بالرغم أنّني رأيتُ زوجي أحمد يقبّل تلك المرأة، لكنني لم أقل شيئاً. نظرتُ إليهما بحزن وأكملتُ طريقي. لماذا هذا الصمت؟ لأنّني كنتُ أعلم أنني قد أخسره إذا واجهته ولم أكن مستعدّة لذلك. كان أحمد وسيماً وذكيّاً وسألتُ نفسي مراراً كيف تزوّجَ منّي، فأنا لا أتمتّع لا بالجمال ولا بشيء آخر. وكنتُ أعلم تمام العلم، أنني لن أجدَ مثل أحمد، لذا فضّلتُ التغاضي عن أمور كثيرة. من ناحيته، لم يمنع زوجي نفسه من كل ما رغبَ به، أعني بذلك السيّارة الفخمة والسفرات لوحده ومغازلة ومعاشرة النساء، بينما كنتُ أبقى في البيت أهتمّ بولدنا الذي أصبحَ الفرحة الوحيدة في حياتي.
كان لدي القليل من الأصدقاء، ربما لأنّ شخصيّتي المملّة لم تكن تجذب الناس ولكن صديقة واحدة فقط، هي التي قررت البقاء بجانبي دوماً.
حين أخبرتُ سهام أنني رأيتُ زوجي يقبّل إمرأة في سيّارته سألَتني فوراً:
- وماذا فعلتِ؟
- لا شيء...
- كم أنتِ غبيّة... إلى متى ستسمحين له بمعاملتكِ هكذا؟
- إنّه يعاملني جيّداً... يأتي بالمال إلى البيت ويكلّمني بلطف.
- أهذه برأيكِ معاملة حسنة؟ والباقي؟ أين ذهبتِ بالإخلاص والصدق والمشاركة؟ الزواج لا يكون هكذا يا عزيزتي... عليكِ وضع حدّ نهائيّ لما يحصل.
- سيتركني... وماذا سأفعل من دونه، فهو أذكى منّي ويعرف كيف يدير الأمور... لا أستطيع فعل شيء دون إستشارته.
- هذا لأنّه أقنعكِ بذلك...لديّ سؤال: قبلَ أن تتعرّفي إليه الَم تكوني تقومين بكل شيء لوحدكِ؟
- بلى.
- أكنتِ تعتبرين نفسكِ قبيحة وغبيّة؟
- لا.
- أرأيتِ؟ لا يمكن للمرء أن يصبحَ ساذجاً ويفقد جماله وجاذبيته هكذا بين ليلة وضحاها ومن دون سبب. عليكِ أن تواجهيه أو... أو ستبقين هكذا طيلة حياتكِ، تلعبين دور الخادمة والمربيّة لرجل قرّر أن يعيش حياة العزوبيّة وهو متزوّج.
كنتُ أعلم أنّ صديقتي على حق ولكن أحمد كان قد مسحَ شخصيّتي كليّاً وجرّدني من إرادتي وكرامتي. ولكنّني لم أحتاج إلى التكلّم معه أو تهديده لأنّه قرّرَ بعد فترة قصيرة أن يتركني وقال لي بكل تجرّد:
- أنا لستُ سعيداً معكِ، فأنتِ إنسانة عاديّة جداً وأنا بحاجة إلى إمرأة مميّزة... أنتِ تجزبينني إلى الأسفل رغم محاولاتي العديدة لرفعكِ إلى مستواي... سأرحل... سأترك لكِ إبننا لا لأنّكِ أمّ جيّدة، فأنتِ لا تجدين فعل أي شيء، بل لأنني سأسافر إلى أماكن عديدة ولا أستطيع إصطحاب ولد معي. سأبعث لكِ بالمال.
