حتى بعد موته، ظلّ أسعد يأتي لزيارتي!

لم أتزوّج بديع عن حبّ. أظنّ أنّ هذه حالة الكثير من الفتيات ومن المؤسف جداً أن نعيش سنين عديدة مع شخص لن ينال حبّنا مهما فعل!
كنتُ مغرمة بشخص آخر، إسمه أسعد، وكان يبادلني هذا الحبّ وكنّا سنعيش سعيديَن إلى الأبد بعد أن نتزوّج. ولكنّه لقي حتفه في حادث سيّارة مريع وبموته أخذ معه فرحي وإبتسامتي. إحتجت وقتاً طويلاً لتخطّي هذه الفاجعة وتقبّل الواقع الأليم وتعوّدتُ على فكرة أنني لن أراه ولن أسمع صوته مجدّداً. والذي ساعدني على إستعادة نفسي، كان الدعم الذي لاقيتُه من قبل أهلي وأصدقائي وخاصة من بديع جارنا، فهو لم يتركني لحظة واحدة وعمل جهده ليجلب لي فضاوة البال.
ومع مرور الأيّام بدأتُ أعتاد على وجوده ورفقته وأصبح جزءاً من حياتي.
ولكنني لم أغرم به، بل كنتُ أكنّ له عاطفة خاصة. فعندما طلبَ يدي كان من البديهي أن أوافق. وهكذا تزوّجنا والجميع كان سعيداً أنني تخطيتُ أخيراً محنتي. ولكن بعد حفلة الزفاف مباشرة، أدركتُ أن عليّ أن أفعل أشياء لم أحسب لها حساب، أعني بذلك الواجبات الزوجيّة وكان بديع ينتظر منّي طبعاً أن أكون زوجته بكل معنى الكلمة. ولكنني لم أقدر، لأنني لم أكن أحبّه أو حتى أشعر تجاهه بأي إنجذاب جسدي.
كان بالنسبة لي بمثابة أخ وليس أكثر. و لأنّه إنسان عظيم، تفهّم الوضع وقرّر أن يعطيني بعض الوقت لكي أتقبّل الفكرة وكنتُ ممنونة له لعدم إصراره أو إجباري على فعل شيء لا أريد فعله. ولكن حدثَ أمر غريب لم أتوقّعه وهو أنني بدأتُ أشعر وكأن أسعد حبيبي المتوفيّ موجود معي ويرى كل ما أفعله. وأحسستُ بالخجل، لأنني تزوّجتُ من غيره وبدَت فكرة إقامة أي علاقة جنسيّة مع بديع مستحيلة تماماً. لم أقل شيئاً لأحد، لأنني كنتُ أعلم أنّ الجميع سيسخر منّي ولكن الحقيقة كانت أنني إعتقدتُ فعلاً أنّ أسعد يرافقني أينما أذهب وكأنّه ما زال على قيد الحياة.
خبّأتُ سرّي جيدّاً وتصرّفتُ بشكل طبيعي بين الناس ولكن عندما كنتُ أعود إلى المنزل، كنتُ أذهب إلى الغرفة وأوصدُ الباب خلفي وأجلس على السرير، أتكلّم مع حبيبي وأضحك معه. كان الوضع ليستمرّ هكذا لو لم يسمعني زوجي في ذاك يوم وأنا أحدّثُ أحداً في الحمّام. إنتظرني حتى أخرج وعندما رأى أنني لوحدي ولا أحمل معي جوّالي، سألني لماذا كنتُ أتكلم لوحدي. فأجبته أنني كنتُ أرندح أغنية أحبّها. ولكنّه لم يصدّقني وأخذ يراقبني. كانت صحّتي الجسديّة والنفسيّة تهمّه كثيراً، أوّلاً لأنّه يحبّني وثانياً لأنه أراد فهمي وحلّ مشكلتي التي منعتنا من العيش كزوجين.
فبعد فترة تأكّد أنني أتكلّم لوحدي وإنشغل باله كثيراً وقرّر التحدّث معي بهذا الموضوع. فأجبته بكل صراحة:

- أنا أتكلّم مع أسعد فهو معي طوال الوقت.

- هل تدركين انّه متوفّي؟

- نعم... أدرك ذلك تماماً... ولكن جسده هو الذي مات، أمّا روحه فما زالت موجودة وهي موجودة معي.

