لَم يبدُ أُسامة أخي مسرورًا لدى رؤيته حبيبي لأوّل مرّة، ولَم يُخفِ عدَم ارتياحه له، بل العكس، فهو صارَ يُقاطِعه إن حَكى ويُصحِّح له ويهزأ منه. شعرتُ بالإحراج لأقصى درجة، وحاوَلتُ تغيير الموضوع، إلى أن فضَّلَ حبيبي الرحيل مِن بيت أهلي الذين وبّخوا أُسامة كثيرًا لتصرّفه الفظّ. وعندما سألتُه لماذا هو كان بهذه الفظاظة، أجابَني: "لَم يعجبني نادِر... إنّه مُتشاوِف ومُدّعٍ وكاذِب... لو كنتُ مكانكِ لاحترَستُ منه، يا أختي". أسِفتُ كثيرًا لموقفه حيال نادِر، فكنتُ أفضِّل طبعًا أن يتّفِق الرجُلان، ونعيش كلّنا بتناغم بعد أن أتزوّج. لكنّني لَم اشارِك أخي في وصفه لِنادِر، بل كان ذلك الأخير إنسانًا مُميّزًا ومُثقّفًا، وكان أُسامة على ما يبدو يغارُ منه وحسب. أمِلتُ أن يُغيّر أخي رأيه حين يتعرّف أكثر على رجُل حياتي وتابَعتُ تحضيراتي للخطوبة.
بقيَت الأمور على حالها بين أخي وخطيبي، إلى حين ساهَمَ هذا الأخير في إيجاد وظيفة كبيرة لأُسامة الذي كان حتّى ذلك الحين يعمَل كموظّف عاديّ في إحدى الشركات. في البدء، تردَّدَ أخي بالقبول، لكنّني عرفتُ كيف أقنِعه لأنّ تلك الخطوة كانت ستُقرِّب الرجُلين مِن بعضهما، وكنتُ على حقّ. فباتَ أُسامة يرى نادِر بعَين مُختلِفة، بعد أن قدَّرَ جهوده لتأمين مركز أفضل له يُبيّن تمامًا قدراته، فالجدير بالذكر أنّ أخي كان إنسانًا ذكيًّا للغاية ويعمَل بتفانٍ واحترافيّة.
جرَت الأمور بعد ذلك بطريقة سلِسة، واستطعتُ وخطيبي التفكير مليًّا بمستقبلنا بما أنّنا حظَينا ببركة الجميع، فصِرتُ أكثر فرَحًا وتفاؤلًا، لأنّ عائلتي كانت تعني لي الكثير، خاصّة أخي الوحيد الذي وُلِدَ قبلي بِسنة على التمام وبتنا بمثابة توأمَين، أيّ مُتّفقَين دائمًا على كلّ شيء.
لكنّني كنتُ لا أزال أشعرُ بأنّ أُسامة بقيَ يُراقِب نادِر على الدوام، وينظر إليه برَيبة، حتّى لو خفيّة، فكما ذكرتُ سابقًا، كنتُ أعرفُ أخي عن ظهر قلب.
فذات يوم، تأكّدتُ مِن شعوري حين قالَ لي أخي، بعد أن خرَجَ خطيبي مِن بيتنا لدى زيارته لنا: "وكأنّني لا أعلَم أنّه رشاني بهذه الوظيفة! مَن يظن نفسه؟ أيخالُ أنّه أذكى منّي؟ أنا بالمرصاد له، فلن أسمَح له بأذيّتكِ يا أختي العزيزة!". أسِفتُ كثيرًا لدى سماعي كلامه، وحاوَلتُ معرفة سبب امتعاضه من نادِر، لكنّه بقيَ يُردِّد أنّ ليس لدَيه شيئًا ملموسًا ضدّه، لكنّه سيجِدُ ما يؤكِّد شكوكه. بكيتُ أمامه طالبةً منه الكفّ عن تعذيبي، لكنّه قال: "عذابكِ الآن لا شيء مُقارنةً بعذابكِ بعد الزواج مِن نادِر، وأنا سأحميكِ منه".
