خالَتي والمُصفِّف

حين ماتَت والدتي الحبيبة، إنتابَني حنين كبير للبلَد، فلقد هاجَرتُ موطني حين بلَغتُ الثامنة عشرة لأُكمِل دراستي، واستقرَّيتُ هناك بعد أن وجدتُ عمَلاً جيّدًا، ولاحقًا زوجًا جيّدًا أيضًا أنجبتُ منه ولدَين جميلَين صارا راشِدَين. ماتَ والدي بعد رحيلي بسنوات قليلة، وحاولتُ كثيرًا إقناع أمّي بالعَيش معي في الخارج إلا أنّها لَم تقبَل. بالطبع كنتُ أزورُها خلال الفرَص السنويّة، لكنّ ذلك لَم يكن كافيًا لها أو لي أو لولدَيّ. ركضتُ بسرعة لأحضَر دفن التي أعطَتني الحياة، ولعَنتُ الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي دفعَتني للبقاء في المهجَر، وإلا لبقَيتُ قربها حتّى آخِر لحظة.

رأيتُ في الدّفن الأقارب والأصدقاء والجيران القُدامى، لكنّ شخصًا واحدًا إستقطَبَ اهتمامي فعليًّا: خالتي جنى. فتلك المرأة كانت أخت أمّي الوحيدة، ولطالما إحتاجَت إليها، لأنّ والدتي كانت أكبَر منها سنًّا، وتتّسِم بحكمة عميقة وحبٍّ لمساعدة مَن هو بحاجة.

بدَت لي خالتي هزيلة وحزينة، فاقتربتُ منها بعدما غادَرَ الناس لأسأل عن أحوالها. كنتُ أعلَم مِن أمّي أنّ جنى تعمَل عند مُصفِّف شعر وذلك منذ سنوات عديدة، وفوجئتُ عندما قالَت لي خالتي إنّها لا تزال تعمَل في الصالون نفسه، لأنّها كانت قد بلغَت الخامسة والستّين مِن عمرها، فقلتُ لها:

ـ ظننتُكِ ترَكتِ ذلك المُصفِّف يا خالتي وارتحتِ مِن العمَل.

 

ـ العمَل يُبقيني نشيطة يا صغيرتي.

 

ـ قولي لي... سمعتُ منذ سنين أنّكِ كنتِ مخطوبة لذلك المُصفِّف... أعذريني على سؤالي، لماذا لَم تتمّ تلك الزيجة، وكيف أنّكِ لا تزالين معه في الصالون؟

 

ـ لَم يتمّ النصيب وحسب... فهو تزوّجَ مِن غيري في آخِر المطاف.

 

ـ ولَم ترحَلي؟!؟

 

ـ لا... فقد صارَ تصفيف الشعر مهنتي وأحبَبتُها.

 

ـ هناك ألف صالون آخَر!

 

ـ ولكن هناك هاني واحد.

 

سكتُّ لأنّني أدركتُ أنّ جنى بقيَت مع هاني لأنّها أحبَّته أكثر مِما هو أحبَّها، وخشيتُ أن تكون هدرَت حياتها مِن أجله. سكنَني غضب كبير تجاه ذلك المُصفِّف الأنانيّ، الذي بسببه ستبقى خالتي وحيدة حتى آخِر أيّامها بعد أن ماتَت أمّي، سندَها الوحيد. فإن كانت جنى لا تزال مُتيّمة بهاني، فذلك يعني أنّها لَم تتزوّج لتبقى بالقرب منه. هل أنّني أتصوّر أمورًا غير موجودة أم أنّها حقيقيّة؟ إنتابَني فضول كبير حيال تلك المسألة، ربّما بسبب نظرات خالتي الحزينة وضياعها الواضح بعد موت أختها الوحيدة. لِذا قلتُ لها:

ـ هل لي أن أزورَكِ في الصالون؟ أريدُ صبغ شعري، ولقد سمعتُ أنّ هاني بالرغم مِن سنّه، هو مُصفِّف بارِع.

 

ـ أهلًا بكِ يا حبيبتي، سأُعطيكِ موعدًا حين أعودُ إلى العمَل في الغد.

