كنّا خمس بنات وكنّا صديقات منذ الطفولة ولا شيء أو لا أحد إستطاع يوماً التفريق بيننا. كبرنا سويّاً وبالرغم أنّنا إخترنا إختصاصات مختلفة في الجامعة بقينا على علاقة وطيدة. وعندما كبرنا أكثر عملنا تحالفاً أسميناه: "حلف العازبات" وقطعنا وعداً أنّنا لن نتزوّج أبداً أولاً لنبقى سويّاً وثانياً لأنّ صنف الرجال ماكر ولا يستاهل أن نتخلّى عن بعضنا من أجل أيّ منهم.
ومرّت الأيّام هكذا نسرح ونمرح وكأننا ما زلنا فتيات صغيرات لا نأبه سوى لشيء واحد: الحفاظ على هذا الرابط المقدّس. ولكن الحياة تخبئ لنا ما لا نعلمه وصادفتُ في المستشفى الذي كنتُ أعمل به كممرّضة طبيباً جديداً وكان وسيماً وناجحاً وولِدَت بيننا موّدة قويّة تحوّلت مع الوقت إلى حبّ وغرام. ورغم كل الأفكار المسبقة عن الرجال التي كانت تملأ رأسي فكرّتُ جديّاً بقبول عرضه بالزواج بي. كنتُ أعلم أنني بهذه الطريقة سأخون وعدي لصديقاتي ولكنني أدركتُ سخافة هكذا قرار دون أخذ الواقع بعين الإعتبار. وكان حبّي لفارس أصبح أقوى من حبّي لباقي أفراد الحلف فعندما إجتمعنا أنا والصبايا ككل نهار جمعة زفّيتُ لهنّ الخبر مدركة وقع إعلان كهذا عليهنّ.
تفاجأتُ بتقبلهنّ للموضوع ربما لأن الأغلبيّة كانت تنوي سرّاً فعل نفس الشيء يوماً ما ولكن واحدة فقط أبدت إستياءً كبيراً وبدأت بتوبيخي بعنف:
- ماذا؟ هكذا تضربين بحلفنا بعرض الحائط؟ عمِلنا جهدنا كل هذه السنين للبقاء سويّاً ولمواجهة أي غريب يدخل بيننا وتأتين اليوم لتخبريننا أنّكِ نسيتي وعدكِ لنا وبأنّكِ سترضخين لرجل؟ هنيئاً لكِ!
- إسمعيني يا وفاء... أحبكِ كثيراً وأحبّكنّ جميعاً وهذا لن يتغيّر إن تزوّجتُ... صحيح أنني سأنشغل عنكنّ بعض الشيء ولكنني أعدكنّ أنني سأبقى أجتمع معكنّ كل نهار جمعة.
- وهل تنتظرين منّا أن نصدّقكِ بعد الآن؟ أنتِ مطرودة من النادي! وسيأتي يوم تندمين على تفضيل رجل علينا."
وجدتُ ردّة فعلها قاسية وباقي الصديقات حاولنَ تلطيف قرار وفاء ولكنّها أصرّت على موقفها. حزنتُ لما جرى ولكن سعادتي بالزواج من فارس كانت أقوى. وبدأنا التحضيرات متمنيّة أن تأتي صديقاتي إلى زفافي.
ولكنني لم أكن أعلم أن وفاء كانت منشغلة بإيجاد طريقة لتخريب زواجي من حبيبي. وكيف لي أن أشكّ بأنّ مؤامرة تحاك ضدّي من قبل إنسانة لم تُبدي يوماً أي بغضاً تجاهي؟
فأخذَت تسأل عن فارس بين موظفي المستشفى بواسطة صديقة لها تعمل هناك وكانت قد كلّفتها بجمع أي معلومة سيّئة عنه مهما كانت صغيرة. وبما أنّه لا يوجد إنسان بلا ماضي خاصة إن كان وسيماً وناجحاً فإستطاعت أن تكتشف أسراراً لم أكن على علم بها. وليتني لم أعلم يوماً!
وقبل أيّام قليلة من الزفاف جاءت التي كانت يوماً صديقتي إلى بيتي وقالت لي:
- لأنني أحبّكِ كثيراً عليّ إخباركِ بحقيقة الرجل الذي فضلتيه علينا جميعاً على الرغم من أنّكِ تعلمين أنّه ليس هناك من رجل صالح...
