يوم جاء إبني ربيع وعرّفَني على حبيبته سناء سررتُ أنّه وجَدَ أخيراً مَن يملئ قلبه وأنّه سينضم معها إلينا في بيتنا الكبير كما فعَلَ أخوه الأكبر جودَت قبل سنة. وذلك كان ومنذ الأوّل شرطي الوحيد خاصة بعدما فارقَ أبوهما الحياة وترَكَني لوحدي. ولأنّ منزلنا كان يتّسع لعدّة عائلات وجدتُها فرصة لأبقي ولدَيّ إلى جانبي ويمتلئ المكان بالأولاد. ولم أواجه يوماً أي مشكلة مع إيمان زوجة جودَت التي كانت لطيفة ومحبّة وإعتبرَتني أمّها الثانية. وأنا أيضاً كنتُ إعاملها وكأنها إبنتي وولِدَ بيننا تفاهم حَسَدَني عليه كل مَن لديه كنّة. فكانت إيمان تساعدني بالأعمال المنزليّة والطهو ولا ترفض لي طلباً مهما كان.
وعندما أقمنا حفل زفاف ربيع شعرتُ أنّ حياتي إكتملَت وأسِفتُ أنّ زوجي لم يكن موجوداً ليفرح بكلا ولَدَيه ويراهما حوله مع عائلتهما. ولكن مجيء سناء كان سيغيّر مجرى حياتنا كلّنا إلى حد اللاعودة فلم أتصوّر أبداً أن يكون أحداً في هذا القدر مِن الحقد المجّانيّ ولم أرَ الأذى الذي كان يتحضرّ وراء ظهري.
في أوّل فترة تركتُ العروس الجديدة ترتاح قليلاً خاصة أنّها على عكس إيمان كانت موظّفة في شركة إستثمارات وتعمل دواماً كاملاً ولكنّني إنتظرتُ منها أن تقوم بما هو بديهيّ كترتيب سريرها على الأقل أو غسل الصحون التي تأكل بها. ولكنّها لم تفعل وخفتُ أن تستاء كنّتي الثانية لِذا أخذتُ أنظّف وراء سناء.
حاولتُ عدّة مرّات تمرير رسائل غير مباشرة لها أثناء أحاديثنا في المساء ولكنّها تجاهلَتها كلّها حتى أن أخذتُها في ذاك يوم جانباً وقلتُ لها:
ـ سناء... أحبّكِ كإبنتي... وأنا مسرورة بوجودكِ معنا...
ـ شكراً.
ـ ولكن... عليكِ الإشتراك أكثر في هذا البيت.
ـ ماذا تعنين؟
ـ أعني أن تقومي على الأقل بترتيب أمتعتكِ... أعلم أنّكِ مشغولة طوال النهار في عملكِ ولكن المسكينة إيمان تساعدني بما فيه الكفاية.
ـ أنا لا أجبر أحداً على ترتيب ما هو لي... إن كان ذلك يزعجكما فلا تفعَلناه... الأمر بهذه البساطة... لم أتزوّج مِن ربيع لأخدم أحداً... بالكاد قبلتُ أن أسكن مع قبيلته!
ـ قبيلة؟ بل نحن عائلة!
ـ التسمية ليست مهمّة... أفعل ما أشاء وإن كان ذلك لا يعجبكِ فيمكننا الرحيل والعيش في مكان آخر.
وعندما قالت ذلك شعرتُ بالخوف مِن أن أخسر أحد أبنائي ففضّلتُ السكوت. وتابعنا حياتنا كالسابق ولكن سناء بدأت تتحدّاني وتحدث فوضى كبيرة حيث تمرّ. وقضيتُ وقتي أنظّف خلفها وكانت إيمان تعرض عليّ دائماً أن تساعدني بأمتعة سناء ولكنّني كنتُ أرفض خوفاً مِن أن أزيد مِن أعبائها.
