وصلَني اتّصال مِن سكرتيرة خطيبي نادِر، تلك نفسها التي قالَ عنها أخي أُسامة إنّها على علاقة بالذي أنوي الزواج منه. لَم أُصدِّقه لكنّ قلبي بدأ يدقُّ بسرعة حين عرّفَت تلك المرأة عن نفسها، فخِفتُ أن تُكرِّرَ أتّهاماتها وزعمها بأنّ خطيبي ليس فقط خائنًا بل على شفير الافلاس. لكنّها قالَت لي:
ـ أُريدُ أن أخبركِ أنّ أخاكِ جاءَ إليّ مُستفسِرًا عن نادِر.
ـ أعلَمُ ذلك... هل صحيح ما قالَه أُسامة لي عن لسانكِ؟
ـ ما الذي قالَه؟
ـ أنّكِ اعترفتِ له بعلاقتكِ بخطيبي وبأنّه نصّاب مُحترِف.
ـ أنا قلتُ ذلك بالفعل، لكن مُرغمة... فلقد هدَّدَني أخوكِ وخفتُ منه كثيرًا لأنّه بالفعل إنسان شرّير!
ـ أخي إنسان شرّير؟!؟
ـ للغاية! فهو لقَّنَني ما عليّ قوله حول نادِر وإلّا أذاني! عندها وافقتُ أن أتبنّى تلك الرواية لو سألتِني عن نادِر.
ـ يعني ذلك أنّكِ لستِ على علاقة مع خطيبي وأنّه رجُل أعمال ناجِح؟
ـ أجل.
ـ أشكرُكِ مِن كلّ قلبي! لكن لماذا إتّصلتِ بي لإخباري الحقيقة بالرغم مِن تهديدات أخي؟
ـ لإراحة ضميري... فنادِر يستحقّ أن يعيش سعيدًا معكِ.
ـ يا لكِ مِن إنسانة رائعة!
أقفَلتُ الخط وبسمة عريضة على وجهي، وركضتُ أخبرُ أبي بالذي قالَته تلك المرأة فغضِبَ مِن أخي كثيرًا، فكيف له أن يصِل إلى ذلك الحدّ فقط لأنّه لا يُحِبّ شخصًا؟ وعندما عادَ أُسامة مِن عمَله، وبَّخَه أبي كثيرًا وكذلك أمّي التي عادةً لا تتدخّل بأمور غيرها، بل تبقى صامِتة.
لَم يصدِّق أخي أذنَيه، بل أنكَرَ بشدّة أن يكون قد أجبَرَ المرأة على قول أيّ شيء، واستغرَبَ أن تتّصِل بي وتنفي علاقتها بنادِر. والتفسير الوحيد الذي وجَده كان أنّ هذا الأخير أقنعَها بطريقة أو بأخرى بأنّ زواجه منّي أمر مقبول. طفَحَ كَيلي مِن تصرّفات أخي، لِذا قرّرتُ ليس فقط إخبار خطيبي بالمستجدّات، بل تقريب موعد زفافنا لنضَع أُسامة تحت الأمر الواقع، ويقبَل أخيرًا بأنّني سأصبح زوجة الرجُل الذي يكرهُه إلى حدّ غير مقبول. وافقَني ولدايَ، لكنّني رأيتُ نظرة التحدّي على وجه أخي وفهمتُ أنّه لن يتراجَع أبدًا. قرَّبنا موعد الزفاف، وكنتُ سعيدة للغاية إذ أنّني كنتُ أتوقُ للعَيش مع حبيبي حتّى آخِر أيّامي. وهو الآخَر كان في عجلة مِن أمره... لكن ليس للدوافع نفسها.
لا تلوموني، فلقد غشَّ نادِر جميع أفراد العائلة والأقارب والأصدقاء وسكرتيرته، وحتّى الذين نصَبَ عليهم لسنوات... إلّا أُسامة الذي كشَفَ حقيقته منذ اللحظة الأولى. فقليلون هم الذين بإمكانهم التعرّف على الخداع الذي يُمارسه إنسان مُتمكِّن مِن التمثيل والاحتيال لمدّة طويلة.
