توبَتي عرَّضَتني للخطَر

تركتُ المنزل العائليّ بسبب أوضاع البلَد الأمنيّة، فكنتُ آنذاك مُراهِقًا مليئًا بالحماس والعنفوان، وخافَ والدايَ أن أنخرِطَ في الذي كان يحصلُ فأسرَعا بإرسالي إلى أقاربنا في الولايات المُتّحدة. غضبتُ كثيرًا منهما، فاعتبَرتُ أنّهما يتخلّصان منّي وأنّهما يُبعداني عن قلب الحدَث حيث كان عليّ أن أكون.

إتّضَحَ أنّني مُراهق صعب، فاحتارَ أقاربنا لكيفيّة التعامل معي وطلبوا مِن ذويّ إستعادَتي. لكنّني بقيتُ عندهم بعد أن أشتدَّت الأوضاع في البلد واستحالَت عودتي.

سرعان ما فضّلتُ البقاء في الشارع بدلاً مِن الجلوس على مقاعِد الدراسة، بعد أن صاحبتُ شبّانًا لا منفعة لهم ومنهم، فوجدتُ أنّ معشرهم أكثر تسلية بكثير. لكنّ هؤلاء كانوا بحاجة إلى المال ليصرفوه على ملاذهم ولَم تكن هناك وسيلة لذلك سوى السرقة. فليكُن! نسيتُ بلحظة كلّ تعاليم أهلي مِن حيث القيَم والأخلاق، ومشيتُ على درب الرذيلة بسهولة فائقة، بل باندفاع جعلَني أشعرُ وكأنّني صرتُ رجُلاً وليس مُراهقًا. أخفَيتُ ما وضعتُ يدي عليه عن أقاربي، وهم اعتقدوا أنّني أذهبُ يوميًّا إلى المدرسة.

إستمرَّ الوضع على حاله إلى حين جاءَ الوقت لدخول الجامعة، فقرّرتُ عدَم الكذب على الذين استقبلوني في دراهم بعد ذلك بل العَيش لوحدي أو بالأحرى مع صديقَين في شقّة إستأجرناها في وسط المدينة حيث يأتوا السوّاح لنستطيع نشلهم والاستفادة منهم.

ثمّ صرنا نسرقُ السيّارات بكسر زجاجها وتشغيلها يدويًّا، كما تعلّمنا مِن الشخص الذي لقَبه "المُعلِّم"، وهو كان يأخذُ منّا الغنيمة مقابل مبلغ مِن المال ويبيعُها لعصابة كبيرة محليّة وعالميّة. كنتُ سعيدًا وأنا مُحاط بالذين يُشبهوني، نقضي وقتنا بالشرب ومعاشرة النساء.

لكن لكلّ شيء نهاية، وانتهى بي المطاف وصديقَيَّ وراء القضبان بعد أن ضحّى بنا "المُعلِّم" لينقذَ جلده. لَم تكن المدّة طويلة لأنّها كانت جنحتي الأولى، وكنتُ أنتظرُ خروجي بفارغ الصبر لأُعاودَ ما كنتُ أفعلهُ، لكن هذه المرّة بحذَر. لَم يُطلِع أقاربي أهلي على أنّني محبوس لتجنيبهم الحزن والقلق، لكنّهم منَعوني مِن الاقتراب منهم بعد خروجي. لَم يهمّني الأمر طبعًا، فلماذا أُريدهم؟

وأثناء قضاء حكمي في السجن حصَلَ لي شيء لَم أتوقّعه أبدًا: تغيّرَت حياتي. فوسط المجرمين على اختلاف أنواعهم، تعرّفتُ إلى الله مِن خلال مُرشِد دينيّ كان يزورُ السجناء ليُعطيهم بعض الرجاء والأمل والراحة الروحيّة. في البدء لَم أكترِث للأمر، فلَم أحصُل يومًا على أيّ توجيه دينيّ بما للكلمة مِن معنى بل مبادئ عامة فارغة مِن أيّ معنى. لكن مع ذلك الرجُل الطيّب صرتُ أرى مِن خلاله وخلال كلامه كيف عليّ أن أكون، وكيف أنّني كنتُ أمشي على طريق الخطيئة والرذيلة. بعد فترة، بدأتُ أنتظرُ مجيء ذلك المُرشِد بتشّوق لأسأله مئة سؤال، وأحصلُ منه على الأجوبة التي كانت تفتحُ في كلّ مرّة أبوابًا جديدة أمامي. لَم أعُد أحبُّ الجلوس كالسابق مع السارقين والمُحتالين لأتعلّم منهم حِيَلاً جديدة لاستعمالها عند خروجي، بل أتوقُ لكلام الله وتعاليمه. وعند اقتراب موعد خروجي، أصبحتُ رجُلاً مُختلفًا يُصلّي بحرارة ويطلُبُ بركة الخالق في كلّ خطوة وفكرة.

