كَم مِن مرّة نظنُّ أنّنا رأينا كافّة أصناف الناس، لنعودَ ونتفاجأ بهم! أتكلّم عن جارنا في المبنى، وهو رجُل جاء يسكنُ وزوجته... وبناته الستّ في الطابق الثاني. رحّبنا جميعًا بالقادمين الجدُد ثمّ نسينا أمرهم بسبب أشغال كلّ منّا. صحيح أنّني تكلّمتُ وزوجتي عن تلك البنات بسبب عددهنّ، ولأنّنا لَم نُحبّذ يومًا الإنجاب بكثرة، إلا أنّنا فهمنا أنّ جارنا وزوجته أرادا حتمًا إبنًا ولَم يتوقّفا عن المُحاولة إلى حين استوعبا أخيرًا أنّ ذلك لن يحصل. وكان سنّ تلك البنات يتراوحُ بين الثانية والعشرين والعشرة، وتتمتّعنَ بجمال لا بأس به ودرجة عِلم مقبولة وتربية حسنة. ومِن حسن حظهنّ أنّ أباهنّ رجُل مُقتدِر مادّيًّا، وإلا لاضطرِرنَ إلى العمَل للعَيش بكرامة.
مرَّت الأشهر ثمّ السنة مِن دون أن يحصُل أيّ شيء يُذكَر بالنسبة لجيراننا الجدُد، حتى أوقفَني صباحًا الأب، واسمه علاء، وأنا أنزل السلالِم للذهاب إلى عملي:
ـ مهلاً... أُريدُ أن أُكلّمكَ بموضوع مُهمّ.
ـ أنا آسف سيّد علاء، لكن عليّ الوصول إلى عمَلي وإلا تأخّرتُ.
ـ لن يأخذُ الأمر أكثر مِن دقائق معدودة... هيّا، أدخُل.
رافقتُ الرجل إلى شقّته، ورأيتُ زوجته وبناته الستّ جالسات في الصالون ومُرتديات كامل ملابسهنّ. قال الأب:
ـ إختَر إحداهنّ... أقصد مِن بين بناتي.
ـ أختار إحداهنّ؟ ولأيّ غرَض؟
ـ للزواج طبعًا!
ـ سيّد علاء، أنتَ تعرف أنّني مُتزوّج وأب لِولدَين.
ـ وإن يكن! يحقّ لكَ أن تتزوّج أربع نساء! أنصحُكَ بالبنتَين الأكبر سنًّا، الباقيات يافعات بالنسبة لكَ.
ـ أنتَ تمزح حتمًا! قُل لي إنّكَ تمزح! لن أُخبِرَ زوجتي بالأمر وإلا لأحدثَت لكم فضيحة!
ـ بل العكس. عليّ تزويج بناتي وما أكثرهنّ! وبما أنّكَ مِن بين كلّ الجيران الذكور الأكثر خلقًا وجدّيّة، فكّرتُ بكَ أوّلاً. أنظُر إلى جمال ابنتي الكبرى... هي طاهية مُمتازة. شيرين، قولي لِجارنا كلّ ما تُحسنين القيام به، هيّا، لا تخجلي منه، فهو سيصبحُ زوجكِ.
عندها أوقفتُ الرجُل عن الكلام، وشيرين عن سَرد سيرتها الذاتيّة صارخًا:
ـ أنتم مجانين! أحبُّ زوجتي ولا أُريدُ سواها! وهذه ليست طريقة "للتخلّص" مِن بناتكَ. أيّ أب أنتَ؟!؟ عليكَ أن تخجلَ مِن نفسكَ!
وتركتُ دارهم للذهاب إلى عَملي وقلبي مليء بالغضب. قضَيتُ نهاري أسألُ نفسي إن كان ما حصَل حقيقة، ثمّ عدتُ إلى بيتي. وبالطبع لَم أقُل شيئًا لزوجتي، فكان مِن الواضح أنّ هؤلاء القوم يُعانون مِن مُشكلة عقليّة.
بعد أيّام، وصلَتني إلى هاتفي رسالة تقول: "ماذا قرّرتَ؟ أيّة واحدة تُريد؟ لا تُطِل في الإجابة وإلا أضَعتَ فرصة لا تُعوّض. بناتي بتصرّفكَ." ركضتُ أدقُّ باب علاء وصرختُ فيه بكلّ قوّتي:
- هل ستتركني وشأني أيّها المخبول؟!؟ قلتُ لكَ إنّني لا أُريدُ سوى زوجتي! وإن لَم تهدأ، فسأطلبُ لكَ الشرطة!
لَم يُجِب الرجُل بل بقيَ ينظرُ إليّ بإمعان. لَم أعرِف حينها أنّه بدأ يُفكّر بوسيلة أخرى للوصول إلى مُبتغاه. وسيلة شرّيرة للغاية!
