تغيّرَت حياتي بشكل جذريّ بعد تلك الحادثة المؤسِفة، وطلَبَ منّي الأطبّاء أن أتحلّى بالصبر إلى حين أسترجِع قدرتي على تذكَّر كلّ تلك الأمور التي تصنَع حياة الانسان. فالحقيقة أنّني كنتُ ضحيّة مُحاولة سرِقة تلقَّيتُ خلالها ضربة عنيفة على رأسي. فرَّ الفاعِل وبقيتُ مُلّقىً في الشارع حتّى أُخِذتُ أخيرًا إلى المشفى. وبدأ عذابي اليوميّ، إذ أنّني فقدتُ القدرة على تذكّر ما حصَلَ معي قبَل ساعة واحِدة، بل فقط ما حصَلَ خلال الدقائق الأخيرة مِن يومي. تأثَّرَ عمَلي طبعًا، فأخذتُ إجازة مرَضيّة بينما إهتمَّت دارين زوجتي بِجَلب المال إلى البيت لندفَع الفواتير وقسط مدرسة ابنتنا الوحيدة المُراهِقة. أسِفتُ أنّني لَم أعُد المُعيل الوحيد لعائلتي الصغيرة، لكنّني حمَدتُ ربّي أنّ لِدارين عمَلًا تجني منه ما يكفي لنا جميعًا.
تحرّيات رجال الشرطة في ما يخصّ ما حصَلَ لي، لَم توصِلهم إلى أيّ مكان، إذ أنّ السرِقة وقعَت ليلًا في أحَد الشوارع المُظلِمة التي تُحيطُ بمنزلي. كنتُ عائدًا مِن نُزهتي اليوميّة التي أقومُ بها بعد العشاء، لأنّني كنتُ أعاني مِن بعض المشاكل الصحّيّة الطفيفة التي يُمكن مُعالجتها بالقيام بنشاط جسديّ وحمية مُعيّنة كانت تتَّبعُها دارين في تحضير طعامي. لا أعرفُ ما كان سيحلّ بي لولا زوجتي الحبيبة، التي فعلَت وبقيَت تفعلُ جهدها لتأمين حياة هنيئة لي ولابنتنا.
لكن مع الوقت، نَما وسط عائلتي امتعاض تجاه حالتي، لأنّني كنتُ أنسى ما حدَث مع زوجتي وابنتي أو ما قيلَ. أعلَم أنّ ذلك الإمتعاض لَم يكن موجَّهًا ضدّي، بل كان مِن الصعب عليهما التعايش مع إنسان لا يعرِف ما حدَث قَبل ساعة وحِدة، خاصّة أنّني بالفعل كنتُ أُجادِل وأنكُر، بينما دارين أو ابنتنا تؤكّدان لي العكس. فمثلًا كنتُ أنسى إن هما قالَتا لي عن مكان وجودهما أو ما فعلَتا، أو ما إتّفَقنا عليه، ولولا أنّني أتحلّى بشخصيّة ونفسيّة صلبة لغرِقتُ في حالة اكتئاب قويّة، لكنّني كنتُ مُتأكِّدًا مِن أنّ يومًا سيأتي وأسترجِع كامِل ذاكرتي، وما كان عليّ إلّا الصبر.
لكن سرعان ما تفاقمَت الأمور بيني وبين زوجتي، لأنّني صِرتُ عصبيّ المزاج وأُجادِلها كلّما أخبرَتني بما حدَثَ معي خلال النهار أو قَبل يوم، لأنّني لَم أكن أُصدِّقها. رأيتُها تبكي مرارًا وابنتنا تواسيها وتنظرُ إليّ بامتعاض، الأمر الذي كان يؤنِّب ضميري ويزيدُ مِن حيرتي وشعوري بالعجز. وفي كلّ مرّة كنتُ أطلبُ مِن دارين السماح، وأعِدُها بعدَم مُناقشتها في مرّة ثانية، بل تصديقها على الفور. وعَدتُ ابنتي أيضًا أنّني سأفعلُ جهدي لِعدَم خَلق أجواء مُشنَّجة في البيت، بل الصبر إلى حين تتحسّن مُصيبتي.
لكن في داخلي شعرتُ بوِحدة قاتلة، فتصوّروا أنّني كنتُ أعيشُ فقط في الحاضِر الآني، وكأنّني بلا ماضٍ أو مُستقبل.