إنتظرَني أعضاء العصابة عند بوّابة السجن وتبادَلنا السلامات والمُعانقات، وهم وعَدوني بأنّ "المُعلِّم" سيُعوّضَ لي عمّا مرَرتُ به بشكل مُكافآت ماليّة ومُهمّات جديدة ستدرُّ عليّ المال الوفير. هزَزتُ برأسي وكأنّني مسرور لسماع ذلك، إلا أنّني كنتُ قد قرّرتُ أن أتوقّف عن تلك المُمارسات وإيجاد عمَل شريف وبناء يومًا عائلة صغيرة ومؤمِنة. لكنّ الأمور لَم تكن بتلك البساطة، كما كنتُ سأكتشِفُ لاحقًا.

خرَجَ صديقايَ بدورهما مِن السجن، وعُدنا نسكنُ سويًّا كالسابق بانتطار التعليمات الجديدة. إلا أنّهما لاحظا تغيّرًا جذريًّا لدَيَّ، فردَدتُ الأمر أمامهما إلى الصدمة التي تلقَّيتُها عند توقيفي وقضاء حكمي. فلَم يكن قد حانَ الوقت لأترُك العصابة بسبب عدَم جهوزيّتي. وعند موعد تنفيذنا مُهمّتنا الأولى، ادّعَيتُ المرَض فنُفِّذَت مِن دوني. لكن كَم مِن الأعذار سأجِدُ قَبل أن ينتبهوا للأمر؟ حياتي كانت بخطر إذ أنّ ترك تلك العصابة كان بمثابة حكم بالإعدام.

رآني أحَد صديقَيَّ يومًا وأنا أصلّي بينما كان يُناديني لتناول الخمر، فتفاجأ بي. لَم يقُل شيئًا بل انتظرَني في الصالون مهمومًا. ثمّ هو قدَّم لي الكحول ليرى ردّة فعلي، فرفضتُها بسبب وعكة صحّيّة مزعومة. لَم يُصدّقني بل قال:

 

ـ ماذا حدَثَ لكَ في السجن؟

 

ـ وجدتُ الله. ماذا ستفعل الآن؟ هل ستشي بي؟

 

ـ لستُ أدري. كيف وجدتَ الله؟ أين كان؟

 

ـ هو دائمًا موجود لكنّنا لا نراه حين نقومُ بأعمالنا الرذيلة. وحين نجدُه، نجِدُ أيضًا السلام الداخليّ وهدفًا لحياتنا. إسمَع، لَم أعُد أريدُ القيام بتلك الأعمال، فالمال الذي نصرفُه على أنفسنا هو حرام، لكنّني خائف مِن ردّة فعل "المُعلِّم".

 

ـ سيقتلُكَ حتمًا.

 

ـ لن أقولَ شيئًا لأحد عن أعمالنا، كلّ ما أُريدُه هو الرحيل والعَيش مثل باقي الناس. هل أنتَ سعيد هكذا؟ هل أنّ حياتكَ تُرضيكَ؟

 

ـ للحقيقة لا، لكنّ الإثارة لها طعمًا خاصًّا.

 

ـ وحين تزولُ تلك الإثارة؟

 

ـ تعودُ المرارة وأُفكّرُ بأمّي التي خذَلتُها بعد أن صارَت تستحي منّي أمام الناس.

 

ـ أُريدُ أن أعودَ إلى بلدَي وإلى أهلي الذين أرسلوني إلى هنا لتجنيبي المشاكل. أُريدُ أن يفتخروا بي أخيرًا. ساعدني على الهروب مِن هنا، أرجوكَ.

 

تطلَّبَ نجاح خطّة هروبي أشهر طويلة وصعبة قمتُ خلالها بعمليّات سرقة على مضَض فقط لإبعاد الشبهات عنّي. ثمّ سافَرتُ مِن دون أن يدري أحد بالأمر، حتى صديقي، لأنّني لَم أرِد إقحامه برحيلي كَي لا يقتصّوا منه بدلاً منّي. وحين وطأت قدَمي أرض بلادي شعرتُ براحة لا مثيل لها: كنتُ قد عدتُ إلى مسقط رأسي وإلى أهلي.

