إلتقيتُ بعامر عندما إصطحبتُ أمّي الى المستشفى لإجراء فحوصات صحيّة لها. كان جالساً في غرفة الإنتظار ينظرُ إلى الأرض بحزن عميق. هذا المشهد أثار فضولي فتوجّهتُ إليه وسألته عن سبب حزنه:
- هل أحد أقرباؤك في حالة حرجة؟
- لا ... بل أنا الذي حالته حرجة ... خرجتُ لتوّي من عيادة طبيبي وأخبرني أن لديّ بضعة أشهر فقط ...
- هل تقصد أنكَ ...
- نعم، أنا مصاب بداء السرطان و سأموت قريباً.
ورغم فظاعة ما قاله لم يبدو لي خائفاً ربما لأنّ مرضه يعود الى زمن بعيد وإعتاد على الفكرة أو لإنّه إنساناً جدّ شجاع.
لا أدري لماذا ولكن أعطيتُه رقم هاتفي وطلبتُ منه أن يتصّل بي عند الحاجة. نظرَ اليّ بدهشة ثم إبتسم لي:
- أنتِ إنسانة عظيمة وسأتشرّف بصداقتكِ.
غادرتُ المستشفى وانا أفكّر بهذا الشاب الجميل الذي لن يكون له الوقت ليحقّق أحلامه مهما كانت وكم كنتُ محظوظة لكوني بحالة صحّية جيّدة.
لم تمرّ بضعة ساعات حتى دقّ هاتفي :
- هذا أنا عامر ... أعذريني ولكن لم تبارحي تفكيري منذ ما إلتقيتُ بكِ ... ولكن ما الجدوى ...
وأقفل الخط. حاولتُ الإتصال به ولكن كان قد أطفأ هاتفه. لم أنم جيداً تلك الليلة وعند الصباح الباكر عاودتُ المحاولة فأجاب هذه المرّة. كان صوته وكأنه كان يبكي. تبادلنا بضعة كلمات وبعد أن طمأنني عن حالته إستطعتُ العودة الى النوم.
ونشأت بيننا قصّة جميلة وتعيسة في الوقت نفسه. لم أحبّ يوماً كما أحببته ولم يحبنّي أحد مثله. كنّا نعلم أن الأيّام السعيدة ستكون قليلة فحاولنا أن نستفيد منها قدر المستطاع. كنّا نتواعد يوميّاً ونقضي الوقت كلّه سويّاً حتى أنّه طلبَ منّي أن آتي لأعيش معه:
- إسمعي يا نجوى ... لو لم يكن الوضع هكذا لتزوجتكِ حالاً ولكن لن أجعل منكِ أرملة . أريدكِ لي على مدار الساعة، لا أريد أن أفوّت لحظة واحدة ... إقبلي عرضي ... أرجوكِ.
وفعلتُ ما لم أتخيّل فعله يوماً . تركتُ أهلي وذهبتُ إليه. لم أكترث لتهديدات أبي ولا لبكاء أمّي ولم تهمّني سمعتي فكانت حياة عامر أو ما تبقّى منها أهمّ من كل شيء.
بعد إنتقالي للعيش معه تحسّنت حالته ففرحتُ كثيراً حتى أنني رأيتُ بصيص أمل في الأفق. ماذا لو كان بإمكانه أن يشفى أو على الأقل أن يطول عمره ولو قليلاً؟
عرضتُ عليه أن نذهب سويّاً الى طبيبه لإجراء فحوصات جديدة. ولكنه رفض بقوّة:
- لا ! لا أريد المزيد من الفحوصات ! لقد أجريتُ الكثير منها وكانت النتيجة دائماً نفسها. دعيني أعيش واقعي ولا تقحمينني بدوّامة الآمال الكاذبة.
كان على حقّ فلا داعي لخيبة الأمل والإحباط.
عشنا سويّاً ثلاثة أشهر مليئة بالحب والفرح. وجاءت النهاية. بدأت تسوء حالة عامر بشكل ملحوظ حتى أنّه قال لي :
- أحبّكِ كثيراً ولا أريدكِ أن تتألمي معي أو حتى أن تريني أموتُ أمامكِ. أريدكِ أن تتذكري فقط عامر السعيد معك الذي أعطيتيه كل شيء وتركتِ العالم كلّه من أجله. قرّرتُ أن أذهب بعيداً لألاقي ربّي بسلام.
- ولكن ...
