هل النجاح المهني حكر على الرجال وهل رؤية إمرأة ناجحة أمر صعب لِدرجة اللجوء إلى الأذيّة؟ في حالتي الجواب كان نعم ولقد عانيتُ كثيراً مِن زوجي الذي لم يرَ فيّ سوى أنثى مخصّصة للأعمال المنزليّة. ربمّا ساهمتُ بذلك عندما قبِلتُ أن أضع شهادتي في الحقوق جانباً وقت طلبَ منّي عدنان أن أتزوّجه رغم قلَقي بشأن مستوى الحياة التي كان سيؤمّنها لنا براتبه الضئيل. ولكنّه أكدَّ لي أنّه سيهتم بي كما يجب وأنّني سأعيش معه كالملكة. لم أصدّقه لأنّني كنتُ أعلم أنّ عمله في قسم مبيعات محلّ للأدوات المنزليّة لن يكفي لتأمين ما يلزم لبناء عائلة كما كان يخطّط ولكنّني سكتُّ إحتراماً له. وإنتقلتُ للعيش في منزله الصغير في شارع ضيّق ومظلم ولأنّني كنتُ أحبّه. لم أشتاق آنذاك إلى بيت أهلي الجميل والمحاط بالورود والأشجار ولم أتذكرّ حينها ما قاله لي أبي قبل الزفاف:
ـ تستطيعين إيجاد أفضل مِن عدنان ... بكثير.
وبعد زواجنا بسنة، ولدَت إبنتنا الأولى وسط فرحة عارمة ونسيتُ القلّة التي إكتشفتُها مع زوجي. وساعدَتني أمّي كثيراً في الأهتمام بالطفلة وإبتاعَت لي كل ما يلزم مِن الحفاضات إلى الكرسيّ والسرير وحوض الحمّام، الشيء الذي أزعجَ زوجي الذي رأى في الأمر محاولة لإظهار تقصيره بالإعتناء بعائلته. ولكنّني لم أدخل في أيّ جدل معه لأنّني كنتُ سعيدة أن تحصل إبنتي على الأفضل. ولكن سرعان ما بدأ إنزعاج عدنان يؤثّر على علاقتي بذويّ، فبات يتجنّب التواجد معهم حتى أن قرّرَ أنّه لم يعد يريدهم في بيته. حاولتُ تغيير رأيه بشتىّ الطرق ولكنّه بقيَ على موقفه فبدأتُ بأخذ إبنتي إليهم لتفادي الصدام. ومرَّت الأيّام وكبُرَ الشرخ بين العائلتين وفي محاولة لإصلاح الأمور قلتُ لِعدنان:
ـ حبيبي... أهلي يحاولون فقط مساعدتنا...
ـ لستُ بحاجة إلى أحد!
ـ ربمّا هذه حالتكَ ولكنّ إبنتنا بحاجة إلى أمور كثيرة لا تستطيع تأمينها لها...
ـ إنّها أمور لا ضرورة لها! لقد كبرتُ دونها وها أنا بألف خير!
ـ لقد تغيّرَت الأيّام وزادَت المتطلّبات... لما لا أساعدكَ بإيجاد عمل... قد نستفيد مِن راتب ثانٍ...
ـ هذا لن يحصل! مكانكِ في المنزل مع عائلتكِ!
ـ لديّ مؤهّلات أخرى كثيرة... أنا لم أولَد فقط لأكون زوجة أو أمّ... أنا أيضاً إمرأة يحقّ لها تحقيق ذاتها.
ـ قلتُ لكِ أنّكِ لن تعملي!