كان مِن الواضح أنّ أخي مُصمِّم على النَيل مِن خطيبي مِن دون أيّ سبب مُقنِع، وخطَرَ ببالي أنّه ليس على ما يُرام في عقله، فأيّ إنسان عاقِل يقول ذلك الكلام ويُفكِّر بهذه الطريقة؟ ولماذا يعتبِر مُساعدة نادِر له بمثابة رشوة؟ ألا يُساعِد الناس بعضهم، خاصّة إن كانوا سيُصبحون أقارِب؟ لَم أقُل شيئًا لِنادِر طبعًا وصلَّيتُ أن يبقى على اعتقاده بأنّ أخي موافق عليه. فماذا لو غيَّر خطيبي رأيه بي بسبب أُسامة؟؟؟
مرَّت الأيّام وباتَ موعِد الزواج قريبًا، ورأيتُ كيف أنّ أخي مُحتار ومُربك لفكرة ربط حياتي بنادِر بصورة دائمة. وفي تلك الفترة بالذات، حصَلَ أن أعلنَت الشركة الجديدة التي يعمَل فيها أُسامة عن نيّتَها بإرساله إلى الخارج، وبالتحديد إلى فرعهم في الصين. ومُقابل تلك النقلة، كان ينتظره مُستقبل لامِع مِن حيث الراتب ونوعيّة العَيش والسكَن، وترقية شِبه أكيدة. فكرة ابتعاد أخي عنّي كانت صعبة للغاية بالنسبة لي، لكنّني أرَدتُ ما هو الأفضل له. أمّا مِن ناحيته، فاحتارَ أُسامة كثيرًا ووجَدَ القرار صعبًا، فالبعد الجغرافيّ كان كبيرًا ناهيكَ عن الاختلاف باللغة والحضارة. لكن مِن ناحية أخرى، هو أدركَ أنّ تلك كانت فرصة ذهبيّة، لأنّه كان سيصبح بعد حين مُدير ذلك الفرع ويجني الكثير مِن المال والخبرة.
لكن ما لَم نكن نعرفه آنذاك، هو أنّ خطيبي كان ينوي طلَب قرض كبير مِن المال بعد الزواج لُينقِذ شركته مِن الافلاس، وذلك بفضل سمُعة أبي المُمتازة لدى المصارف، لأنّه لطالما كان رجُل أعمال ناجِح ونزيه، قَبل أن تصيبه أزمة قلبيّة ويضطرّ لترك أعماله كلّها للإهتمام بصّحته التي صارَت دقيقة للغاية. فالأطبّاء قالوا له إنّ أزمة ثانية، لو حدَثَت، ستقضي عليه حتمًا. كان هذا مُخطّط نادِر، لأنّه كان رجُل أعمال فاشِل ويعيشُ مِن الادّعاء والنصب، إلى حين نفَذَ ماله وباتَ يغرقُ تحت الديون لأناس غير مُحترمين. وهذا الادّعاء بالذات هو ما رآه أُسامة مِن دون أن يعرِف بالتحديد ماهيته.
هل أحبَّني خطيبي حقًّا؟ لا بالطبع، فكنتُ أمثِّل بالنسبة له كلّ ما أرادَه ليُرمِّم صورته الاجتماعيّة، ويواصِل ما كان يفعله تحت ستار سُمعة أبي وسُمعتي. وبإبعاد العنصر المُضايِق، أي أخي، كان نادِر سيتمكّن مِن المضيّ بمخطّطه على سجيّته.
وصَلَ لأبي اتّصال مِن المصرف ليسألوا عن نادِر قَبل درس ملفّه، فمدَحَ والدي بصهره المُستقبليّ، وأكَّدَ لهم أنّ هذا الأخير هو صاحِب شركة كبيرة وناجِحة، وأكبَر دليل على ثقته به أنّه سيُعطي ابنته له.