- لا تجادليني من فضلكِ ... ليس لديّ قوّة كافية لأصرفها على جدال لن يأتي بأيّة نتيجة. إتخذتُ قراري ولن أرجع عنه. دافعي هو حبّي لكِ وإن كنتِ تحبينني فعلاً فعليكِ أن توافقي. رضختُ للأمر الواقع وبعد يومين ودّعنا بعضنا. بكيتُ كما لم أبكِ يوماً. من بعدها أخذتُ أمتعتي ورجعتُ الى بيت أهلي الذين كانا ينتظران عودتي بفارغ الصبر فكنتُ أعلم أنهما سامحاني .دخلتُ وأنا أبكي وأتألم متمنيّة لنفسي الموت فغمرتني أمّي بقوّة. كنتُ قد فكّرتُ جدّيّاً بالإنتحار لألاقي حبيبي ولولا دعم أهلي لي أظنّ أنني كنتُ قد قتلتُ نفسي.
مرّت الأيام ثم الأشهر ثم السنة. قررتُ أن أذهبَ حيث ودّعتُ حبّ حياتي في نفس اليوم قبل سنة. فقصدتُ شقّة عامر حاملةً بيدي وردة حمراء لأضعها على بابه تخليداً لذكراه. ولكن في نفس اللحظة فتحَت إمرأة شابة الباب فقلتُ لها معتذرةً:
- أنا آسفة جداً ... كنتُ فقط أريد أن أحيي ذكر شخص كان يعيش هنا من قبلكم.
- لا تقلقي ولا داعي للإعتذار.
ثم نظرَت الى خلفها وصرَخَت :
- تعالى حبيبي وأنظر كم أنّ الحبّ جميلاً.
ورأيتُه. رأيتُ عامر واقفاً أمامي وبأحسن حالاته. في البدء لم أصدّق عينيّ وخلتُ أنني أهلوس بسبب حزني العميق ولكنه كان جدّ حقيقيّاً. وطبعاً لم يتوقّع أن يراني أمام بابه فأصيب بالإرباك وإرتبط لسانه. أمّا أنا فإستغنمتُ الفرصة لأقول للفتاة التي في رفقته:
- لا أدري من أنتِ ولكن أستنتج أّنّ بينكما علاقة حميمة. ولو كنتُ مكانكِ لرحلتُ بعيداً عن هذا الغشّاش. للحقيقة كنتُ فعلاً مكانكِ منذ سنة عندما أقنعني السافل بأنه يُحتضر فتركتُ أهلي لأكون معه في آخر أيّامه. لمدّة ثلاثة أشهر أعطيتُه كل شيء وكنتُ حتى مستعدّة لأن أموتَ من بعده.
نظرت الفتاة إليه بغضب وقالت له:
- قل شيئاً! دافع عن نفسكَ! قل لي أنّها تكذب... موعد زفافنا بعد شهر... أيّها السافل... هذا ما كنتَ تفعله عندما كنتُ أنهي الدكتوراه في فرنسا؟ كنّا مخطوبين وكنتَ تّدعي الشوق وتعاني من الفراق!
أجابها أخيراً بصوت خافت:
- حبيبتي... إنها قصّة عابرة... تعلمين كيف هم الرجال... لم تعنِ لي شيء كنتُ فقط أملىء فراغاً. كنتُ في المستشفى أنتظر صديقي الطبيب وجاءت نحوي ظانّة أنني حزين. بَدَت لي ساذجة فإستغنمتُ الفرصة.
عندها صرَخَت به:
- أصمت يا عديم الأخلاق! الرجال الحقيقيّون ليسوا كذلك بل يحترمون المرأة ويحمونها من أناس مثلك! هل تتصوّر أنني سأبقى دقيقة واحدة مع إنسان يلعب بعواطف الناس ويدمّر حياتهم فقط ليمررَ الوقت؟ لو لم تأتِ هذه الفتاة اليوم كنتُ تزوّجتكَ بعد شهر وكانت هي أمضت حياتها تبكي على وهم.
فرِحتُ جدّاً لموقفها هذا وقررتُ الرحيل عندما قالت لي:
- مهلاً! أين تظنّين نفسكِ ذاهبة؟ خذيني معكِ ولِنذهب نحتسي القهوة سويّاً فلدينا الكثير نتكلّم عنه.
ضحكنا سويّاً وتركناه واقفاً لوحده يحاول إستيعاب ما الذي كان قد جرى.
حاورتها بولا جهشان