 

كذبتُ على جنى، لأنّني لَم أسمَع أبدًا أنّ هاني بارِع بل العكس، فالحقيقة أنّه كان مُصفِّفًا رديئًا لا تقصده سوى النساء المُسنّات اللواتي لا تُرِدن دفع الكثير على تصفيفة أو قصّة جيّدة.

أخذَت لي جنى موعدًا مع هاني، وقصدتُ الصالون باكِرًا بعد أن مرَرتُ على خالتي لأصطحبها معي، كَي لا تذهب إلى عمَلها مشيًا على الأقدام، وكَي أرى ذلك المكان جيّدًا قَبل وصول المُصفِّف أو زبائن أخريات. ولدى وصولنا، فتحَت جنى المحلّ وركضَت تُحضِّرُ لنا القهوة. جِلتُ في المكان ودُهِشتُ لكبره، فهو كان على ما يبدو في الأصل شقّة سكنيّة حُوِّلَت إلى صالون، مما يُفسِّر وجود مطبخ كبير وغُرَف عديدة إحداها غرفة نوم مع سرير وتلفاز. وعندما سألتُها عن تلك الغرفة، أجابَت جنى بسرعة: "إنّها لهاني، ليستريح عندما يتعَب". إبتسَمتُ في داخلي، لأنّني علِمتُ أنّ في الموضوع أكثر مِمّا يبدو، لكنّني لَم أُصِرّ على معرفة المزيد. جلَسنا نتحدّث عن أمّي الحبيبة، وتشارَكنا الذكريات خاصّة عن فترة طفولتي ومُراهقتي قَبل رحيلي إلى الخارج.

دخَلَ هاني الصالون بعد حوالي ساعة مِن قدومنا، ووقَفَ أمامي رجُل مُسِنّ ذو شعَر وشوارب مصبوغة بلون داكِن، الأمر الذي حمَلَني على الابتسامة، خاصّة عندما رأيتُ ملابسه التي أرادَها "شبابيّة". كان مِن الواضح أنّ ذلك المُصفِّف يرفُض أن يبدو كبيرًا في السِنّ، بل يُريدُ أن يوحي أنّه لا يزال وسيمًا وقادِرًا على جذب النساء. فهِمتُ ذلك مِن الطريقة التي نظَرَ إليّ فيها، وكأنّه آتٍ لموعد غراميّ معي. كان المشهد سخيفًا ومُضحِكًا، فألقَيتُ التحيّة عليه كَي لا ينتبِه إلى بسمتي. أمسَكَ هاني بِيَدي وقبّلَها وهو ينظُر مُباشرةً في عَينَيّ قائلًا: "سُرِرتُ بمعرفتكِ، يا جميلتي". شعرتُ بالانزعاج، فسحبتُ يَدي بسرعة وبدأتُ أشرَحُ له ما أريدُ أن يفعل بشعري، فلَم أكن أنوي تسليمه صبغ شعري بل فقط تصفيفه.

وأثناء حديثي معه، قاطعَني هاني ليقولَ لخالتي بِنبرة أمر أزعجَتني:

ـ ماذا تنتظرين؟!؟ هيّا، حضّري كلّ شيء! هيا، أيّتها الفضوليّة!

 

أردتُ التدخّل إلّا أنّ جنى نظرَت إليّ وكأنّها تقولُ لي ألّا أفعل. غسلَت جنى شعري، وجلَستُ على الكرسيّ القديم الذي كان يُصدرُ صريرًا كلّما تحرّكتُ، ثمّ جاءَ هاني... بلباس مُختلِف وكأنّه ذاهب إلى حفل زفاف، وتفحُّ منه رائحة عطر قويّ! إستنتجتُ أنّه دخَلَ غرفته حيث يضع ملابسه وأغراضه، لكنّني لَم أفهَم سبب أناقَته هذه. لِذا سألتُه:

ـ هل أنتَ ذاهب لمكان ما بعد أن تنتهي مِن العمَل؟

 

ـ أبدًا... غيّرتُ ملابسي لتتماشى مع أناقتكِ.

 

أيّ أناقة يتكلّم عنها؟ فكنتُ في ذلك اليوم أرتدي ملابس سوداء عاديّة للغاية. شكرتُه على الإطراء، في حين ركَّزَ نظره عليّ عبر المرآة طوال عمليّة تنشيف شعري التي قامَت بها خالتي. ثمّ سألتُ هاني:

ـ كيف العائلة؟ كيف السيّدة زوجتكَ؟

 

ـ بخير، بخير.

