صحيحٌ أنّ والدي لم يكن الزوج المثاليّ لأمّي، لكنّني اعتقدتُ أنّه سيكون أبًا صالحًا وعادلاً، على الأقل معي، أي أنا إبنه البكر الذي لطالما حَلِمَ به وانتظَره. فالجدير بالذكر أنّ أبي تزوَّجَ في سنّ متأخّر، وذلك قبل فوات الأوان وليس عن حبّ. إختارَ أمّي لأنّها كانت قويّة البنية، أي قادرة على إنجاب أولاد أصحّاء، ولأنّها كانت ذات طبع هادئ ومطيع، وأيضًا لصغر سنّها وعدم خبرتها بالحياة. ومارَسَ أبي طغيانه باكرًا على زوجته ليسنّ القوانين التي عليها اتّباعها، كي يتّسنى له متابعة حياته على كَيفه.
علاقة والدي بي وبأخوَتي كانت باردة، معدومة مِن الحنان أو الرفق، وكان الأمر وكأنّنا أشخاص غرباء عنه يعيشون معه في البيت نفسه، فُرِضَ عليه الاهتمام بهم ماديًّا واجتماعيًّا. إلا أنّني لم أفقد الأمل بأن أرى يومًا في عَينَيه بصيص محبّة، على الأقل تجاهي. لِذا عمِلتُ جهدي لأكون كما أرادَني أن أكون، وألا أقترف أيّ خطأ قد يُعيدني إلى صفّ المغضوب عليهم. ولكن لم أنجح بالحصول على مرادي، الأمر الذي ولَّدَ في قلبي مرارة وشعورًا بالفشل والحيرة.
كبرنا ملتفّين حول أمنّا التي كانت بحاجة ماسّة إلى دعم، على الأقل معنويّ، وأعتقد أنّها كانت لولانا أنهَت حياتها مِن دون تردّد.
كرهتُ ذلك الرجل القاسي، ولكنّني أحبَبتُه أيضًا لأنّه كان مَن أعطاني الحياة، ووعَدتُ نفسي أن أظلّ أحاول استقطاب انتباهه وارضاءه قدر المستطاع.
تزوَّجَ جميع إخوَتي وبقيتُ أنا في البيت، أقوم بدور الإبن الصّالح الذي لا يترك والدَيه ويردّ لهما الجميل. لِذا، كنتُ أعطي أبي قسمًا كبيرًا مِن راتبي وأشتري له ما تطلبه نفسه. هل أثَّرَ به ذلك؟ أبدًا، فقد كان يعتبر ذلك طبيعيًّا وكأنّه دَين أوفيه له.
مرَّت السّنوات ووجدتُ فتاة أحلامي، وأرَدتُ طبعًا ربط مصيري بمصيرها، ولكنّني كنتُ أعلم بأنّها لن تتحمّل العيش في بيت يوجد فيه طاغٍ وضحيّة، وقرَّرتُ، على مضَض، شراء شقّة قريبة مِن والدَيَّ والسّكن فيها مع عروس المستقبل. ولأنّ راتبي لم يكن كافيًا لذلك، خاصّة مع المال الذي كنتُ أعطيه لأهلي، إضطرِرتُ لقبول عرض للعمل في الخارج لمدّة ثلاث سنوات. وافقَت حبيبتي على أن تنتظرني، لأنّها كانت تعلم أنّني مِن الذين لا يخافون العمل الشاق ولا يخونون ثقة الناس بهم.
سافَرتُ والدّمع في عَينَيَّ والأمل في قلبي، وبدأتُ أبعث لأبي ثمَن الأقساط الشهريّة للشقّة، إلى جانب المصروف العائليّ.
تعبتُ كثيرًا، وعمِلتُ ساعات إضافيّة لأتمكّن مِن العودة في الوقت المناسب والوفاء بوعدي للتي قَبِلَت انتظاري.