وبما أنّ خطّة خطيبي لإبعاد أخي بإرساله عبر الشركة إلى الصين قد فشلَت، فقد طلَبَ مِن صديقه مُدير الشركة طَرد أُسامة. فبهذه الطريقة كان سيُريه مَن هو الأقوى وكيف بإمكانه إلحاق الضرَر به حينما يشاء. لَم يؤثِّر ذلك الطرد كثيرًا على أخي إذ أنّه لَم يكن ينوي المكوث مُطوّلًا في الشركة بعد أن فهِمَ دوافع خطيبي، لكنّه خافَ أن يؤثِّر ذلك الطرد على سيرته المهنيّة، لذلك استاءَ مِن تداعيات الأمر ومِن نادِر لدرجة أنّه قرَّرَ التصرّف. فذات يوم، إنتظَرَ أخي خطيبي في المرآب حيث يركن هذا الأخير سيّارته وواجهَه. تشاجَرَ الرجُلان ولكَمَ أخي نادِر على وجهه فكسَرَ أنفه. وفي اليوم نفسه، جاءَت الشرطة وأخذَت أخي للتحقيق.
إحتَرتُ لأمري، فمِن ناحية كنتُ مذهولة لتصرّف أُسامة، لكنّه كان أخي ولَم أتحمَّل فكرة جَرّه إلى القسم ومُعاملته وكأنّه مُجرم. طلبتُ مِن نادِر سَحب شكواه، وهو أنصاعَ لطلَبي، فأُخلِيَ سبيل أُسامة.
بعد تلك الحادِثة، جاءَ أخي إليّ وقالَ لي:
ـ لقد فعلتُ جهدي لأُنّبِهكِ والجميع مِن نادِر، وجوبهتُ بالمُقاومة والنعوت بأنّني مجنون وعنيف وأغارُ منه. إسمَعي، لقد طفَحَ كَيلي، وضَربي لنادِر هو نتيجة عنادكِ، فأنا لا أقبَل أبدًا باللجوء إلى العنف، لأنّ هذه ليست مِن شيَمي. أقولُ لكِ لآخِر مرّة يا أختي، لا تتزوّجيه، فإنّه مُحتال ونصّاب وخائن. هو سيأخذُ المال مِن المصرف ويُورِّط أبانا بمشاكل قد تُسبّب له أزمة قلبيّة مُميتة، ناهيكِ عن الذي سيفعله بكِ شخصيًّا. فهو يخونُكِ منذ الآن وسيخونُكِ باستمرار، خاصّة مع تلك البلهاء التي تلعَب لعبته كَي لا تخسَره، وسيأخذُ كلّ ما لدَيكِ. لن أتدخّل بعد الآن، أعدُكِ بذلك، بل سأرحَل بعيدًا كَي لا أرى ما حذّرتُكم به يتحقّق أمام عَينَي... ولن أحضُر فرَحكِ، سامحيني.
بكيتُ كثيرًا لدى سماعي كلامه، فأدركتُ أنّني خسِرتُ أخي. هو بدا لي صادِقًا بكلامه لأنّه يُصدِّقُ كلّ ما قالَه، لكنّ ذلك لَم يؤثِّر على قراري. تزوّجتُ مِن نادِر وسافَرَ أُسامة إلى أوروبا بعدما وجَدَ عمَلًا هناك.
سكَنَني الحزن لفقدان أخي الوحيد، الذي كان أيضًا صديقي وحافِظ أسراري، لكنّني لَم أصدِّق اتهاماته لنادِر الذي كان يُعاملني بأفضل طريقة بعد الزواج، ولَم تبدُ عليه أيّ علامة غشّ أو احتيال. حصَلَ زوجي على القرض الذي كان يسعى وراءه بكفالة مِن أبي الذي رهَنَ البيت كتأمين للمصرِف. وبقيَ أخي على تواصل مع والدَيّ مِن حيث هو، لكنّه لَم يُكلّمني على الاطلاق بل أخَذَ فقط أخباري مِن ذويّ. وهو لامَ أبي على رهن البيت لكنّ كلامه بقيَ مِن دون صدى.
