كانت أمّي تعني الدنيا بالنسبة إليَّ، ولا تزال حتى بعد مماتها بعشر سنوات. صحيح أنّني ولدها الأوحد، ولكنّها لم تفرّق يومًا بين البنات والصّبيان لأنّها كانت عادلة وحنونة.
تزوّجتُ وأنجَبتُ إبني الذي بقيَ مِن دون أخت أو أخ بسبب مشكلة عانَت منها زوجتي خلال الولادة. لم أكن محظوظًا بالحياة مثل باقي أخواتي اللواتي وجدنَ الثروة عند أزواجهنَّ، ربما لأنّني لم أكن فالحًا بالمدرسة وتركتُ العلم باكرًا لأعمل في مصنع بسيط. ولكنّني كنتُ أحب الحياة، وأمّي.
توقَّعتُ مِن أمال أختي الكبيرة أن تساعدني بمصروف أمّي، خاصة بعد إصابتها بمرض مكلِف وانتقالها للعيش عندنا، ولكنّها بقيَت تتجاهل تلميحاتي عبر الهاتف. كانت قد نسيَتنا فور وصولها إلى أستراليا مع زوجها، وانشغَلَت بجمع الأموال وخوض حياة أصنّفها بالرفاهيّة. أمّا باقي أخواتي فكنّ موزّعات في أقاصي بلدنا الكبير.
وغرِقتُ في الدّيون، ولكنّني لم أدَع أمّي تشعر بأنّها السبب، فقد كان مرضها يكفيها. لِذا بدأتُ عملاً ليليًّا ولم تعد عائلتي تراني، فلَعَنتُ الفقر وتداعياته.
مرَّت السنوات ولم يتغيّر شيء في حالتنا أو في حالة أمّي المسكينة، فبسنِّها نادرًا ما يشفى الإنسان، وصلَّيتُ أن يًبقيها الله أطول فترة ممكنة. ولكنّ المسكينة وقعَت ذات يوم وكسَرَت وركها وخافَ الأطباء على مصيرها. وكانوا على حقّ، لأنّ أمّي توفّيَت بعد شهر مِن وقوعها، آخذة معها ذكريات الطفولة وبسمتها الجميلة.
وجاءَت أخواتي مِن ما أسميتُه منفاهنّ، وانتظرتُ عودة أمال طبعًا ولكنّها لم تكن موجودة يوم الدفن بسبب عدم توفّر طائرة. ولم ألمها إذ كنتُ أدرك مدى بُعد أستراليا وكم يلزم مِن الوقت للوصول إلى بلدنا. وأقَمنا مراسم الدّفن وصلَّينا على جثمان التي ربَّتنا لوحدها بعد موت أبينا ونحن صغار.
وصَلَت أمال بعد يومَين وأخذتُها بين ذراعيَّ. كنتُ بحاجة إلى حنان التي اعتبرتُها أمّي الثانية، ولكنّها بدَت باردة معي. لم أفهم السبب وتجاهلتُ الأمر بسبب حزني على أمّي الحبيبة.
وطلبَت أختي أن تمكث خلال إقامتها في البلد في بيتنا الأساسيّ في الجبل، وعندما سألتُها لماذا اختارَت مكانًا بعيدًا عن العاصمة ولماذا لا تأتي إلى منزلي أجابَت:
ـ أريد استرجاع أيّام الماضي... أتذكر كيف كنّا ننام كلنّا في غرفة واحدة؟ أو عندما كنا نجلس على الأرض حول الأطباق ونأكل وسط الضحك والأخبار الطريفة؟
ـ أجل أذكر ذلك.
ـ إشتقتُ إلى تلك الأيّام الجميلة... إرحل أنتَ ودعني لوحدي هنا.
وتركتُها بعدما أمَّنتُ لها المأكل والمشرَب وعدتُ إلى بيتي وعائلتي. كنتُ أهاتفها مرّات عدّة في النهار لأسأل إن كانت بحاجة إلى شيء وكانت تجيب دائمًا:" لا عليكَ... أنا بخير.
وبعد ثلاثة أيّام، خَطَرَ ببالي أن أقصدها وأجلس معها في المكان نفسه حيث كنّا نلعب ونمرح، ولكنّني تفاجأتُ كثيرًا لما حلّ بالمكان.
كانت أمال قد جمَعَت أغراض أمّنا في طرود وضَعَتها أمام الباب، وكانت الخزائن والأدراج كلها قد أُفرِغَت مِن محتوياتها.
حزنتُ كثيرًا عند رؤية ما تبقّى مِن ذكر والدتنا يذهب في لحظة، خاصة أنّني كنتُ أنوي القيام بذلك ولكن على مهل، وأن أضَع بعض الأشياء جانبًا لأخذها معي وأحفظها عندي. فلم يتبقّ مِن أمّي إلا بضع فساتين جلبَتها معها عندما انتقلَت إلى بيتي. وصرختُ بأمال:
ـ لماذا فعلتِ ذلك؟؟؟ لم يمضِ على موتها بضعة أيّام!
ـ وإن يكن... لقد ماتَت ولم تعد بحاجة إلى ثيابها وأغراضها... سيستفيد منها مَن هم بحاجة إليها... هكذا نفعل في أستراليا.
ـ ولكنّنا لسنا في أستراليا... ولا نزال نحترم أمواتنا... لقد تغيّرَتِ كثيرًا يا أختي... لم أعهدكِ باردة القلب هكذا.