 

ـ قُل لي، هل تأتي زوجتكَ إلى هنا، أعني لتُساعدكَ؟

 

ـ أبدًا! ليس لدَيها أيّ شيء تفعله هنا، فمكانها في بيتها! على كلّ الأحوال هي صارَت كبيرة في السنّ... يا لحظّي... لماذا تشيخ النساء؟!؟

 

ـ وهل أنّ النساء وحدها تشيخ؟ هل زوجتكَ أكبَر منكَ سنًّا؟

 

ـ لا، بل أصغَر منّي بعشرين سنة.

 

ـ ماذا؟!؟ وتُسمّيها كبيرة في السنّ؟!؟ وماذا تكون أنتَ إذًا؟

 

ـ أنا شابّ، فلقد أنعَم عليّ الله بالشباب الدائم! على كلّ الأحوال، الرجال لا يشيخون! 

 

ضحكتُ لسخافة كلامه، لكنّه تابَعَ:

ـ خذي جنى مثلًا... كانت صبيّة جميلة ومُفعمة بالحياة وها هي عجوز قبيحة!

 

ـ لا أسمحُ لك بالكلام عن خالتي هكذا!

 

ـ أمّا أنتِ، فجميلة!

 

ـ مِن الجيّد أنّها لَم تتزوّجكَ! يا خالتي، ما هذا الرجُل السخيف؟!؟

 

لَم تُجِب جنى ولَم يزعَل هاني مِن كلامي، بل تابَعَ:

ـ أنا رجُل ثريّ... وباستطاعتي إعطاء المرأة كلّ ما تطلبه نفسها!

 

مرّة أخرى ضحكتُ في سرّي، لأنّ هاني لَم يكن ثريًّا على الاطلاق، بل العكس! تمنَّيتُ لو يُنهي المُصفِّف شعري بسرعة لأرحَل وينتهي هذا الحديث السّخيف، إلّا أنّه كان يعمَل ببطء ليربَح الوقت، فقد يُقنِعني به! يا للمُتشاوِف! ثمّ صرَخَ هاني بخالتي:

ـ جنى! قدّمي لضيفتنا الجميلة شاينا اللذيذ! 

 

لكنّها قالَت:

- لَم نُقدّمه لأحد منذ زمَن بعيد، أظنّ أنّ شاينا لَم يعُد نافِعًا.

 

نظَرَ إليها بشراسة وبلحظة، ورمى عليها إحدى فراشيه التي كادَت أن تُصيبَها في رأسها صارِخًا: "إخرسي وافعلي ما طلبتُه!". راحَت جنى إلى المطبخ، بينما بدأ هاني يروي لي قصّة لا معنى لها وبينما كنتُ أُحاوِل أن أنهض مِن الكرسيّ لأرحَل مِن ذلك لمكان البغيض، لكنّ الفرشاة علِقَت في شعري فمكَثتُ مكاني. عادَت خالتي حامِلة صينيّة وإبريقًا وكوبَين، لكنّها تعثّرَت وأوقعَت ما كانت تحمله أرضًا، مما أغضَبَ هاني لدرجة لا توصَف. بدأَت المسكينة بالتنظيف بينما هو أصرَّ أن تُحضِّر شايًا آخَر، إلّا أنّها أجابَته بغضب: "لَم يعُد لدَينا شاي، فلقد أفرَغتُ الكيس في الأبريق!"

المشهد الذي تلا كان عنيفًا، إذ أنّ هاني تركَ شعري وهجَمَ على جنى وصفعَها بكلّ قوّته. رأيتُ ما يحدث فانتابَني الذعر والغضب، فقمتُ مِن مكاني ولحقتُ به وضربتُه على ظهره، ثمّ ركَلتُه على ركبته ليسقطَ أرضًا. وقفتُ فوقه وصرختُ فيه: "أيّها الحيوان! مَن تظنّ نفسكَ؟!؟". ثمّ أخذتُ حقيبة يدي وخالتي وخرجَنا مِن الصالون بسرعة.