بعد ذلك، بدأ نادِر يغيب عن البيت ويقضي وقته على هاتفه، الأمر الذي أزعجَني إلى أقصى درجة، إذ أنّ الأعذار التي كان يُقدِّمها لَم تكن مُقنِعة وشعرتُ أنّه لا يأبَه على الاطلاق إن كنتُ أُصدِّقه أم لا. لِذا، إقترَفتُ الخطأ نفسه الذي تقترفِه الكثيرات، وهو أن أصَمِّم على الانجاب، مُعتقِدةً أنّ ذلك سيُعيد حبّ زوجي لي. لَم أكن أعلَم أنّ حبّ الرجُل لزوجته أو حبيبته لا يتبخَّر هكذا لو هو أحبَّها بالفعل، وأنّ لا شيء سيُعيد ذلك الحبّ إن لَم يكن موجودًا في الأصل. لكن كيف أحمِل منه إن كان زوجي لَم يعُد يُحبّ معاشرتي؟
بدأتُ أشكُّ فعليًّا بزوجي، وتذكّرتُ أنّ رقم تلك السكرتيرة لا يزال محفوظًا في هاتفي، فاتّصلتُ بها. وحين هي أجابَت، سمِعتُها تقولُ مذعورة: "إنّها زوجتكَ! ماذا أقولُ لها؟؟؟". لَم أسمَع جواب نادِر لأنّها أقفلَت الخط فجأة. فهمتُ كلّ شيء ولَم يعُد هناك مِن حاجة للاتّصال بها، بل استوعَبتُ أنّ أخي أُسامة كان على حقّ منذ الأوّل.
لَم يعُد نادِر إلى البيت في تلك الليلة... أو في أيّة ليلة أخرى، بل علِمتُ بعد أيّام مِن البحث أنّه سافَرَ آخِذًا معه المال الذي حصَلَ عليه مِن المصرف... وتارِكًا وراءه تلك البلهاء.
لَم أبكِ ولَم أشتكِ لأحَد، بل اتّصلتُ فقط بأُسامة لأطلبَ منه السماح وأُطلِعه على المُستجدّات. سكَتَ أخي مُطوّلًا وقال: "سأظلّ حيث أنا لأنّ الراتب جيّد جدًّا، وسأبعثُ لكِ مبلغًا شهريًّا لتسديد القرض، لكنّه لن يكون كافيًا إلّا إذا وجدتِ عمَلًا وتحمّلتِ قسمًا مِن العبء. لكن إيّاكِ أن يعرِف أبونا بمسألة نصب نادِر له ولكِ وإلّا مات! قولي إنّ زوجكِ سافَرَ فجأة بداعي العمَل. ولاحِقًا سنجِد عذرًا آخَر، أفهمتِ؟".
وهكذا بدأنا نُسدِّد القرض شهرًا بعد شهر، ولن أكون أبدًا قادِرة على شكر أخي كفاية. تعِبنا كثيرًا لأنّنا حرَمنا أنفسنا مِن أبسط الأمور، لكن في آخِر المطاف إستطَعنا إنقاذ بيت أهلي قَبل أن يضَع المصرف يدَه عليه. فهِمَ أبي أنّ زوجي لن يعود بعد كلّ تلك السنوات، فهو ليس غبيًّا، لكنّه لَم يعرِف بموضوع المال، بل خالَ أنّ نادِر هو الذي يُسدِّد الدَين. على كلّ الأحوّال، تصرّفتُ بشجاعة، ولَم أُبيِّن له أو لأمّي مدى حزني وضياعي وخذلاني. والشيء الوحيد الذي حمَلَني على المواصلة وتحمّل الذي حصَلَ لي، هو خجَلي مِن أُسامة وامتناني له، فكنتُ المُذنِبة الوحيدة وهو مُخلِّصي الوحيد.
عاشَ نادِر في الغربة لسنوات، صرَفَ خلالها كلّ المال إلى أن أحتاجَ إلى المزيد منه، فعادَ إلى نَصبه للناس. لكن في ذلك البلَد، كان هناك أناس خطرون للغاية لا يجِب العبَث معها. وفي أحَد الأيّام، عُثِرَ على زوجي السابق ميّتًا في قفص مصعد المبنى الذي يعيشُ فيه. لَم أزعَل عليه، فهذه نهاية كلّ مَن هم مثله.
أمّا بالنسبة لسكرتيرته وحبيبته، فهي بعثَت لي العديد مِن الرسائل بعد أن هرَبَ نادِر مِن البلد لتسأل عنه. لَم أجِبها على الاطلاق، بل حظرتُها نهائيًّا، فلتذهب إلى الجحيم، فلولا كذبها عليّ، لصدّقتُ أخي وامتنَعتُ عن الزواج مِن نادِر. عادَ أخي أخيرًا مِن الغربة، وعُدنا كما كنّا مِن قبل، كتوأمَين لا يفترقان. ولن أسمَح بعد اليوم لأيٍّ كان أن يفصل بيننا، فقد تعلَّمتُ الدرس جيدًا!
حاورتها بولا جهشان