وإنتهى الموضوع. وأظنّ أنّه قرّرَ حينها إرغامي على البقاء في البيت عندما جعلَني أحمل مِن جديد. وهكذا ولِدَت إبنتي الثانية سنة بعد الأولى ولكن هذه المرّة لم تحصل على إهتمام جدّتها اليوميّ. وشعرتُ بتعب كبير وحيرة في تدبير أموري، فكان مِن شبه المستحيل أن آخذ الطفلتَين إلى أهلي كل يوم وأرجع بهنّ في المساء إلى البيت. لذا قرّرتُ البقاء حيث أنا والعمل على إيجاد حلول بنفسي. أما عدنان فلم يتغيّر عليه شيئاً، فبقي يذهب إلى عمله ويعود منه كالعادة دون أن يفكرّ في طريقة للحصول على المال الكافي لعائلة باتت كبيرة. وبالطبع لم يسمح لي حتى بالتكلّم معه بأيّ موضوع متعلّق بالمصروف المتزايد وتصرّفَ وكأنّ شيئاً لم يكن. وبقيَت الأمور على حالها حوالي السنتَين حتى إتصلَ أبي بي وأخبَرَني أنّه وجدَ لي وظيفة عند محام صديق له وأنّني أستطيع وضع بناتي عند أمّي والبدء بالعمل فوراً وأضاف أنّني أستطيع أخذ سيّارته للتنقّل لكي لا أكون مجبرة على صرف راتبي على وسائل النقل.
فرحتُ كثيراً وأخذتُ أفكرّ بطريقة لإقناع زوجي بأن يقبل معي. وبدأتُ عمليّة غسل دماغ مكثّفة ويوميّة مع حجج وبراهين حتى أن إستطعتُ إنتزاع إذنه بالعمل شهراً واحداً فقط لِنرى النتيجة أوّلاً ونقرّر لاحقاً إن كنتُ سأستمرّ أم لا. وشكرتُ السماء على تسهيل أموري وذهبتُ إلى المكتب وقلبي مليء بالأمل بغد أفضل. وحين جاء الوقت لأقبض أوّل راتب لي ركضتُ به إلى زوجي وقلتُ له:
ـ أنظر... أليس هذا أفضل بكثير؟ هيّا بنا نتغدّى بأفخم مطعم!
ـ لا أريد... إذهبي أنتِ فهذا مالكِ.
ورفض عدنان صرف أي قرش أجنيه وكأنّه ملوّث، لذا خصّصتُه لبناتي وإحتياجاتهنّ. وأكملتُ العمل لأنّه لم يعارض على ذلك وشعرتُ أنّ حياتي أخذَت منعطفاً إيجابيّاً وأنّني بدأتُ أخيراً بالعيش كما يجب. ولكن البركان كان يتحضرّ للإنفجار مِن تحت الرماد دون أن أشعر بأيّ شيء، فكان غضب عدنان منّي لا يوصَف ولم أتخيّل يوماً ما بإستطاعته فعله للإنتقام منّي ولِمنعي مِن مزاولة عملي الذي إعتَبَره إهانة قصوى لرجولته وقدرته على الإهتمام بعائلته. فَمِن الرجل المحبّ الذي تعرّفتُ إليه، أصبحَ إنساناً مليئاً بالكره والأذيّة.
ففي ذاك نهار وبعد أن تركتُ المكتب وتوجّهتُ إلى المرآب لأخذ سيّارتي رأيتُ أضواء سيّارة أخرى تأتي نحوي بسرعة فائقة. وقبل أن أستوعب ما الذي يحصل شعرتُ بألم كبير في رجليّ وسقطتُ أرضاً وبدأتُ بالصراخ. رَكَضَ إليّ المسؤول عن المرآب وطلبَ فوراً الإسعاف ونُقِلتُ إلى المستشفى حيث تبيّن أنّني مصابة بكسور بكلتا الرجلتَين. بدأتُ بالبكاء على حالتي لأنّني علِمتُ أنّني لن أستطيع العمل قبل وقت طويل ناهيك عن الإهتمام ببناتي. ثم جاءَت الشرطة لتسألني إن كنتُ رأيتُ السائق الذي فرَّ مسرعاً أو نوع المركبة ولوحتها. ولكنّني لم أرَ شيئاً وطويَ الملف.