بعد ذلك، لَم أسمَع مِن علاء أو ألتقِ به على الإطلاق، وكذلك زوجته وبناته... إلى حين عدتُ يومًا إلى البيت مساءً ووجدتُ شيرين، الابنة الكبيرة، جالسة في صالوننا مع زوجتي! نظرتُ إلى الصبيّة بغضب وسألتُها بجدّيّة ما تفعله عندنا، فأجابَت عنها زوجتي قائلة:
- إنّها أتَت لزيارتي... لِما هذا الجفاء يا حبيبي؟ ليس مِن عادتنا مُعاملة الزوّار هكذا.
رحتُ إلى غرفتي كي لا أبدأ بالصراخ على المُتطفِّلة. شيء بداخلي قال لي إنّ هؤلاء الناس لن يتركونا بسلام، فقرّرتُ إيجاد طريقة لِحَمل سكّان المبنى على طردهم... لِذا بدأتُ جسّ النبض لدى جيراني، إلا أنّ الكلّ كان ممنونًا مِن علاء وعائلته الكبيرة وليس لدَيه أيّ مأخذ ضدّهم.
مرّة أخرى، لَم أجِد زوجتي في البيت وحين اتّصلتُ بها، وجدتُها عند علاء وقبيلته تشربُ الشاي معهم. أمرتُها بالعودة إلى البيت في الحال! وحين عادَت، كانت غاضبة جدًّا منّي ومِن تصرّفي غير المقبول، وسألَتني لماذا أكرَه هؤلاء الناس لهذه الدرجة. كِدتُ أقول لها عن السبب، إلا أنّني سكتُّ. فزوّجتي قويّة الشخصيّة، وخفتُ أن تفتعِل مشكلاً كبيرًا قد يتحوّل إلى فضيحة أو قضيّة. خلتُ أنّني أستطيع السيطرة على الوضع، إلا أنّني لَم أكن أعلَم بعد مدى مكر علاء... وشيرين. فتلك الصبيّة التي اعتقدتُها بريئة وضحيّة جنون أبيها، كانت بالفعل تُريدُني وبأيّة وسيلة.
فذات يوم، وجدتُ شيرين عندنا تبكي بحرارة، وزوجتي بالقرب منها تنظرُ إليها بمزيج مِن الشفقة والغضب. وقبل أن يتسنّى لي السؤال عمّا يجري، قالَت لي زوجتي وصوتها يرتجِف:
ـ لن تنام في البيت الليلة، هيّا، إجمَع أمتعتكَ وارحل!
ـ ماذا؟!؟ هل فقدتِ عقلكِ؟ ما الأمر؟
ـ ما الأمر؟!؟ تحتال على فتاة بريئة وتُجبرها على الاستسلام لكَ أيّها القذِر؟!؟ ماذا ينقصُكَ معي؟ أجِبني! تبًا لكَ!
ـ إنّها تكذِب! لَم ألمسها، لا بل لَم أتبادَل معها يومًا كلمة واحدة! إنّها مكيدة دنيئة حاكَها أبوها، فهو يُريدُني أن أتزوّج إحدى بناته!
ـ وتخالُني سأُصدّق هذه القصّة الخرافيّة؟
ـ إنّهم مجانين! أقسمُ لكِ...
ـ قسَم الكاذب لا قيمة له. إرحَل أرجوكَ.
ثمّ نظرَت شيرين إليّ بحبّ وعَينَاها تدمَعان:
ـ لقد وعدتَني بالزواج يا حبيبي... لذلك قبلتُ أن... أن أُسلّمكَ نفسي. ماذا تُريدُني أن أفعل الآن بعد أن تلّطخَ شرَفي؟ سيقتلُنا أبي ليغسل العار!
أردتُ صفع تلك الفاسقة، لكنّني تداركتُ الأمر وإلا لوجدتُ نفسي في قسم الشرطة. أخذتُ بعض الملابس وخرجتُ مِن البيت قائلاً لزوجتي:
ـ أنا بريء، صدّقيني. هل كذبتُ ولو مرّة عليكِ؟ هل غبتُ عن البيت مِن دون سبب مُقنِع؟ فكّري بالأمر أرجوكِ، فلا يجوز أن تُصدّقي أوّل إنسان يحكي لكِ كذبة وتتناسين سنوات زواجنا وحبّنا. لستُ غاضبًا منكِ لأنّ هؤلاء الناس ماكرون ولا يتراجعون عن شيء لنَيل مُبتغاهم. هل يظنّون أنّني سأتزوّج إحداهنّ لو تركتِني؟ فالموت أفضل!
رحتُ حزينًا أنام في الفندق وأبكي لوحدي على ما آلَت إليه الظروف. ثمّ نمتُ نومًا عميقًا لكثرة تعَبي مِن البكاء والتفكير. في الصباح، رحتُ إلى عمَلي كالمُعتاد، إلا أنّني قمتُ بوظيفتي كالرجُل الآليّ لأعودَ مساءً إلى الفندق. لَم أتّصل بزوجتي، فأردتُ إعطاءها فرصة لتُراجع نفسها، وأيّ قرار قد تتّخذه بحقّي وبحقّ زواجنا. يا إلهي... لماذا جاء علاء وعائلته إلى مبنانا؟ ليخرِبَ عليّ سعادتي؟ تبًّا له! بدأتُ أفكّرُ بحياتي بعد أن تطلُب زوجتي الطلاق وتُبعِدُ عني ولدَينا، فوجدتُ أمامي طريقًا مسدودًا. يا لَيتني أخبرتُ زوجتي بمشروع علاء لكانت صدَّت تلك الكاذبة شيرين وتفادَينا الانفصال.
