كان الخلاف قائمًا بين عائلتَينا منذ اصطدَام جارنا فايز بسيّارتنا في المرآب ورفَضَ أن يُسدِّد لنا ثمَن تصليحها، مع أنّنا تساهَلنا معه بالنسبة للمبلغ وطريقة الدفع. إلا أنّ جوابه كان دائمًا نفسه: "لولا وجود سيارتكم لمَا اصطدَمتُ بها"، وهو جواب سخيف لأنّنا كنّا قد ركَنّا المركبة في مكانها المُحدَّد.
أسِفتُ لِما آلَت إليه علاقتنا بجيراننا، إذ كنّا بالفعل أصدقاء مُقرّبين، وكانت سُعاد زوجته بمثابة أختي، وأولادهم يلعبون مع أولادنا مذ جاؤوا إلى الدنيا. كنّا عائلة واحدة وسرعان ما صِرنا أعداء. حاولتُ طبعًا تسوية الأمر مع سُعاد، لكنّها وقفَت مع زوجها في ما أسمَيتُه أسخَف منطق على الإطلاق، وقاطعَتني ومنعَت أولادها مِن التعاطي مع أولادنا. أرادَ زوجي أن يشتكي على هؤلاء الجيران البغيضين، إلا أنّني منَعتُه مِن ذلك كَي لا تكبر المسألة، فبقيتُ آملُ بأنّهم سيقومون بما عليهم بعد أن تهدأ النفوس.
لكنّ النفوس لَم تهدأ، بل العكس، إذ أنّ أحَد أولاد فايز وسُعاد بدأَ حملة ضدّ ابني الأصغَر في المدرسة، وباتَ التلاميذ يسخرون منه لدرجة أنّه لَم يعُد يُريدُ الذهاب إلى مدرسته. أخذتُ ابني بِيَده ورحتُ أشتكي للإدارة وهم عاقبوا إبن جيراننا ورفاقه، الأمر الذي أشعَلَ نارًا مُدمِّرة.
فذات ليلة سمعنا طرقًا قويًّا على بابنا وعندما نظرتُ مِن الثقب، رأيتُ فايز وبِيَده قطعة حديد مُستطيلة وهو يصرخُ بأعلى صوته: "إمّا أحطِّمُ رأسكَ أو سيّارتكَ، أنتَ اختَر!". إنتابَني خوف شديد، وشكرتُ ربّي أنّ زوجي موجود عند أهله وإلا لحصَلَ أمرٌ فظيع! وبعد أن استوَعَبَ جارُنا أنّ "عدوّه" وسيّارته ليسا موجودَين، هدأ قليلًا، كفاية ليعودَ إلى مسكنه ويدَعني وأولادي بسلام. لكنّ أحَد صغاري أخبَر زوجي عمّا حصَلَ أثناء غيابه، ولزمَتني كلّ قوّة الدنيا لِمَنعه مِن أن يقصد فايز وتلقينه درسًا شديدًا. يا إلهي، لماذا تحصل هذه الأمور لنا، ومِن أجل ماذا؟ صدمة سيّارة في المرآب؟!؟ كيف تنقلِبُ الناس هكذا فجأة؟ أم أنّ تلك الصداقة كانت ستارًا لحقيقة لَم نرَها؟
بعد ذلك، فعلتُ جهدي لأحمي عائلتي مِن غضَب جيراننا، إلا أنّ حياتنا لَم تعُد كما كانت، فكلّنا توقّعنا أنّ المُصيبة ستقَع عاجلًا أم آجلًا. لكن طبيعة هذه المُصيبة بقيَت مجهولة لوقت، قَبل أن تبدأ الأمور تتوضَّح لي شيئًا فشيئًا.
فذات مساء، قال لي زوجي بعد أن خلَدَ أولادُنا إلى النوم:
ـ أتعلمين؟ لقد قرّرتُ ألا أُطالِب فايز بمسألة السيّارة بعد اليوم.
ـ لقد أرَحتَني يا حبيبي! فالموضوع أخَذَ حجمًا كبيرًا للغاية. لكن لماذا هذا القرار الآن؟
ـ فكّرتُ بالموضوع جيّدًا، واستنتَجتُ أنّ جارنا صدَمَ سيارتنا رغمًا عنه وليس عن قصد، ما قد يحدث لأيّ كان. وردّة فعله جاءَت نتيجة موقفي العدائيّ.