وجاء عدنان عندما إتصلتُ به وبعد يومين عدتُ إلى المنزل على كرسي متنقّل. وجاءَت شقيقته لمساعدتي بعدما عادَت مِن كندا حيث كانت تعيش قبل أن تتطلّق مِن زوجها. حاولَ أهلي أن يأخذوني إلى منزلهم ولكنّ عدنان طلبَ منهم أن يكفوّا عن التدخّل بأمورنا وقال لهم أنّنا كنّا بأفضل حال قبل أن يملؤا رأسي بكل تلك التفاهات. ولكنّ الكسور في رجليّ إلتأمَت بعد فترة وعدتُ أمشي بمساعدة عصاء طبيّة وقال لي الطبيب أنّني سأستعيد نشاطي قريباً. لذا تحضرّتُ للعودة إلى العمل وحين علِمَ زوجي بالأمر أصبحَ كالمجنون وبدأ بالصراخ:
ـ ماذا؟ يا للإنسانة العنيدة!
ـ عنيدة؟ لأنّني أريد الأفضل لبناتي؟ بالكاد نأكل ونشرب! ليس لدينا المال لتأمين أبسط الحاجات لهنّ! أريد مساعدتكَ فقط...
ـ انا الرجل! وأنا أهتمّ بعائلتي!
ـ وإن كنتَ غير قادراً على ذلك؟ هل نموت جوعاً؟
ـ أجل.
عندها علِمتُ أنّني تزوّجتُ مِن إنسان جاهل وغبّي. فأضفتُ:
ـ لن تمنعني عن العمل! ما الذي ستفعله إن أصرّيتُ على موقفي؟
ـ سأنهي ما بدأتُه!
وسكتَ. نظرتُ إليه بدهشة وخفتُ أن أكون قد فهمتُ قصده. سألتُه:
ـ ماذا تعني؟؟؟
ـ أعني... أعني أنّ صدمة صغيرة لم تكن كافية وفي المرّة القادمة سأعمل جهدي لإبقائكِ في المنزل إلى الأبد.
وعلمتُ أنّه الذي صدمَني بالسيّارة وحافظتُ على هدوئي رغم الغضب الشديد الذي إنتابَني وسكتُّ. وإنتظرتُ حتى أن غادرَ إلى عمله في الصباح وطلبتُ سيّارة أجرة وأخذتُ بناتي وذهبتُ أختبئ عند أهلي. وبعدما أخبرتُهم بالذي عرفتُه إتصل أبي بصديقه المحامي وإستشاره. وعندما عادَ عدنان ولم يجدني قصدَ أهلي ولكنّ أبي لم يدعه يدخل أو حتى أن يتكلّم معي بل واجهه بالذي فعله، فأجابَه عدنان:
ـ أجل لقد صدمتُ إبنتكَ بالسيّارة وإن لم تعيدوها لي مع البنات ستخسرونها إلى الأبد... سأقتلها... أقسم لكم أنّني سأفعل!
ـ لن تفعل شيئاً إيّها الغبي! لقد سجلّتُ ما قلتَه الآن على هاتفي وسأسمِعه إلى الشرطة إن لم تطلّق إبنتي فوراً وتتنازل عن حضانة بناتَيكَ!
فعلَ ذلك والدي بِفضل نصيحة صديقه المحامي فخافَ عدنان أن يُقبض عليه ويُسجَن وأعطاني الطلاق والحضانة الكاملة. وبعد أقل مِن سنة تزوّجتُ مِن زميل لي في المكتب وها نحن الإثنين نعمل ونهتمّ بعائلتنا التي كبُرَت بِمجيء إبننا. لو كان كان عدنان رجلاً منفتحاً ومحبّاً لَربحَني وربِحَ إبنتَيه ولعشنا كلّنا سعداء حتى آخر أيّامنا.
حاورتها بولا جهشان