّة أخرى، رأيتُ عندهما ذلك الصيدليّ. ولتبرّر سناء وجوده قالت:" قريبي صيدليّ... جاء ليعطيه ما يُخفّف مِن حالته."
ولم يخطر ببالي شيء آنذاك، ولكن لاحقًا، وبعد أن وقعَت المصيبة، ربطتُ الأحداث ببعضها واستنتجتُ ما حصل فعلًا. ولكن مِن دون دلائل إستحال عليّ فضحهما.
وبعد بضعة أشهر، إستطاعَت سناء حمل خالي على وضع إمضاءه على عقد بيع المنزل وشراء آخر. لقد وصلَت تلك المرأة أخيرًا إلى مرادها. ولكنّها كانت تريد وضع يدها على كامل أملاك عُمر، فزادَت الجرعات حتى فقد المسكين عقله تمامًا.
وبالطبع إستغربَت العائلة قبول عُمر بالتخلّي عن البيت، ولكنّ تراجع حالته العقليّة كان السّبب بنظرهم. وأصّر البعض على سناء أن تعرضه على أطبّاء مختصّين لكنّها بقيَت ترفض حتى أسكتَتهم جميعًا.
وبدأ خالي بالخروج مِن البيت لوحده والمشي كالضائع على الطرقات. وكان الجيران أو المعارف يُعيدونه إلى بيته في كلّ مرّة. وطلبَت أمّي مِن زوجته وبإلحاح أن تراقبه وأن تقفل الباب بالمفتاح، ولكنّها طبعًا لم تأخذ بنصيحتها .
وفي أحد الأيّام، خرجَ خالي مِن المنزل ولم يعد. ولم تبلّغ سناء عن اختفائه إلاّ بعد هبوط الليل كي يصعب العثور عليه. وألّفنا فريقًا للبحث عنه، وحين لم نجده أعلمنا الشرطة التي هي الأخرى لم تعثر عليه. ووضعنا صورة له على واجهات المحلّات وعلى الطرقات مع مكافأة ماليّة، ولكن مِن دون جدوى. كان المسكين قد اختفى عن وجه الأرض.
ومرّت الأشهر والسنة، وأصبحَت سناء تملك قانوناً ثروَة عُمر، وطلبَت منّا أن نأتي لنأخذ أمتعته مِن البيت فلّبينا طلبها.
وهناك وجدتُ الأقراص التي رأيتُ الصيدليّ يعطيها لخالي، فأخذتُها معي سرًّا وأريتُها لطبيب أكّد لي أنّها تسبب الهلوسة وضررًا كبيرًا في التوازن العقليّ. ولكنّني لم أكن قادرة على إثبات ضلوع أحد في جنون عُمر، لِذا سكتُّ. ولكن عقاب سناء جاء بعد أقلّ مِن سنة حين سقطَت على راسها إحدى دعامات بناء قيد الإنشاء حين كانت تتسوّق في المدينة. فهل حصل ذلك قضاء وقدراّ أم كان عقابًا إلهيًّا؟
حاورتها بولا جهشان