ـ كَم أنا فخورة بكَ! فلقد اشتقتُ لسُعاد وأولادها وإلى حالتنا السابقة.
ـ لا! لن نعود أصدقاء معهم! فيكفي أنّني سأتغاضى عن الموضوع، فكرامَتي لن تسمحَ لي بالتراجع. إبقي بعيدة عن هؤلاء.
ـ كما تشاء.
أسِفتُ لموقف زوجي لكنّني تفهّمتُه، وبقيتُ آملُ ضمنيًّا أنّ صداقتي وسُعاد ستعودُ كما في السابق. لكنّ جارتي لَم تكن مُستعِدّة لإعادة اللُحمة بيننا، بل العكس إذ بقيَت تحشو رأس أولادها ضدّ أولادي إلى حدّ بلَغَ ذروته حين هم تضارَبوا بالأيادي في ردهة المبنى. ركضتُ لدى سماع الصراخ الذي وصَلَ إلى الطوابق العليا، وفعلتُ جهدي للفصل بينهم إلى حين وصلَت جارتي هي الأخرى فنظرَت إليّ بغضَب شديد وقالَت لي صارخةً:
ـ يا لكِ مِن امرأة فاشِلة... لا تستطيعين لَجم أولادكِ أو زوجكِ!
ـ ماذا تعنين يا سُعاد؟
ـ أعني ما عنَيتُه! على كلّ الأحوال، لستُ مُتفاجئة، فانظري إلى نفسكِ! رتّبي نفسكِ قليلًا!
ـ وما دخل ترتيبي بالمشكل الذي حدَثَ بين أولادنا؟!؟
ـ سأُهديكِ مرآة بمُناسبة عيدة ميلادكِ! أنتِ مُقزِّزة للنفس حقًّا!
ـ سُعاد!!! كنّا أعَزّ صديقتَين في ما مضى!
ـ لَم أكن يومًا صديقتكِ، بل جارتكِ، وكان مُناسبًا لي أن أُرسِلَ لكِ أولادي لأرتاح منهم.
ـ أنا لا أُصدّقُكِ! بل أُصدّقُ أنّكِ كنتِ في يوم مِن الأيّام بمثابة أخت لي.
ـ كَم أنّكِ ساذِجة... سأُرسِلُ لكِ أيضًا إلى جانب المرآة كمّيّة مِن الذكاء والنباهة!
لَم أُصدِّق أذنَيّ، فذلك الحديث كان مؤذيًا لأقصى درجة، إذ أنّ سعاد أهانَتني كأمّ وزوجة وإنسانة، وأطاحَت بالذي كان بيننا لفترة طويلة. أخبَرتُ زوجي بما حدَث، وهو أمرَني بعدَم التعاطي معها مهما كلَّفَ الأمر وإلا اتّخذَ موقفًا صارِمًا منّي، وأضافَ أنّه لا يُريدُني أن أزعَل وأغضَب لأنّه يُحبُّني لأقضى درجة. تعانَقنا ونسيتُ سُعاد بلحظة.