أصابَني الملَل أثناء مكوثي لوحدي في البيت، لكنّ ذلك الوقت الذي وجدتُه طويلًا أفادَني بأمر مُهمّ للغاية: البحث عبر الانترنت عن سبُل للتأقلم مع حالتي التي يتقاسمُها عدَد لا بأس به مِن الناس حول العالَم. ومِن تجاربهم إستطعتُ التعايش مع ذلك النسيان المُستمرِّ بتدوين كلّ شيء يحصل لي مع التوقيت الدقيق على دفتر صغير. فكلّما أرَدتُ تذكّر أمر ما، ما كان عليّ سوى الرجوع إلى ذلك الدفتر. لَم أطلِع زوجتي أو ابنتي على أمر الدفتر، لأنّني لَم أكن أعلَم مدى نجاح تلك الطريقة. إضافة إلى ذلك، كنتُ أودّ أن أفتخِر أمامهما باسترجاع ولو قسم مِن ذاكرتي لو اتّضَحَ أنّ التدوين هو الحلّ.
وهكذا بدأتُ أكتبُ على دفتري السرّيّ الذي كنتُ أخبّئه تحت الفراش كلّ ما يحدثُ بالدقيقة تقريبًا، وأعودُ إليه عند الحاجة. لكنّ شيئًا أدهشَني بطريقة صاعِقة: ما كان مُدوَّنًا على الدفتر مِن قِبَلي لَم يكن مُطابِقًا لِما كانت دارين تقولُ إنّه حصَل. سأُعطيكم بعض الأمثلة: أوّلًا، كلّ ما كانت تدّعي أنّني قلتُه أو فعلتُه كان مُغالِطًا، وثانيًا كان هناك تفاوت في توقيت مواعيد خروجها مِن البيت والعودة إليه ومدّة مكوثها فيه.
إنشغَلَ بالي كثيرًا، فهل أنّ عمليّة التدوين كانت غير نافِعة؟ لِذا سألتُ ابنتي عن بعض التفاصيل التي وجدتُها مُريبة، وهي أكّدَت عددًا منها ونفَت أخرى. لكن كيف لهذه التفاصيل أن تكون مُتفاوِتة في حقيقتها؟ فإن كانت مسألة التدوين فاشِلة، لكانت كلّ المعلومات المدوّنة في الدفتر خاطئة وليس بعضها. أمرٌ عجيب بالفعل!
لِذا صِرتُ أدّعي أنّ الذاكرة تعودُ إليّ شيئًا فشيئًا، ولاحظتُ ارتباكًا واضحًا لدى زوجتي حيال الأمر. إلّا أنّني عُدتُ وقلتُ لها ولابنتنا إنّني أشعرُ بتراجع في حالتي، وإنّ النسيان عادَ إلى ذاكرتي كما بعد الحادِثة تمامًا. إرتاحَت دارين وأكّدَت لي مُجدّدًا أنّها واقِفة إلى جانبي كأيّ زوجة مُحِبّة، وأنّها لن تتركني لوحدي في مِحنتي.
لكنّ أمرًا غير اعتياديّ جرى بعد أن تأكَّدَت زوجتي مِن أنّني بالفعل لا أتذكّر سوى ما يحصلُ في الحاضر القريب. فذات يوم، رأيتُها مِن الشبّاك وهي تخرجُ مِن سيّارة غريبة يقودُها رجُل أيضًا غريب. غريب؟ ليس تمامًا للحقيقة، فانتابَني إحساس بأنّني رأيتُه قَبل ذلك، لكن أين ومتى؟ ركضتُ أُدوِّن طراز السيّارة وقسمًا مِن لوحتها، وأوصاف الرجُل بشكل دقيق قَبل أن أنسى كلّ شيء. مرَّت بضع أيّام حتّى سمِعتُ زوجتي تتكلّم عبر الهاتف مع شخص اسمه تامِر وتمزَح وتضحك معه. دوَّنتُ بسرعة تلك الحادثة أيضًا على دفتري. كتَمتُ أمر ذلك المدعو تامِر على الاطلاق، لأنّني شعرتُ أنّ ما يحصل خطير، وقد يكون قد حصَلَ سابقًا ولَم أتذكّره، وقَبل أن أكتشفتُ طريقة التذكّر عبر التدوين.