وذهبَ. ولم أقل له شيء كالعادة. في الواقع ذهلتُ لما حدثَ، فلم أتوقّع حصول هذا أبداً. ظننتُ أنني إذا بقيتُ مطيعة وأقبل كل نزواته سيبقى إلى جانبي. بكيتُ كثيراً طيلة ايّام وأسابيع وحاولتُ قدر المستطاع تغطية غيابه عند إبننا الذي كان يسأل عنه كل يوم. في البدء أرسلَ لنا أحمد بعض المال، ثم شحَّ المصروف شيئاً فشيء لينقطع كليّاً بعد ستة أشهر ووجدتُ نفسي أمام الأمر الواقع: كان عليّ إيجاد المال لدفع أقساط مدرسة إبني وإيجار البيت والطعام. وأصبتُ بإنهيار عصبي بعدما رفضَ أهلي مساعدتي متحجّجين بفواتيرهم العديدة. الوحيدة التي وقفت معي، كانت صديقتي العزيزة سهام، فأمدّتني بما تستطيع ولكنّه لم يكن كافياً. وفي يوم من الأيّام عندما كانَت تزورني قالَت لي:
- أتذكرين عندما كنّا مراهقات، كنتِ تبرعين في صنع الحلوى وكان الجميع يأتي لتذوّقها ولطلب المزيد؟ لما لا تصنعين منها وتبيعينها في محلات الحلوى والسوبرماركت؟
- كان هذا منذ زمن بعيد! ولا أعرف إن كنتُ قادرة على البيع فأنا لا أجيد فعل شيء...
- هذا ما أقنعكِ به هذا السافل... دوّني لي ما تحتاجين إليه وسأذهب لشراءها. أعرفُ محل حلوى أستطيع أن أقنعه بأخذها. ليس هناك من ضرر... إن لم تُباع سنأكلها نحن!
وفعلتُ كما طلبَته منّي وحضّرتُ كميّة صغيرة أخذناها إلى المحل وإنتظرنا. بعد أيّام قليلة إتّصلَت بي سهام وصرخَت بالهاتف:
- هيّا! إلى فرنِكِ! لديكِ طلبيّة جديدة!
وبدأتُ أخبز كميّات كبيرة من الحلوى لكثرة الطلبات. ومِن بعدها وضعناها في أماكن أخرى ونالَت نفس الإعجاب. لا أستطيع شرح شعوري حينها، فأحسستُ أنني إستعدتُ نفسي، بعد أن أمضيتُ سنيناً طويلة في ظلّ رجل عمِلَ جهده لكسري وتحطيمي لكيّ يشعر برجولته. وبعد سنتين على بيع منتجاتي، عرضَت عليّ صديقتي أن نفتح سويّاً محلاًّ يكون لنا وحدنا. وعندما أجبتُها أنّ المال الذي أجنيه يكفي لمصروفي أنا وإبني ولكنّه ليس كافياً لفتح وتجهيز محلّ قالَت لي:
- سآخذ قرضاً من المصرف لا تخافي... أنتِ عليكِ فقط التفكير بإسم للمحل والعمل على أصناف جديدة لكي ننال إعجاب جميع الزبائن.
وبعد أقل من ستة أشهر أقمنا حفلة الإفتتاح وتهافتَ الناس ولقينا أصداء إيجابيّة جداً. تركَت سهام عملها لتبقى في المحل عندما أكون مع إبني لأدرّسه وأهتم به. وجئنا بطاهي لإضافة الأصناف المالحة على القائمة ولخدمة وتلبيَة طلبات الأعراس. وهنا حصلَ ما لم أتوقّعه. في ذات يوم دخلَ أحمد المحل وبعد أن هنّأ صديقتي على سمعتنا الجيّدة طلبَ أن يرى عروضنا للأعراس فكان ينوي الزواج مجدّداً. ودخلتُ الصالة وحين رأيتُه تلبّكتُ كثيراً لدرجة أنني لم أعد أستطيع التكلّم. صرخَ أحمد:
- ماذا تفعلين هنا؟ أتعمَلين في هذا المحل؟
- بل أملكه...
- أنتِ؟ لا أصدّق هذا! إنّها مزحة! أعرفكِ جيّداً... أنتِ لا تستطعين إمتلاك شيء!
- أنتَ مخطئ... أوّلاً لأنّكَ لا تعرفني جيّداً، رغم أنّك كنتَ زوجي وتعيش معي في نفس البيت... وثانياً لأنني أستطيع فعل أشياء كثيرة وهذا خير برهان على ذلك. تريدني أن أهتمّ بزفافك؟ سأفعل ذلك بكل سرور، فأنتَ أوّلاً وآخراً زبوناً كالآخرين. ولا تظن أنني مستاءة لأنّكَ رحلتَ أو لأنّك ستتزوّج، بل أنا ممنونة لكَ لأنّك أتَحتَ لي الفرصة لأن أكون من أنا وليس من تريدني أن أكون.
حاورتها بولا جهشان