تُهمة باطِلة

كان قد إطمأنّ بالي على ليلى أختي الكُبرى، حين وجدَت عمَلاً كمُمرّضة، خاصّة لدى هؤلاء الناس، فهي كانت قد تخطَّت الستّين مِن عمرها وباتَ سوق العمَل يرفضُها بسبب سنّها. هي لَم تتزوّج لكنّها عرِفَت الحبّ يومًا، إلا أنّها أخطأت الاختيار وتركَها خطيبها قبل الزفاف بقليل ليُهاجِر مِن دون عودة. فكانت الصدمة عليها قاسية للغاية، وأقسمَت ليلى ألا تُعطي قلبها لأحد بعد ذلك. خفتُ عليها كثيرًا، خاصّة بعدما تزوّجتُ وأنجَبتُ فلَم يعُد لي الوقت للتواجد معها في بيت أهلنا المُتوفَّين. عمِلَت ليلى في بعض المُستشفيات قبل أن تُقرِّر التقاعد. وذات يوم قرأَت إعلانًا يطلبُ مُمرّضة خاصّة لرجُل مُسِنّ، وتمَّت الموافقة عليها، وبذلك لَم تعُد وحيدة إذ كان عليها العَيش مع تلك العائلة على مدار السنة.

زرتُ أختي مرّات عديدة في مكان عملها، وتعرّفتُ إلى العجوز وابنه وكنّته وولدَيهما ووجدتُهم جميعًا لطفاء. كان مِن الواضح أنّ أوضاعهم ميسورة وإلا لَما استطاعوا إقتناء بيت بهذا الكبر والجمال، أو حتى دفع أجر كبير لمُمرّضة خاصّة. وكنتُ على حقّ، فكانت ليلى أكثر مِن ممنونة مِن عمَلها لدَيهم، خاصّة بعدما نمَت ثقة كبيرة بينها وبين العجوز.

تابعتُ حياتي الزوجيّة والاجتماعيّة بهناء، لكنّ الأمور حيث هي ليلى كانت ستأخذُ مُنعطفًا غير مُتوقّع: أرادَ العجوز الزواج مِن أختي بعدما وقَعَ في حبّها وباتَ لا يتصوّر الحياة مِن دونها. وأعترفُ أنّ شعورًا مُختلطًا إنتابَني لدى سماع الخبَر مِن ليلى. فمِن ناحية كانت أختي ستتزوّج أخيرًا ومِن رجُل ميسور، لكن مِن ناحية أخرى هو كان عجوزًا ومريضًا. فأيّ حياة زوجيّة كانت تنتظرُ شقيقتي؟ إلا أنّني أعربتُ لها عن فرَحي وتمنَّيتُ لها التوفيق والحياة السعيدة.

لكن بعد أقلّ مِن أسبوع، تلقَّيتُ مذعورة إتّصالاً مِن الشرطة مفاده أنّ ليلى موجودة لدَيهم بتُهمة السرقة!

ركضتُ بسرعة إلى القسم برفقة زوجي، وسألتُ المُحقّق مئة سؤال وما قالَه لي كان غير معقول: فلقد اتّهمَت العائلة التي تعمَل لدَيها أختي بأنّها سرقَت مجوهرات ومالاً مِن المنزل وقد وجدوها مُخبّأة تحت فراشها! وبالطبع لَم أُصدِّق أبدًا الخبَر، أوّلاً لأنّ ليلى لن تفعل شيئًا كهذا على الاطلاق فهي أنزَه مخلوقة عرفتُها، وثانيًا لأنّها كانت ستصبح ثريّة بسبب زواجها مِن العجوز، فما حاجتها للسرقة؟ أطلعتُ المُحقّق على كلّ ما يدورُ في بالي، وهو قال لي إنّ أختي ذكرَت أيضًا له أمر زواجها القريب، لكنّ إبن وكنّة العجوز أنكرا بشدّة موضوع ذلك الزواج. عندها قلتُ له:" إسأل صاحِب الشأن إذًا!"

لكنّ الشرطة لَم تستطِع سؤال العجوز شيئًا على الاطلاق بسبب حالته الشبيهة بالغيبوبة مِن كثرة الأدوية التي يأخذُها. شبه غيبوبة؟ أدوية؟ لَم أرَ الرجُل في هكذا حالة حين زرتُه مرّات عديدة، ولَم تذكُر ليلى أبدًا أنّه يأخذُ أقراصًا تجعلُه ينام أو يفقُد قدرته على الكلام. مرّة أخرى أطلعتُ المُحقّق على تلك النقطة المُهمّة، وهو وعدَني بأنّه سيفعل جهده لتقصّي الأمر.