وبعد ثلاث سنوات ونيّف، عدتُ إلى بلدي مشتاقًا لأهله وترابه. وكم كانت خيبتي عظيمة عندما علِمتُ مِن أبي أنّه لم يدفع أقساط الشقّة بل أخَذَ المال لنفسه. صَرَختُ به:
ـ ماذا تقول؟!؟ إنّه تعَبي!
ـ بل تعَبي أنا! مَن أنجبَكَ وربّاك؟ مَن دفَعَ ثمن غذائكَ وملابسكَ وعلمكَ؟ مَن أمَّنَ لكَ سقفًا تعيش تحته؟
ـ أولاً لم أطلب مِن أحد أن يُنجبني، ثانيًا مِن واجبات الأهل أن يهتمّوا بأولادهم ويؤمّنوا لهم كلّ وسائل الراحة، وثالثًا لم أتأخّر يومًا عن تأدية واجباتي تجاهكما، فلطالما كنتُ إبنًا مطيعًا وخدومًا.
ـ لم يكن ذلك كافيًا... أخذتُ منكَ حقّي ولستُ نادمًا على ذلك.
ـ يا إلهي... يعني ذلك أنّني قضَيتُ ثلاث سنوات في الغربة سدىً؟
ـ لماذا تقول ذلك؟ لقد أعطَيت أباكَ جزءًا مِن حقّه.
ـ حقّكَ... أجل... قل لي، ما دمتَ تملك جميع الأجوبة، ماذا سأقول لخطيبتي؟ هل أتركها مِن أجلكَ أيضًا؟
ـ إجلبها إلى هنا! إسمع... إن تزوّجتَ وعشتَ هنا مع عروستكَ، سأعطيكَ قطعة مِن الأرض لتزرعها وتبيع محصولها... تعرف كم أنّ الأرض
خصبة هنا... بعد فترة قصيرة ستجني منها ما يُعوّض لكَ ثمن الشقّة.
لم أتوقّع أبدًا أن تقبل حبيبتي بالعيش في البيت العائليّ، خاصّة أنّها كانت تعلم كيف هو الجوّ هناك وتعلم أنّ أبي أخَذَ مالي. إلا أنّها فعلَت بذلك بسبب ضغط أهلها عليها، فلم يكن يجوز لها ألا تتزوّجني بعد أن انتظَرَتني لسنوات.
خفتُ كثيرًا على مصير زواجنا، لِذا بقيَت عَينايَ ساهرتَين لأستبق أيّ حدث قد يحمل زوجتي على تركي. لكنّ أبي بقيَ لطيفًا معها وسارَت الأمور بسلاسة.
لا أتكلّم كثيرًا عن أمّي، لأنّها وبكلّ بساطة كانت الحاضرة الغائبة، لا رأي لها ولا كلمة، تهتمّ بادارة المنزل فقط بعد أن فهمَت أنّ هذا هو دورها وليس أكثر.
ساعَدتني زوجتي على زرع قطعة الأرض، واعدة نفسها بأن ترحل معي بفضل ثمن المحصول إلى مكان حيث نتمكّن مِن عَيش حبّنا على سجّيتنا. فبالرّغم مِن لطافة والدي، كانت تشعر بالتوتّر الذي كان يسود بين سكان المنزل. أمّا مِن جهّتي، فحافظتُ على دوري كإبن محبّ، ولكنّني لم أكن مطمئنًّا لتغيّر طباع والدي.
