ترعرعتُ بين أبطال القصص الخرافيّة التي تُروى للأطفال، فكانت أمّي كاتبة وكانت هي الأخرى تعيش في عالمها الخاص، المليء بالمغامرات. وقبل أن أنام، كانت تأتي وتقصّ لي آخر ما كتبته وعندما أغمض عينيّ كنتُ أحلم بكل هؤلاء الأشخاص والمخلوقات.
وهكذا كبرتُ ووجدتُ صعوبة بقبول الواقع البسيط، حيث لا يحدث شيئاً خارج المألوف، فبدأتُ أختلق أشياء غريبة سمّاها الكبار "أكاذيباً". ولكنني لم أكن أكذب، بل كنتُ أضيف لمسة سحريّة على الأمور. وبدأَت معلّماتي في المدرسة، تنزعج مني وكذلك رفاقي لأنّهم لم يعودوا يعرفون إن كنتُ أقول الحقيقة أم لا. وعندما كانوا يشتكون لها منّي، كانت أمّي تبتسم وتقول "ستهدأ عندما تكبر... دعوها تنعم قليلاً بعالمها الخاص". ولكنني لم أهدأ مع مرور الزمن، لا بل زادَت حاجتي للخيال وأصبحَ هدفي واحد: إيجاد أميري الخاص، الذي سيأتي ويأخذني إلى قصر جميل، حيث نعيش سويّاً بهناء وننجب الأطفال الجميلة.
وعندما دخلتُ الجامعة، بدأتُ أبحث عن بطلي في كل شاب ألتقي به. وطبعاً كان يخيب أملي سريعاً عندما أجد أنّه إنسان عادي لا يتحلّى بالصفات المطلوبة.
وبينما معظم زميلاتي كان لديهنّ صديق، أنا بقيتُ وحيدة مع أنني كنتُ جميلة وجذّابة وأحظى بإهتمام عدد كبير من الشبان. والوحيد الذي إسقطبَ إهتمامي كان عصام، شاب يعمل في المقهى المقابل للكليّة. كنتُ أراه عندما أذهب لتناول فنجان من القهوة أو قطعة من الحلوى. أعجبَني لحظة سمعتُه يتحدّث مع صديق عن أحلامه ونيّته بالسفر بعيداً وخوض مغامرات عبر البحار والجبال.عندها ذهبتُ إليه وقلتُ له بكل بساطة: "إحكِ لي عن تلك الأسفار... أريد أن أعلم... قل لي أين ستذهب ومن ستقابل وماذا سيجري لك."
فرِحَ عصام لأنّه وجد من يستمع إليه أخيراً، فكل الذين كانوا يعرفونه، كانوا قد سئموا من رواياته ومخيّلته الواسعة. وبدأ يروي لي أغرب القصص وأنا بدأتُ أحلم أنني معه في مركب وسط بحر هائج مليء بالمخلوقات الغريبة أو في طائرة يقودها هو إلى بلدان لا نعرف إسمها حتى. ويوم بعد يوم، أصبحتُ واثقة أنّ هذا الشاب هو رجل حياتي وأنّه الوحيد الذي يمكنه إسعادي. فعندما طلب منّي أن أتزوّجه، قلتُ نعم بسرعة فائقة. وبما أنّه لم يكن يملك أيّ مال، عرضَ عليّ أن نهرب دون حفل زفاف وأنا بالطبع وجدتُ الأمر رومانسيّاً للغاية. وفي إحدى الليالي، حضّرتُ حقيبة صغيرة وخرجتُ من البيت خلسة وذهبتُ ألاقي سندبادي. وبعد أن عقدنا قراننا أخذَني إلى كوخ في الجبل حيث أمضينا بضعة أيّام. تفاجأ أهلي كثيراً عندما وجدوا الرسالة التي تركتها على وسادتي أشرح فيها ما حصل وحاولوا إيجادي ولكن بلا جدوى، فأنا لم أقل لهم حتى عن إسم زوجي. فعلتُ ذلك عن قصد لزيادة التشويق أوّلاً ولكي يدعوني أعيش معه بسلام على الأقل في الفترة الأولى.