يا إلهي، ما هذه المُصيبة؟!؟ كيف تجِدُ أختي نفسها مُتهّمة هكذا؟ لحسن حظّها، أُخلِيَ سبيلها بكفالة لأنّ تلك جنحتها الأولى، ولأنّني تكفّلتُ بأخذها إلى بيتي بإنتظار المُحاكمة. ومِن تلك اللحظة، عِملتُ كلّ ما بوسعي لتبيان الحقيقة وإنقاذ أختي العزيزة مِن السجن والعار.

جلستُ مع ليلى بعد أن هدأَت واستقرَّت في الغرفة التي خصّصتُها لها، وبدأتُ أسألها عن كلّ الذي بإمكانه أن يُعتبَر دليلاً على براءتها. هل علِمَ أحدٌ غير الابن والكنّة بمسألة الزواج؟ هل لدَيها دليل ولو صغير على مشاعر العجوز لها ونواياه تجاهها؟ هل شعرَت بأنّ شيئًا يُحاك ضدّها؟ هل ظهَرَ أيّ امتعاض على أفراد تلك العائلة؟

عندها أجابَت ليلى:

 

ـ أبقَينا موضوع الزواج ضمن العائلة عند طلَب الإبن. فهو قال إن سنّ أبيه للزواج مُجدّدًا قد يُحدِثُ بلبلة لدى الأقارب والأصدقاء، وإنّ الأمر سيكون مقبولاً أكثر بعد أن يتمّ عقد القران. حجّته هذه كانت منطقيّة ولَم أجِد سببًا لعدَم تصديقها. فهكذا هم الناس، يُحبّون الثرثرة وإعطاء التفسيرات كما يحلو لهم، وأنا بِغنى عن الأقاويل، وأحبّ الهدوء والخصوصيّة. مِن ناحية أخرى، عدَم البوح بمشروع الزواج أعطى طابعًا رومانسيًا لعلاقتنا.

 

ـ هل أحبَبتِه حقًّا يا أختي؟

 

ـ أجل، لكن ليس كما يُحبّ مَن هم الأصغر منّا سنًّا، فحبّنا هو ما يربطُ شخصَين وجَدا في الآخَر رفيقًا وسنَدًا.

 

ـ أفهمُكِ تمامًا. وماذا عن موضوع السرقة؟

 

ـ إستفَقتُ في ذلك اليوم كما في أيّ يوم آخَر، ورحتُ المطبخ لأُحضّر الفطور لحبيبي، وإذ بي أسمعُ صرخة قادمة مِن غرفتي. عندها وجدتُ الابن وزوجته وبِيَدَيهما حلىً وغرفتي مقلوبة رأسًا على عقَب. صرَخا بي أنّني سارقة قذِرة، وقَبل أن أفهَم ما يحصل كانا قد طلَبا الشرطة. توسّلتُهما أن يتراجعا لأنّني بريئة، فقالَ لي الابن إنّني سأمضي سنوات في السجن يكون أبوه قد ماتَ خلالها، فتتسنّى له ولعائلته الفرصة أن يرثا ما يعودُ إليهم شرعًا. فلن يدَعوا أحدًا يقطفُ ثمار ما إنتظروه لسنوات. أكّدتُ له أنّني لا أُريدُ أبدًا تجريد أحد مِن ميراثه، وأنّني مُستعدّة للتنازل عمّا قد يُعطيه لي حبيبي، لكن سرعان ما أتَت الشرطة وأخذَتني. يا إلهي... ماذا سيحدثُ لي الآن؟ الوحيد الذي بإمكانه مُساعدتي ليس صاحيًا فهم يعطوه المنّومات والمُسكّنات ليبقى غائبًا عن الوعي ولا يُفضَح أمرهم.

 

ـ لا بدّ أن يكون هناك مِن حلّ.

 

والحلّ الوحيد كان لدى المُحقّق، فلقد لاحظتُ لدَيه نيّة ولو خفيّة بُمساعدتي. لِذا قصدتُه وقلتُ له:

 

ـ إنّهم يُبقون العجوز نائمًا عن قصد.

 

ـ إنّه هرِم وبحاجة إلى أدويته يا سيّدتي.

 

ـ هذا ليس صحيحًا! تلك ليست أدويَته! فهو لطالما كان صاحيًا ويمتلكُ قدراته! إسمَع يا حضرة المُحقّق... لِما لا تتّصل بطبيبه المُعالِج وتسأله عن كلّ تلك الأقراص؟ أنا مُتأكّدة مِن أنّ شهادته ستُبرّئ أختي.

 

أخَذَ المُحقّق هاتفه على الفور، وبعد أن بحثَ عن رقم الطبيب إتّصَل به واضعًا إيّاه على مُكبّر الصوت. وهذا كان جوابه:

 

ـ أجل، لقد وصفتُ لمريضي المُهدّئات والمنوّمات، فحالتُه الصحّيّة تولّدُ له أوجاعًا رهيبة. إنّه عجوز ويحقّ له أن يرحَل عن هذه الدنيا بسلام.