أغرَقتُ أهلي بالهدايا والمال، فلَم يسألوا أسئلة كثيرة، وجلتُ على الأعمال لأجِد ما يُناسبُني حتى أبدأ حياة "عاديّة". ولَم يطُل بقائي مِن دون عمَل. كنتُ سعيدًا أن أجني المال بعرَق جبيني وفخورًا بنفسي. لَم أنسَ المُرشِد الديني أبدًا، بل بقيَ وكلامه في ذهني يوميًّا وخاصّة حين كنتُ أتذكّر أيّامي في الولايات المُتّحدة. أبعَدتُ الأفكار الشيطانيّة عن ذهني لأسبدلُهما بأخرى سامية وإلهيّة.

بعد أكثر مِن سنة على هذا النحو، عرضَت عليَّ والدتي تزويجي مِن فتاة تعرفُها تتحلّى بالصفات اللازمة لإسعادي. فكرة الزواج لَم تلمُس يومًا ذهني، لكن عندما وقعَت عَينايَ على تلك الصبيّة وقعتُ في غرامها على الفور. تمَّت الخطوبة ثمّ عقد القران وبدأتُ حياتي الزوجيّة بهناء وحمِلَت زوجتي بسرعة.

لكن في أحَد الأيّام، رأيتُ عن بُعد أحَد أفراد العصابة. ماذا كان يفعلُ في بلَدي؟؟؟ هل جاءَ مِن أجلي؟ ما الذي كان يُعَدّ لي؟ إتّصلتُ حينها بصديقي وسألتُه عن الأمر فأجابَني: "لن يتركوكَ بسلام، إختبئ". لكن أين أختبئ منهم وهل كان علي الالتفات ورائي أينما ذهبتُ حتى آخِر أيّامي؟ عندها كلّمتُ "المُعلِّم" الذي أكّدَ لي أنّه سينتقمُ منّي ليس بقتلي بل بقتل زوجتي وجنيني. ماذا؟!؟ يا إلهي، ساعدني! أعطِني القوّة والحنكة لمُحاربة هؤلاء الناس!

فكّرتُ مليًّا ووجدتُ أنّ الحلّ الوحيد للحفاظ على عائلتي هو إيقاف "المُعلِّم" عند حدّه، لِذا سافرتُ سرًّا إلى الولايات المُتّحدة ورحتُ أُقدِّم بلاغًا بالعصابة، عارضًا عليهم الإدلاء بشهادتي مقابل تأكيد منهم أنّهم سيقبضون ولوقت طويل على كلّ أفراد العصابة.

لن أدخُل بالتفاصيل الدقيقة، إلا أنّ فكرتي نجحَت خاصّة أنّ صديقي أدلى هو الآخَر بشهادته بعد أن رأى كيف أنّ الإيمان والتقوى غيّرا حياتي جذريًّا. كنتُ قد أخذتُ مِن دون أن أدري الشعلة مِن المُرشِد الدينيّ وردَدتُ إنسانًا إلى إيمانه.

ويوم عدتُ بصورة نهائيّة إلى بلَدي، كان ابني قد وُلِدَ فابتسَمتُ له عالمًا أّنّه سيكون بأمان بعد أن صارَت العصابة بأكملها وراء القضبان. ولأتأكّد مِن أنّ لا أحَد سيأتي مِن قِبَلهم للانتقام منّي، أخذتُ زوجتي وولَدي إلى بلَد آخَر لَم أُفصِح عنه لأحَد.

اليوم إبني صارَ مُهندسًا وإبنتي مُحاميّة، وحياتي هنيئة مع زوجتي الحبيبة. لا أخفي عنكم أنّني عشتُ بِقلَق دائم، لكنّ الصلاة كانت تُعطيني الراحة والطمأنينة. أطلَعتُ ولَدَيّ على حياتي السابقة حين صارا كبيرَين، ليفهما جيّدًا كيف بإمكان الانسان أن يرتدّ إلى الله في أيّ وقتٍ كان، فهو يستقبلُنا برحمته حين نُقرّرُ التوبة.

ماتَ "المُعلِّم" في السجن وباقي العصابة صارَت كبيرة في السنّ وتعِبة لمُتابعة أعمالها. هل استطاعَ المُرشِد الدينيّ الوصول إلى قلب أحدهم؟ أتمنّى ذلك.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button