لم يجادلني، لأنّه رأى أنّ لا جدوى من ذلك، خصةً أنني كنت أتكلم مع الأموات وذهب فوراً لإستشارة طبيب نفسي، الذي طلب منه رؤيتي. ولكن عندما أخبرني بديع أنّ حالتي ليست جيدّة وعليّ أن أتعالج، جابهته بالرفض، ففكرة ذهاب حبيبي إلى الأبد كانت لا تطاق. وللحقيقة كنتُ سعيدة هكذا، رغم أنني كنتُ أعيش في عالم خيالي يشبه الجنون. عندها إحتار بديع ولم يعد يعلم ما يفعله بي، فإتصل بأمّي وأخبرها بما يجري. فركضَت لرؤيتي وإقناعي بضرورة شفائي:

- يا صغيرتي... أنا أعلم كم تألمتِ عندما مات أسعد...

- إنّه لم يمُت! لا تقولي هذا أبداً!

- بلى مات... وهذه حقيقة عليكِ تقبّلها... إن الحياة للأحياء وليس للأموات... هم لهم عالمهم الخاص ولا يجب أن يتلاقى مع عالمَينا... ما ترَينه وتسمعينه هو نتيجة خيالكِ وعدَم رغبتكِ بترك هذا المسكين يرقد بسلام. وبهذه الطريقة تعذّبينه وتعذّبين نفسكِ وزوجكِ... أصبحَ هناك العديد من الضحايا... ألا ترين ذلك؟

تأثّرتُ كثيراً بحديث والدتي ووجدتُ أنَ ما قالته منطقيّاً على الأقل من ناحية عذاب زوجي معي. أمّا بما يتعلّق بتخيّلاتي، فكنتُ مقتنعة أنّ أسعد فعلاً بجانبي. ففعلتُ ما لم يتوقّعه أحد، أي طلبتُ الطلاق من بديع لأريحه منّي ولأعيش مع حبيبي بسلام. قبِلَ معي على مضد، ورغم كلّ شيء، عرض عليّ صداقته ودعمه الدائم. وعدتُ أعيش عند أهلي، الذين تقبّلوا رجوعي لأنني كنتُ بنظرهم مريضة ولكنّ بما يخصّني كنتُ سعيدة لأنني إسترجعتُ عزوبيّتي، أي أيّام غرامي مع أسعد وحضّرتُ نفسي لقضاء باقي حياتي مع الذي رجِعَ من الموت ليكون معي. ولكن منذ اللحظة التي وطأت قدميّ بيت أبي، لم أعد أرى أسعد. إنتظرتُه كثيراً وناديتُ إسمه عالياً ولكنّه إختفى كلّياً من الوجود. لم أعد أخرج من خوفي أن يأتي في غيابي ولم أعد أنام حتى لا أفوّتَ فرصة رؤيته. وعندما فهمتُ أنّه لن يرجع أبداً، جنّ جنوني وبتُّ أمشي في المزل أبكي وأصرخ وأترجّى ولم أعد ألمسُ الطعام، إلى حين أتى يوم ووقعتُ أرضاً من شدّة ضعفي. نقلوني إلى المستشفى، حيث باشر الأطبّاء بعلاجي، أوّلاً جسديّاً ثم نفسيّاً. تألّمَت عائلتي كثيراً لرؤيتي وأنا ممددة على هذا السرير في شبه غيبوبة من كثرة الأدوية، فلجأَت إلى بديع الذي أسرعَ كالعادة في تلبية النداء ومكثَ معي طيلة الوقت. وعندما إسترجعتُ وعيي، كان هو أوّل من رأيتُه قربي، فشعرتُ بالخجل لما فعلتُه به:

- لا أدري ما كنتُ لأفعل من دونكَ... فمنذ البدء وأنتَ تعاني منّي ومن مصائبي... لو تعلم كم أنا آسفة...
- لا داعي للإعتذار، فأنتِ لم تكوني في حالة طبيعيّة وبفضل العلاج ستتمكّنين من متابعة حياتك في وقت قريب.
- معكَ؟
- معي... إن كان هذا ما تريدينه حقّاً...

وعُدنا إلي بيتنا وبدأنا قصّتنا من جديد. لا أخفي أنني أشتاق لأسعد من وقت إلى آخر ولكنني أدركُ الآن تماماً أنّه في مكان آخر حيث هم الأموات وحيت لا مكان للأحياء.

حاورتها بولا جهشان  

المزيد
back to top button