العجيب في الأمر هو أنّ زوجتي بقيَت تتصرّفُ معي بطريقة طبيعيّة، أيّ وكأنّها لا تفعلُ شيئًا مُريبًا، وكأنّها لا تزال تُحبُّني كما في السابق. لِذا قرّرتُ ألّا أتّهمُها بشيء إلى حين أتأكّد مِن شكوكي، فقد يكون ذلك التامِر مُجرّد زميل عمَل.
إبنتي هي الأخرى لَم تكن تتصرّف بشكلّ طبيعيّ، إذ أنّها كانت تخرجُ مِن البيت مُبرَّجة ومُرتدية ملابس لَم أكن لأوافِق عليها عادةً. إلّا أنّها كانت تنفي الموضوع إن واجهتها لاحقًا، فأدّعي تصديقها لأرى إلى أيّ مدى ستصِل تلك الحركات المرفوضة منّي. وفهمِتُ أنّ زوجتي وابنتي كانتا تستغِلّان أمر فقداني لذاكرتي لتفعلا ما يحلو لهما.
لكنّ الأمر الأخطَر وقَعَ بعد فترة، حين عادَت دارين إلى البيت برفقة تامِر! أجل، هي جلبَته إلى المنزل الزوجيّ، وقدّمَته لي على أنّه أحَد أقاربي. وأمام اندهاشي، قالَت لي: "إنّه ابن عمّكَ المُقيم في الخارج، ألّا تتذكّره؟". للحقيقة لَم أكن أتذكَّر إن كان لي قريب في الخارج أم لا، لكنّني أسرَعتُ بتدوين الموضوع في الدفتر، وكلّ التفاصيل المُتعلِّقة بإسم وشكل تامِر الخارجيّ وشخصيّته وما قيلَ بيننا في ذلك الوقت. وبعد مُقارنة تدويناتي، إتّضَحَ أنّ مواصفات زائرنا هي مُطابِقة لمواصفات الرجُل الذي أوصَلَ دارين إلى البيت وكذلك اسمه! وبعد أيّام قليلة، عادَ تامِر لزيارتنا مُجدّدًا، لكن في تلك المرّة قالَت لي دارين إنّه صديق أخي المتوفّي الذي جاءَ ليسأل عنّي. دوّنتُ المعلومة، فوجدتُ طبعًا أنّ اسم تامِر يعودُ في كلّ مرّة لكن بشخصيّة مُختلِفة. لَم أقُل شيئًا على الاطلاق، بل انتظرتُ موعدي لدى الطبيب المُختصّ لأرى أين أصبحَت حالتي... ولأُطلِعه على ما يدورُ وأريه الدفتر، لأنّه كان بالفعل الانسان الوحيد الذي بإمكاني الوثوق به. طلبتُ مِن دارين إنتظاري خارج غرفة الكشف، بحجّة أنّني أريدُ التكلّم مع الطبيب بمسائل تتعلّق بالرجال، وأعطَيتُه الدفتر ليقرأ منه.
عندما انتهى الرجُل مِن القراءة قالَ لي:
ـ سيّدي... أظنّ أنّكَ واقِع في مُشكلة كبيرة.
ـ هذا رأيي تمامًا. لكن دَعني أُدوِّن حديثنا مِن فضلكَ، وكلّ ما يتعلََّق بما حصَلَ منذ خروجي مِن البيت وصولًا إلى هنا.
ـ إنّها طريقة مُمتازة بالفعل! إسمَع، سأُصوِّر الدفتر بواسطة هاتفي، فقد يضيعُ أو يجِده أحَدًا ويُخفيه، فتفقدُ كلّ صِلة بما يحتوي مِن معلومات.
ـ شكرًا دكتور... قُل لي... هل تظنّ انّ زوجتي تتلاعَب بي؟
ـ للحقيقة، إذا إستنَدتُ على ما قرأتُه... أجل... وكذلك ابنتُكَ، لكن لا أدري إن كانت هذه الأخيرة مُتواطئة مع أمّها أو تستفيد فقط مِن حالتكَ. أرجو منكَ أن تتوخّى الحذَر جيّداً.
ـ ماذا تقصد؟
ـ لن أقولَ أكثر مِن ذلك في الوقت الحاضِر.
يتبَع...