مرَّت الأسابيع ثمّ الشهر، وتفاجأتُ بزوجي يقولُ لي إنّه يُفكِّر بِنَقل مكان سكننا إلى منطقة أخرى بسبب طول المسافة بين بيتنا وعمَله. أجَبتُه بأنّ ذلك يعني تغيير مدارس أولادنا، الأمر الذي كان سيُحدِثُ لهم صدمة لَم أكن أُريدُها. لكنّه لَم يقتنِع وأراني صوَرًا عن شقّة جميلة وجدَها لنا، وعاتَبتُه لأنّه تصرّفَ مِن تلقاء نفسه مِن دون أن يستشيرَني. عندها غضِبَ منّي وبدأ يصرخُ عليّ، وركَضَ الأولاد مِن غرفهم وبدأ صغيرنا بالبكاء. نظرتُ إلى شريك حياتي باندهاش، وهو خجِلَ مِن نفسه واعتذَرَ منّي علَنًا. ثمّ خلَدنا إلى النوم، وهو أعادَ اعتذاره وطلَبَ منّي أن أقبَل بالعَيش في تلك الشقّة الجميلة، مُضيفًا أنّ الانتقال سيكون مُفيدًا لنا جميعًا. سألتُه إن كان قراره مُرتبطًا بما جرى مع جيراننا، وهو لَم يُجِب فاستغربتُ لأنّني رأيتُه قَبل أيّام يتبادَل الكلام بودّ مع فايز بعد أن سامَحه على صَدم سيّارته، وخلتُ أنّ الأمور بين الرجُلَين اصطلحَت. أمّا بالنسبة لِما حصَلَ بيني وبين سُعاد في ردّهة المبنى، فلَم أظنّ أبدًا أنّه كان السبب في تغيير مسكننا، فحبّ زوجي لي وغيرته على راحتي لَم يكونا كافيَين لأخذ هكذا قرار.
إنشغَلَ بالي كثيرًا لكنّني لَم أُظهِر أيّ شيء لزوجي، وبعد ذلك اليوم، تغيّرَ زوجي بشكل جذريّ، إذ أنّه صارَ صامِتًا ومهمومًا طوال الوقت وباتَ وكأنّه إنسان آخَر. الأولاد لاحظوا أيضًا هذا التغيير، فسألوني مِمّا يشكو والدهم فأخبرتُهم أنّه يتعَب مِن القيادة ذهابًا وإيابًا إلى عمَله، وأنّنا قد نعيشُ في بيت آخَر لهذا السبب. قلتُ لهم ذلك مِن دون تفكير، وكان مِن الواضح أنّني وافقتُ على الرحيل لأستعيدَ زوجي وعائلتي وسعادتنا.
بدأتُ أُحضّر للانتقال فجلَبتُ علب الكرتون وطلبتُ مِن عائلتي وأصدقائنا المُساعدة، وأقنَعتُ نفسي أنّني سأكون سعيدة حيث نحن ذاهبون وأنّنا سنتخطّى مُشكلة تغيير المدارس ومُحيطنا.
وفي إحدى الأمسيات، وأنا أُنزِل إحدى الكراتين إلى الغرفة المُخصّصة للتخزين في الطابق السفليّ للمبنى، رأيتُ زوجي وسُعاد يتشاجران بقوّة. وإذ بِجارتنا تصفَع زوجي بقوّة صارِخةً: "أيّها الندَل! تُريدُ الهروب منّي! سأُريكَ! سأُخبرُ زوجتكَ عنّا!". شعرتُ بدوار شديد وكِدتُ أقَع أرضًا، إلّا أنّني وجدتُ القوّة لأصرخ فيها: "لا داعٍ لذلك، يا سُعاد". ثمّ نظرتُ إلى زوجي الذي اصفرَّ وجهه وقلتُ له بحزم: "هيّا بنا إلى البيت. هيّا!".
صعِدنا في المصعد بصمت، وتفادى زوجي النظَر إليّ، ثمّ دخَلنا الشقّة وغرفة نومنا. جلَستُ على السرير وأنا أرتجِف، وركَعَ زوجي أمامي واضعًا رأسه في حضني وبدأ يبكي. مرَّت دقائق طويلة على هذا النحو ثمّ قلتُ له:
ـ تكلّم... تكلّم قَبل أن أتّخِذَ قراري.
ـ حسنًا... لقد أقَمتُ علاقة مع سُعاد... هي أغوَتني و...
ـ مهلًا! لا تُلقِ اللوم عليها فكان بإمكانكَ مُقاومتها!
ـ أنتِ على حقّ... قصدتُ أنّها لاحقَتني بإصرار... إلى أن ضعفتُ.
ـ منذ متّى؟ منذ متى تخونُني يا زوجي الشريف؟!؟
ـ منذ حوالي السنة.
ـ ماذا؟!؟
ـ سامحيني! للحقيقة أردتُ إنهاء الموضوع بعد شهرَين مِن بدء العلاقة، إلّا أنّها كانت تبتكِر الطرق الجديدة لإغوائي... ثمّ بدأَت تُهدّدُني بفضحي لدَيكِ... إلى حين اشمأزَّيتُ مِن نفسي وأنهَيتُ ما كان بيننا. دارَ شجارٌ عنيف بيننا إلّا أنّني لَم أتراجَع لأنّني أحبُّكِ.