ـ لن أجادلكَ، فلطالما كنتَ عاطفيًّا أكثر مِن اللازم.
ـ عاطفتي هي التي حَمَلتني على الإهتمام بأمّنا لوحدي... جلبتُها إلى بيتي وعاملَتها زوجتي وكأنّها أمّها... بينما...
ـ بينما ماذا؟ ماذا تريدني أن أفعل؟ أن أترك بيتي وزوجي وأولادي وأعيش هنا؟
ـ لا... بل أن تساهمي معي في المصروف... تعلمين كيف هي حالتي.
ـ آه... إنّها مسألة مال... قل ذلك مِن الأوّل!
ـ لا... لا بل مسألة مسؤوليّة مشتركة... على كلّ حال، وجود أمّي عندي في آخر سنينها هو كنز بحدّ ذاته... ويا ليتَكِ لم توضّبي أمتعتها.
ـ سيأتي أناس مِن الجمعيّة لأخذها بعد دقائق.
ـ ولن يبقى مِن أمّي شيء...
وسافَرَت أختي بعد يوم واحد، ولم تتصل بي إلا بعد أسبوع قائلة:
ـ بالمناسبة... أريد بيت الجبل لنفسي.
ـ ماذا؟ هذا البيت ملكنا جميعًا.
ـ تكلّمتُ مع أخواتي وهنّ موافقات على التنازل عنه لي... ماذا تقول؟
ـ أقول لا! ماذا تريدين منه؟ تعيشين في المقلب الآخر مِن المعمورة ولدَيكِ مال يكفيكِ حتى ولد الولد.
ـ ليست مسألة مال... بل عواطف.
ـ لا أصدّقكِ... أنتِ بعيدة كل البعد عن المشاعر، يا أختي.
وعندما أخبرتُ زوجتي بالأمر، حزنَت كثيرًا لأنّها كانت تعدّ بيت الجبل جزءًا مِن تاريخ العائلة، ولطالما وعَدَت ابننا بأنّه سيسكن فيه يومًا كما فعَلَ أبوه مِن قبّله. وقالَت زوجتي شيئًا لفَتَ انتباهي: "ما بها أختكَ تذهب وتعود إلى ذلك البيت منذ ماتَت والدتكَ؟"
وتذكّرتُ أنّنا لم نعثر على مجوهرات والدتي ولكنّني لم أكترث للأمر. إعتقَدتُ أنّها باعَتها لأنّني لم أرَها تلبسها منذ فترة طويلة. وكانت تلك الحلى نادرة الوجود، لأنّها كانت ملك جدّتها ومِن ثم أمّها، وكانت تأتي مِن بلد مشهور بأحجاره الكريمة.
وعلِمتُ سبب اهتمام أختي بالبيت ومِن قبله بأمتعة أمّي. فهي لم تكن توضّب أمتعة والدتها بل تفتش عن المجوهرات. وعندما لم تجدها، ظنَّت أنّها موجودة في مكان آخر، كالحديقة أم في الحيطان نفسها.
وضحكتُ في سرّي، لأنّني لم أكن لأقبل أبدًا أن تأخذ أمال البيت وتبيعه عندما لا تجد فيه شيئًا. ووقفتُ بوجهها ودارَت بيننا محادثات عديدة بالمراسلة. كنتُ أعلم أنّها لا تستطيع فعل شيء مِن دون موافقتي، لِذا بقيتُ بارد الأعصاب.
وعَرَضَت عليّ أختي مبلغًا مِن المال إلا أنّني رفضتُ مِن جديد. وأمام إصراري هدأَت أخيرًا ولم تعد تزعجني.
ومرَّت الأشهر ومِن ثم السنة حين حصل شيء غير متوقع بتاتًا.
كنّا جالسين ذات ليلة أنا وزوجتي أمام التلفاز، وإذ بنا نسمع إبننا يصرخ بأعلى صوته:
ـ غير معقول! ماما! بابا! تعالا بسرعة!
ركضنا كالمجنونَين إلى غرفته، ووجدناه يحمل دبّه المحشوّ ويصرخ:
ـ جدّتي! جدّتي الحبيبة! أنظرا ما تركَت لي!
ونظرنا في ظهر الدب المشقوق، ورأينا المجوهرات تخرج منه ومعها رسالة قصيرة تقول:
ـ حفيدي الحبيب... لم أجد أفضل منكَ لأعطيه ما تبقّى لي مِن أيّام العزّ... لقد صَرَف أبوكَ عليّ كلّ ما يملك ولم يتذمّر ولو مرّة واحدة... بينما لم تشأ بناتي مساعدته... هديّتي إليكَ هي هديّتي لابن إبني الذي يتمتّع بقلب كبير، وأنا متأكّدة مِن أنّكَ وبفضل تربيتكَ الحسنة، ستصبح مثله لا بل أفضل منه... خذ هذه المجوهرات واصرفها على تعليمكَ لتصبح رجلاً ناجحًا ولا تحتاج إلى أحد يومًا... لقد خبّأتُها في هذا الدبّ لأنّني تذكّرتُ أنّكَ قلتَ لي إنّه أغلى ما عندكَ وإنّكَ لن ترميه يومًا بل ستعطيه بدوركَ إلى إبنكَ... وأنا بِدوري أهديكَ أغلى ما عندي... لا تنسَ جدّتكَ وأكرم أباكَ وأمّكَ يا حبيبي.
حاورته بولا جهشان