سمِعَ أخي المُكالمة، فاهتمَّ بالذي قيلَ، وفهِمَ أنّ مسألة القرض قد توصِله أخيرًا إلى ما كان يسعى وراءه: كشف نادِر على حقيقته. فبدأ يسأل يمينًا ويسارًا في عالَم الأعمال، والقلائل كانوا قد سمِعوا بنادِر وشركته، بالرغم مِن أنّ خطيبي كان يدّعي أنّه إنسان معروف وزبائن شركته مِن أكبر المُستثمرين.
عندها، رفَضَ أخي السفَر إلى الصين مُتحجِّجًا بصحّة أبيه المتأرجِحة، فهو لَم يشأ تركي في هذه الفترة بالذات، وإفساح المجال أمام نادِر بأخذ القرض بكفالة عمّه المُستقبليّ.
وحين علِمَ نادِر بأنّ أُسامة لن يُسافِر إلى أيّ مكان، شعَر بالخناق يضيقُ حول رقبته، فراحَ يُكلِّم أخي في مكتبه في الشركة للاستفسار. لكنّ سرعان ما دارَ شجارٌ بين الرجلَين حين قالَ أُسامة له: "سأكشفُكَ... لن أدَعكَ تأخذ القرض أو الزواج مِن أختي!". خرَجَ خطيبي مِن المكتب مُستاءً للغاية، وركَضَ إليّ شاكيًّا ومُهدِّدًا بفَسخ الخطوبة إن لَم يتركه أخي وشأنه. غضِبتُ كثيرًا مِن أُسامة وطمأنتُ نادِر بأنّني سأحمِّل أبي على أن يكفَله لدى المصرف بأقرب وقت.
في هذه الأثناء، تابَعَ أخي بحثه عمّا قد يُسيء لنادِر، ووجَدَ أخيرًا مَن بإمكانه مُساعدته: سكرتيرة نادِر الشخصيّة... والشخصيّة جدًّا! إذ أنّ تلك الأخيرة كانت على علاقة حميمة مع نادِر بعد أن وعدَها بالزواج، وأخفى عنها أنّه على وشك الارتباط بغيرها! وعندما أخبرَها أخي أنّ حبيبها هو خطيبي، قالَت له كلّ الحقيقة عن أحواله الشخصيّة وأحوال الشركة، ونالَ أُسامة أخيرًا ما كان يسعى إليه.
لَم أصدِّق أخي عندما أخبرَني كلّ ما عرَفَه عن رجُل حياتي، بل ظنَنتُ أنّها خدعة لإبعادي عنه، فغضبتُ كثيرًا وبدأتُ أصرخ به كالمجنونة. دخَلَ أبي غرفتي لدى سماع صوتي، فشكَوتُ له ما كان يقولُه أُسامة. خرَجَ أخي وأبي مِن غرفتي واختلَيا سويًّا لحوالي الساعة. حاولتُ استِراق السمَع، لكنّني لَم أستطِع فهم أيّ شيء مِمّا كان يُقال. لِذا ركضتُ أتّصِل بنادِر لإخباره بكلّ ما حدَث، فعرَضَ عليّ خطيبي أن نهرب سويًّا ونتزوّج مِن دون بركة أحَد.
لأوّل وهلة تحمَّستُ للفكرة، لكنّني تراجَعتُ اعتبارًا لعائلتي وخاصّة صحّة أبي. فلَم أكن مُستعِدّة لتسبّب أزمة قلبيّة ثانية له وربّما الموت! لكن مِن جهة ثانية، لَم أكن مُستعَدّة لفقدان حبيبي.
حبَستُ نفسي في غرفتي لأيّام رافِضة التكلّم مع أبوَيّ وخاصّة أُسامة، ليعرفوا مدى استيائي مِن تلاعبهم بحياتي ومصيري. وعَدتُ نادِر بأنّني مُصمِّمة على الزواج منه بأيّ ثمَن، وهو أقسَمَ أنّه لا ولن يُحِبّ غيري... إلى حين وصلَني ذلك الاتّصال.
يتبَع...