وبعد شهر العسل ذهبنا للإنتقال إلى "شقّة" عصام التي كانت تتألّف من غرفة واحدة وحمام. المطبخ كان عبارة عن زاوية صغيرة، بالكاد تتسع لشخص واحد. لم يهمّني الأمر مع أنني ولدتُ في بيت كبير وعشتُ في غرفة خاصة بي. لم يهمّني فقر عصام، لأنني كنتُ واثقة أنّه سيصبح ثريّاً عندما نسافر ونبدأ حياة جديدة خلف البحار. وأظنّ أنني كنتُ الوحيدة في العالم التي كانت تتخيّل أن شيئاً واحداً من قصص عصام سيتحقق. ومرّت الأشهر ثم السنة، ثم وجدتُ نفسي حاملاً. وعندما حان الوقت لأسأل زوجي أين أصبحَت تحضيرات السفر قال لي متحجّجاً:
- كنتُ أنوي إخباركِ أنّ كل شيء جاهز ولكنّكِ الآن حاملاً ولا يجوز أن نسافر وأنتِ في هذه الحالة.
- لا تخف... هناك حل... أستطيع إسقاط الجنين وهكذا يمكننا الرحيل!
- ماذا! أنتِ حقّاً مجنونة! لا! سننتظر حتى بعد الولادة ثم نتكلّم بالموضوع.
وولِدَ إبننا ولم نذهب إلى أي مكان. كنّا نعيش في فقر بشع ولم أكن أستطيع العمل بسبب طفلي. والذي كان لا بدّ أن يحصل حصل أخيراً: فتحتُ أعيني ورأيتُ الحقيقة وحينها إنهار عالمي بالكامل ورجعتُ إلى الواقع المرير: كنتُ قد تزوّجتُ من كاذب كسول. لم يعد لي سوى حلّ واحد وهو اللجوء إلى أهلي. كنتُ أخشى ردّة فعلهم، فلم يكونوا حتى على علم بوجود حفيد لهم. ولكنّهم رحبّوا بزيارتي لهم وفرحوا كثيراً بي وبإبني. والذي فرِحَ الأكثر، كان عصام لأنّه رأى بأهلي مخرجاً لضيقته الماليّة. ولأنّه ذكي ومحتال، لم يطلب المال مباشرة منهم، بل جعلني أفعل ذلك بدلاً عنه. في البدء أعطوني كل ما أردتُه، ثم بدأوا يسأموا من طلبات أصبحَت كثيرة وقالوا لي أنّهم لن يعطوني إلا الضروري وأنني أستطيع ترك إبني عندهم والذهاب إلى العمل. وجدتُ حديثهم منطقيّ ولكن بعد أن بدأتُ بالعمل كمساعدة حضانة، قرّرَ عصام أنّ الوقت حان ليستريح، فإستقال من عمله ومكثَ في البيت لا يفعل شيئاً سوى النوم أو الجلوس أمام التلفاز. ومن بعدها، بدأ يأتي بأصحابه ثم صحباته، حتى أن جاء الناطور لينبّهني من الذي يجري أثناء غيابي. وهذا لم يكن صعباً، فعصام لم يكن حتى يحاول الإختباء، بل كان يفعل ما يريده علناً. وبعد أن واجهتُه بالذي علمتُه وحصلَ شجاراً كبيراً بيننا، قبِلَ بأن يتركني أنا وإبني شرط أن يُدفع له مبلغاً كبيراً من المال. إضطرَّ أهلي على بيع قطعة أرض لتجميع المال وحصلتُ على الطلاق. ومنذ ذلك اليوم، كلّما أروي قصّة لإبني أو لتلامذة الحضانة، أقول لهم أنّها غير واقعيّة وناتجة فقط عن خيال مؤلّفها.
حاورتها بولا جهشان