مضى على خروجي مِن البيت أيّام، وإذ بي أتفاجأ برسالة هاتفيّة مِن زوجتي تقول لي فيها:
ـ عُد إلى البيت.
لَم أصدّق عَينَيَّ، فأخذتُ إجازة مِن عملي وركضتُ إلى عائلتي. وجدتُ زوجتي بانتظاري لكنّ ولدَيّ كانا في المدرسة. عانقَتني حبيبة قلبي وهمسَت في أذنيّ:
- أنا آسفة... تعالَ لأخبرُكَ ما حصل.
أجلسَتني زوجتي على أريكة الصالون وأمسكَت بيدَيّ وقالَت:
ـ صحيح أنّني غضبتُ منكَ إلى أقصى درجة بعد أن قالَت لي شيرين كيف استدرجتَها لإقامة علاقة معها، ومِن ثمّ طردتُكَ مِن البيت، إلا أنّ ما قُلتَه لي قبل رحيلكَ عن صدقكَ الدائم والتزامكَ الذي لا غبار عليه، قد علِقَ في ذهني وبدأ يشغلُني. فهل يُعقَل أن يقوم فجأة رجُل بنزاهتكَ بعمل بهذه القذارة، وبمكر لا يملكُه سوى الغشّاشين المُحترفين؟ والجواب كان لا. لِذا رحتُ أزورُ يوميًّا علاء وعائلته كعربون تضامن لِما حصَلَ لشيرين، إلى أن ارتاحوا لوجودي وصدّقوا نواياي. فلقد عبّرتُ أمامهم عن مدى إستيائي منكَ ونيّتي بطلَب الطلاق لأتخلّصَ منكَ إلى الأبد. وبعد بضع أيّام، بينما كنتُ عندهم، صدَفَ أن بقيتُ لدقائق قليلة مع الابنة الصغيرة. وتعرفُني كَم أُجيدُ، بفضل تربيَتي لولدَينا، التحدّث مع الصغار ومعرفة ما يُخبّؤونه. لِذا أخذتُ أسألُها أسئلة بريئة في البدء عن مدرستها وأصدقائها ولعَبها... ثمّ انتقلتُ إلى الموضوع الذي يهمّني. فسألتُها إن كانت تُحبّكَ فأجابَت: "لا... فهو أغضَبَ أبي كثيرًا وأمّي أيضًا يوم بدأ يصرخُ أنّنا مجانين لأنّ البابا عرضَ عليه الزواج مِن شيرين. شيرين هي التي هدّأت مِن روع والدَينا، حين قالَت لهما إنّها تعرفُ وسيلة لإجبار جارنا على الزواج منها. لا أحبُّه على الإطلاق فصوته عالٍ جدًّا!". وعدتُ الصغيرة أنّني لن أُخبرَ أحدًا بالذي قالَته لي وتركتُ بيتهم بسرعة. أنا آسفة لكن ردّة فعلي كانت في مكانها.
تشاورتُ وزوجتي عن الطريقة الأنسَب للتخلّص مِن جيراننا، وهي قالَت:
- أترك الأمر لي. تعال معي لكن لا تتفوّه بكلمة واحدة، مفهوم؟
دقَّينا باب جيراننا وفتَحَ علاء لنا، فقالَت له حبيبة قلبي:
ـ إسمَع... ستأخذُ عائلتكَ وترحل مِن هنا صباحًا، وإلا إشتكَيتُ عليكم جميعًا. هل تعرفُ ما سيحصل؟ ستطلبُ المحكمة مِن طبيب شرعيّ أن يفحصَ ابنتكَ ليعرف الفاعل، هذا إن كانت شيرين غير بتول طبعًا. فتكون كلمتها ضد كلمة زوجي، وسأقفُ في صفّه ضدّكم وأشهدُ بالذي أعرفُه عنكم. إضافة إلى ذلك، ستتلطَّخ سمعة ابنتكَ البكر، الأمر الذي سيُؤثّر على بناتكَ جميعًا ولن تتزوّج أيٌّ منهنّ. وفي آخر المطاف، مِن أجل تزويج واحدة، ستبقى الباقيات عازبات. ما رأيكَ؟
رحَلَ علاء مع عائلته في الصباح مع حقائبهم، ثمّ هو عادَ مع شاحنة لأخذ الأثاث، ولَم نسمَع منهم بعد ذلك. آه... لولا حنكة زوجتي لصرتُ رجُلاً مُطلّقًا وتعيسًا ومظلومًا! صحيح أنّ هناك مجانين مِن حولنا... فإحترسوا!
حاورته بولا جهشان