- لِمَ تكرهين الرجال إلى هذا الحدّ يا وفاء؟ هل حصل شيء معكِ أثّر فيكِ إلى درجة أنّكِ لا تقبلين أنّ الناس أجناس مختلفة؟ هل رؤيتي سعيدة تؤلمكِ وتذكّركِ أنكِ وحيدة عاطفيّاً؟
- جئتُ ومعي إثباتات وبراهين ستقنعكِ بعدم المضي بهذا الزواج. أمّا سبب كرهي للرجال فهذا شأن خاص بي.
- وزواجي ليس شأناً خاصاً بي؟
ولكنّها أكملت دون أن تأبه لما قلتُه لها:
- حبيبتي... خطيبكِ الدكتور فارس ليس رجلاً محترماً كما يعتقد الجميع فكان يزاول مهنته في مستشفى آخر ولكنّه طُرد منه لغلطة أودت بحياة مريض بسبب تعاطيه الكحول. فأجرى عمليّة جراحيّة وهو ثمل. بكلمة واحدة إنّه قاتل. وبدلاً من أن يحاكموه تركوه يذهب إلى مستشفى ثاني وكأن شيئاً لم يحصل. هذا هو الرجل الخيّر الذي ستعيشين معه.
نزل عليّ الخبر كالصاعقة. أعرف فارس منذ فترة لا بأس بها ولم أره يوماً يشرب حتى عندما نجتمع في المستشفى للإحتفال. إنّه يرفض دائماً إحتساء الكحول. فصرختُ بها:
- أنتِ كاذبة! إذهبي من هنا فوراً ولا ترجعي. حتى لو كان هذا صحيحاً فهذا ليس من شأنكِ. أنتِ لا تمتلكينني والوعد الذي قطعته معكن هو وعد سخيف لا يربطني بأحد. أنتِ إنسانة شرّيرة لديها مشاكل نفسيّة عديدة. أنصحكِ برؤية طبيب نفسيّ في الحال!
ولكن بعدما طردتُ وفاء من منزلي جلستُ أفكّر بما قالته لي والإمكانيّة أن يكون ذلك صحيحاً. ووجدتُ أنّ أنسب طريقة لمعرفة صحّة الخبر هو أن أسأل مباشرة الشخص المعني بالأمر. ففي المساء نفسه قابلتُ فارس وسألته:
- هل صحيح أن مريضاً ماتَ بسببكَ وبسبب الكحول؟
إندهش لسماع هذا ولكنّه لم يجب.
- أجبني من فضلكَ... الأمر مهم بالنسبة لي.
- إن كنتِ مصرّة... فنعم... حصل هذا من سنين... كنتُ عائداً من حفلة زفاف عندما طلبوني في الطوارىء وبسبب الكحول التي شربتها تلك الليلة لم أتّخذ القرارات المناسبة لإنقاظ المريض فمات أمام أعيني. لم أطرد من المهنة لأنني لستُ مدمن على الكحول بل أعطوني إجازة طويلة ثم نقلوني خوفاً من المشاكل. أقسم لكِ أنّه لا يمرّ يوماً دون أن أفكّر بما حصل لذلك المسكين وقطعتُ وعداً بألا تدخل فمي حتى نقطة واحدة من كحول. أعذريني إن كنتُ قد خبّأتُ هذه الحادثة عنكِ فأنا لستُ فخوراً بنفسي... لا تتركيني بسبب غلطة أحاول تصليحها كل يوم... أنا بحاجة إليكِ...
عانقته وطمأنتُه أنّني لن أتركه لأنني كنتُ واثقة أنّه فعلاً نادم وأنّ ما حصل معه لن يتكرر أبداً.
وبعد رحيل فارس أخذتُ الهاتف وطلبتُ وفاء:
- إسمعيني جيّداً... أخبرني فارس بما حصل معه ولم يتغيّر شيء بيننا. سأطلب منكِ عدم التعاطي بحياتي الخاصة بعد الآن أو سترين جانباً منّي لا تعريفينه بعد... وقبل أن أنسى...قررتُ مع باقي الصبايا تأليف حلفاً جديداً كلّه أمل وإيجابيّة وأنتِ طبعاً مستثنية منه. الوداع!
حاورتها بولا جهشان