وقبل موسم الحصاد بيوم واحد، تعرَّضَ أبي لحادث سقوط، ما استلزم نقله إلى المشفى. بقيتُ معه بينما لزمَت أمّي وزوجتي المنزل بانتظار العمّال المكلّفين بجمع المحصول. وفي اليوم التالي، عُدتُ إلى البيت مع المُصاب لأجد المرأتَين باكيتَين. ركضَت إليّ زوجتي قائلة:
ـ جاء العمال وقاموا بمهمّتهم ولكنّهم فرّوا بالمحصول... لم نستطع إيقافهم فقد كانوا يحملون العصيّ ويُهدّدون بضربنا... إختبأنا في البيت بانتظار قدومكما... يا إلهي، ماذا سنفعل الآن؟
شعَرتُ أنّ لأبي دخل بما حصل، فالتوقيت كان ممتازًا، خاصّة أنّ اصابته لم تكن بليغة ولم تكن تدعو للذهاب إلى المشفى. هل دبَّرَ الرجل مكيدة لسرقة محصولي ومالي؟ ولكن مِن دون دليل لم أكن قادرًا على اصدار التهم لذا ادَعَيتُ تصديق قصّة اللصوص وقرَّرتُ مراقبة والدي. فكان عليه قبض ثمن المحصول بطريقة أو بأخرى، وعندئذٍ سأتمكّن مِن معالجة الأمر.
مرَّت أيّام طويلة عشناها بين صوت بكاء زوجتي واستنكارها وأنين أبي الذي كان يُعاني مِن أوجاع حتمًا وهميّة. لِذا استدعى الطبيب إلى البيت قائلاً:
ـ لم يكن يجدر بي الخروج مِن المشفى ولكنّكَ كنتَ خائفًا مِن كبر الفاتورة... يا للإبن العقوق! سيأتي صديقي الطبيب ويُعالجني كما يجب وسأدفع أنا أتعابه!
صديقه الطبيب؟ أقسم أنّ ليس لأبي أصدقاء سوى البقّال واللحّام وبعض المزارعين.
دقّ رجل بابنا، ورأيتُه يدخل حاملاً حقيبة طبيّة ويطلب رؤية "المريض" على حدة. كنتُ قد قلتُ لزوجتي أن تأخذ أمّي وتذهب معها إلى منزل الجيران تحسّبًا لِما قد يحصل. سألتُ الطبيب لماذا لا يفحص والدي أمامي، فأجابَني أنّ ذلك هو البروتوكول المتّبع. ولكنّني أجبتُه: "لا بل سأساعدكَ، يا حضرة الطبيب... سألعب دور الممرّض، فلطالما حلِمتُ بذلك". وفور انتهائي مِن جملتي، فتحتُ الحقيبة وبدل أن أجد فيها سمّاعة وبعض الحقَن والعقاقير، رأيتُ رزمًا مِن المال. صَرَخ الطبيب المزعوم بي وانضمّ إليه أبي ولكنّني لم أردّ على أيّ منهما. إكتفَيتُ بالقول: "كم أنّ الطبّ تغيّر... بات الطبيب يُشفي مرضاه بالمال... أنا متأكّد مِن أنّني لو عددتُ تلك الرزم، سأجدها مطابقة لثمن المحصول... أشكركما على لطفكما، فلقد حصدتما الأرض وحمّلتما المحصول ونقلتماه وبعتماه عنّي، وأنتَ جئتَ لي بالمال شخصيًّا... يا للرّوعة!
خرجتُ بسرعة مِن البيت وقصدتُ بيت الجيران. أخذتُ بيد أمّي وزوجتي وركبنا السيّارة وقدتُ بهما بعيدًا. سألَتني زوجتي:
ـ وأمتعتنا؟
ـ سأشتري لكِ أفضل منها.
ـ بأيّ مال؟ فنحن مفلسون!
ـ لا بل أبي هو المفلس!
كادَ والدي أن يجنّ بعد أن أفشلتُ خطّته واستعدتُ حقّي وأخذتُ منه ضحيّته. حاوَلَ بشتّى الطرق إيجادنا ولكنّه لم ينجح بذلك.
قد يظنّ البعض أنّه مات مِن الوحدة والحزن والقهر، ولكنّه لم يفعل. فشرّه كان أفضل رفيق وعاش بصحبته سنين طويلة، وبمساعدة أخوَتي الماليّة له. أمّا أمّي، فعاشَت مكرّمة أخيرًا معي ومع زوجتي، وربَّت أولادي ورأتهم شبابًا.
حاورته بولا جهشان