في طريق العودة بقيتُ صامِتة لكنّني سألتُها أخيرًا:

ـ لماذا تسمحين له بُمعاملتكِ هكذا؟ ألّا يكفي أنّه تزوّجَ غيركِ؟ كيف تبقين معه طوال كلّ تلك السنوات وتسمحين له بأن يُهينكِ ويُعنفّكِ؟ أين كرامتكِ؟

 

ـ أحبُّه... كثيرًا... أحيانًا يكون لطيفًا معي... لكن عندما تأتي زبونة يتحوّل إلى وحش... ثمّ بعد مُغادرتها يعودُ رجُلًا عاديًّا.

 

ـ وماذا عن تلك الغرفة... هل هي لكما؟ لا تُجيبي، فأنا أعرفُ الجواب، إنّه يستغلّكِ مِن كلّ النواحي يا مسكينة. هل كانت أمّي على عِلم بما يجري؟

 

ـ أجل ولا... أو بالأحرى هي لَم ترِد معرفة كلّ جوانب حياتي. هل تظنّين أنّه بخير؟

 

ـ ماذا؟!؟ أنتِ خائفة على سلامته؟!؟

 

ـ دعينا نعود لأطمئنّ عليه، فأنتِ أذَيتِه كثيرًا.

 

ـ وهو لَم يؤذِكِ؟ ألَم يصفَعكِ؟ ألَم يشتمكِ؟ ألَم يُدمِّر حياتكِ؟ إسمعي، أريدُكِ أن تتوقّفي عن العمَل في هذا الصالون، وسأبعثُ لكِ المال شهريًّا مِن الخارج، ولن تحتاجي لأنّ تتحمَّلي إهانة ذلك الوسِخ بعد الآن!

 

سكتَت جنى وخفتُ أن يكون كلامي مِن دون فائدة.

بعد يومَين عدتُ إلى عائلتي في الخارج بعد أن أمضَيتُ باقي مكوثي مع خالتي، لأُراقبها عن كثَب وأمنَعها مِن الذهاب إلى هاني. لكنّها تكلّمَت مرارًا عبر الهاتف همسًا واستنتجتُ أنّها على تواصل معه.

بقيتُ على وعدي لخالتي، وأرسلتُ لها راتبًا شهريًّا غير مُدرِكة إن كانت تركَت الصالون أو عادَت إليه. على كلّ الأحوال، كانت جنى سيّدة راشِدة وأنا غير قادِرة على مَنعها مِن فعل ما تُريدُه.

بقيتُ على تواصل وطيد معها، وعلِمتُ منها بعد حوالي السنة أنّ هاني ماتَ بسبب أزمة قلبيّة. لَم آسَف عليه على الاطلاق، لكنّ جنى بدَت لي في ضياع تام وحزن لا مثيل له. عرضتُ عليها أن آتي بها إليّ لتقضي فترة ترتاح خلالها وتُرفِّه عن نفسها، لكنّها رفضَت بتهذيب. وبعد ستّة أشهر ماتَت جنى بدورها. قيلَ لي إنّها سقطَت عن شرفة بيتها، لكنّني أظنّ أنّها أنهَت حياتها بنفسها. على كلّ الأحوال، كان مِن المُستحيل عليها أن تعيشَ مِن دون هاني، بعد أن بنَت حياتها حوله، بالرّغم مِن الإساءة الدائمة التي تعرّضَت إليها مِن قِبَله. كان بينهما رابط مرضيّ قويّ، فهي أحبَّت جلّادها بطريقة لن أفهَمها يومًا.

كَم مِن النساء هنّ في مثل حالتها؟ فالعديد منهنّ، للأسف، يرفضنَ ترك جلّادهنّ بل يجدون له الأعذار، ويُعزّزون مكانته بقبول مُعاملة سيّئة وإهانات لا تنتهي. الحلّ الوحيد هو ربّما في تربيتنا لأولادنا، بتعزيز ثقتهم بنفسهم ليتمكّنوا مِن رفض غير المقبول، والإيمان بأنّ هناك حياة أفضل في مكان ما مع شخص آخَر، أو مِن دون أحَد. فلو آمَنَت جنى بنفسها وقدراتها وعرفَت قيمتها الحقيقيّة، لتركَت هاني يوم هو تزوّجَ غيرها. مسكينة أنتِ، يا جنى.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button