ـ مِن الواضح أنّكَ تُحبُّني!
ـ صدّقيني! ثمّ حصلَت حادثة صَدم السيّارة، وخِلتُ أنّ فايز هو الفاعِل، إلّا أنّ اتّضَحَ أنّ سُعاد أرادَت مُعاقبَتي على تركها، لِذا تراجعتُ عن المُطالبة بحقّي، كَي لا تفضَحني.
ـ وأرَدتَ أن ننتقِل إلى مسكن آخَر.
ـ هذا بعد أن وعدَتني بتدميري ومُمتلكاتي وعائلتي بأسرها. المرأة مجنونة!
ـ مجنونة لأنّك أقَمتَ علاقة معها وتركتَها! قُل لي... بماذا وعدتَها خلال فترة خيانتكَ؟ إعترِف، فغضبها العارِم سببه خذلان قويّ.
ـ أظنّ... لستُ واثِقًا... قد أكون... ربّما قلتُ لها إنّني سأتركُكِ مِن أجلها، لكنّني لَم أعنِ طبعًا ما قلتُه.
حصَلَ زوجي على صفعة الثانية لكن هذه المرّة منّي! وطلبتُ منه تَرك البيت والذهاب إلى أهله... أو لسُعاد إن هو أرادَ ذلك. بكيتُ كثيرًا لتلك الخيانة المُزدوجة: خيانة زوجي أب أولادي، وأعزّ صديقة لي. وخطَرَ ببالي أن أتّصِل بفايز لأُطلِعه عن مُمارسات زوجته وزوجي، لكنّني تراجعتُ عن ذلك خوفًا مِن أن تقَع مُصيبة أندَم عليها لاحقًا. في الأيّام التي تلَت، أكمَلتُ نقل أغراض البيت... لكن إلى شقّة أهلي، فكيف أبقى بجوار التي عمَدَت على سرِقة زوجي منّي؟ أمّا بالنسبة لهذا الأخير، فقد طلَبتُ منه عدَم التعاطي معي وأولادي إلى حين آخذُ قراري، وقلتُ لصغاري أنّ أباهم مُسافِر في بلَد لا إنترنِت فيه.
ثمّ حدَثَ أمر غيّرَ المقاييس: خابَرَني فايز ليقولَ لي إنّه طرَدَ زوجته مِن البيت، بعد أن سمعَها تتكلّم مع زوجي عبر الهاتف وتُهدِّده وتصرخ عليه. أضافَ أنّه عانى مِن خيانة زوجته له سابقًا، لكنّه سامحَها وليس مُستعِدًّا لِتحمّلها بعد ذلك. وأنهى الحديث قائلًا: "إسمعي... لستُ أُدافِع عن زوجكِ لأنّني رجُل، لكنّه لَم يكن قادِرًا على صدّ سُعاد، فأنا أعرفُ أساليبها... وفهِمتُ مِن حديثها معه أنّه تركَها ولَم يعُد يُريدُها، ما يعني أنّه نادِم. لكنّ سُعاد لَم تكن نادِمة حتّى في أوّل مرّة خانَتني، بل أنا اكتشفتُ أنّها على علاقة مع أحَد، ما يعني أنّها حقًّا فاسِدة. أعطِه فرصة ثانية، ثقي بي". كلام الرّجُل أثَّرَ بي كثيرًا، فكان بإمكانه تحريضي على زوجي للانتقام منه. لِذا إتّصلَتُ بزوجي بعد فترة، وأعطَيتُه فرصة ثانية وانتقَلنا إلى مسكننا الجديد.
عانَيتُ لأكثر مِن سنة مِن أزمة ثقة وقلَق، إلّا أنّ زوجي لَم يُعطِني أيّ سبب لأشكّ به حقًّا، لكن هل سأكون قادِرة على نسيان الموضوع يومًا؟ أنا بحاجة إلى نصائحكم!
حاورتها بولا جهشان