 

ـ حسنًا دكتور... سأحتاجُ إلى إفادة خطّيّة منكَ مع ذكر جميع الأدوية التي تكلّمتَ عنها الآن.

 

ـ إفادة خطّيّة؟ ولِما؟ لقد سمِعتُ أنّكَ تُحقّق بمسألة سرقة حلى... ما دخل صحّة مريضي بالموضوع.

 

ـ هذا شأني دكتور، ووحدي أُقرِّرُ ما هو مُفيد للتحقيق. هل أقولُ لكَ كيف تُداوي مرضاكَ؟ تفضّل إلى القسم غدًا صباحًا لننتهي مِن مسألة الإفادة الطبيّة.

 

عندما أقفَلَ المُحقّق الخطّ صرختُ عاليًا: "إنّه يكذِب! إنّه يكذِب!".

لَم يقصد الطبيب القسم في اليوم التالي بحجّة أنّ عمله أخذَه إلى منطقة بعيدة ولعدّة أيّام. خفتُ كثيرًا أن يكون الطبيب مُتواطئًا وألا يعترِف بالحقيقة بعد أن وعدَه الابن حتمًا بقسم مِن الميراث. الميراث... ماذا لو قرّروا جميعًا التخلّص مِن العجوز وبسرعة؟!؟

بكَت ليلى حين أطلعتُها على ما قالَه الطبيب للمُحقّق، فهي تصوّرَت نفسها وراء القضبان مُحاطة بالمُجرمات والقاتلات، وفعلتُ جهدي لمواساتها قائلة لها: "الله إلى جانب المظلومين وسينصرُكِ حتمًا".

ولَم أكن مُخطئة، فالمُحقّق كان قد أجرى تحرّيّاته لدى جيران وأقارب مُستخدميّ أختي، وكلّهم أفادوا بأنّ العجوز كان دائمًا صاحيًا وواعيًا بالأخصّ بعد أن عيّنوا له مُمرّضة خاصّة، أيّ أختي. عندها بعَثَ رجاله ليأتوا له بالطبيب أينما كان. وعند وصوله القسم، إعترفَ ذلك الطبيب بسرعة بكذبه بشأن الأدوية. أُرسِلَت سيّارة إسعاف على الفور إلى العجوز، ونُقِلَ إلى المشفى حيث استعادَ وعيَه بعد يوم واحد واستطاعَ تأكيد خبَر زواجه مِن أختي. عندها سقَطَ الدافع، أيّ حاجة ليلى لسرقة المجوهرات والمال لأنّها ستكون ثريّة بعد عقد قرانها.

لَم نعرِف بالذي كان يجري في القسم، لِذا بقيَت أعصابي وأختي مشدودة إلى أن تلقَّينا إتّصالاً مِن المُحقّق مفاده أنّ التُهمة أسقِطَت. ويا لِفرحنا! ركضَت ليلى إلى المشفى لترى حبيبها، وذرفا سويًّا الدموع بعد ان فهِمَ الرجُل ما حصل، فهو كان غائبًا عن الوعي طوال الوقت. إلا أنّه توسَّل أختي أن تُسقِطَ حقّها ضدّ ابنه وكنّته، ووعدَها بأنّهما سينتقلان للعَيش سويًّا وبعيدًا. إستشارَتني أختي فوافقتُ العجوز رأيه، فلَم يكن مِن الصائب أن تكون زوجته المُستقبليّة سبب سجن إبنه. لكنّ العدالة أبقَت تُهمتَي الادّعاء زورًا ومُحاولة التخدير قائمتَين، وحُكِمَ على الابن والكنّة بالسجن مع وقف التنفيذ شرط ألا يقتربا مِن أختي أو الأب على الاطلاق وإلا نُفِّذَ الحكم فيهما.

 

حضَرتُ وعائلتي عقد قِران أختي العزيزة، وبارَكنا لها ولزوجها بالبيت الجديد. عاشَت ليلى بضع سنوات سعيدة مع زوجها قَبل أن يتوفّى بسبب سوء صحّته وسنّه. لكنّها كانت قد ذاقَت طعم الحبّ الحقيقيّ والصافيّ أخيرًا. ورِثَ الابن حصّته وكذلك أختي، لكنّ المال لَم يكن هدفها على الاطلاق، على عكس ذلك الماكِر وزوجته.

عندما أُفكِّر إلى أيّ مدى يصلُ الانسان مِن أجل المال يقشعرُّ بدَني. فليلى كادَت أن تُسجَن وقد يكون العجوز قد قضى قتلاً، مَن يدري؟ يا إلهي... أين ضمير الناس؟ أين إيمانهم وخوفهم مِن الله؟ يا رب ستركَ!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button