وبعد فترة لا تزيد عن ستّة أشهر لا حظتُ تغيّراً في كنّتي المفضّلة. في البدء كانت أشياء بسيطة ولكن غريبة كموعد نهوضها مِن السرير. فهي التي لم تنَم يوماً بعد الساعة الثامنة صباحاً بدأتُ تستفيق قرابة العاشرة ما أثارَ قلقي لأنّني خلتُها مريضة. وعندها سألتُها عن السبب أجابَت:"أنا بخير... ولكنّني أجد أنّ النهوض باكراً لا لزوم له وأنّني أستحقّ أن أنام قليلاً قبل بدء العمل." ولم أرَ أي خطب في ان تنام كنّتي حتى العاشرة إن كان ذلك يرضيها. ولكن عملها خلال النهار تغيّرَ أيضاً فأصبحَت تتباطأ كثيراً ووجدتُ نفسي أفعل ضعف الذي كنتُ أقوم به الأمر الذي زاد مِن أوجاع الروماتيزم التي كنتُ أعاني منه.
وللحقيقة ظننتُ أنّ إيمان حامل وفرحتُ جداً لقدوم أوّل ولد إلى العائلة وإنتظرتُ منها أو مِن جودَت أن يعلنا الخبر لنبدأ بالتحضيرات. ولكن لم يحصل ذلك لأنّها وبكل بساطة لم تكن حاملاً. وولِدَت بين سناء وإيمان صداقة لم تكن موجودة الأمر الذي طمأنَني لأنّني كنتُ فعلاً أتمنّى أن يسود السلام بيننا خاصة بعدما أدركتُ أن زوجة ربيع تتعالى علينا. وبدأَت الإمرأتين بالخروج سويّاً للتسوّق وإحتساء القهوى في أماكن عديدة فور عودة سناء مِن العمل ولم تكن تعدنَ إلاّ قبَيل رجوع أزواجهنّ مِن أعمالهما.
ومع نهوض إيمان المتأخرّ وبطئها في العمل وخروجها مع سناء تعِبتُ كثيراً في منزل يعيش فيه خمس أشخاص. وقرّرتُ التكلّم مع إيمان بالموضوع وكان جوابها:
ـ لا أرى سبباً لأن أعمل في هذا البيت بينما كنّتكِ الأخرى لا تفعل شيئاً.
ـ ولكنّها تعمل أيضاً فهي تذهب إلى وظيفتها طوال النهار.
ـ أيعني ذلك أنّني خادمتها أو خادمة باقي أفراد العائلة؟
ـ لا... بل ربّة منزل... هذا أيضاً عمل ولكن مِن نوع آخر... لم أعُد شابّة ولديّ حالة صحيّة تمنعني مِن القيام بكل شيء... أنا بحاجة إلى مساعدة.
ـ إجلبي خادمة أم أنّكِ تفضّلين أن أرحل مع زوجي مِن هنا لِترتاحي؟
ـ لا! لا أريد أن يرحل أحد... سأجد حلاً.
ومِن الحديث الذي دار بيننا علِمتُ أنّ سناء تلقّن إيمان بالأفكار والأجوبة المخصّصة لي. ولم أشأ إخبار ولدَيّ بالذي يجري خوفاً مِن أن يحدث ذلك خلافاً مع زوجاتهما فسكتُّ وتحمّلتُ كل شيء بِصمت. ولم تكتفِ الإمرأتَين بإلقاء الأعباء عليّ بل أصبحتا تتكلّمنَ معي بإزدراء وقلّة أدَب أو لا توجّهنَ الكلام لي بتاتاً وكأنّني غير موجودة.
وإزدادَت أوجاعي وأصبتُ بحالة كآبة إستلزمَت ذهابي عند الطبيب الذي وصفَ لي الراحة التامة والهدوء. وخِلتُ طبعاً أنّ كنتَيّ أو ولدَيّ سيهتموّا بي بعد هذا التشخيص وأنّ كل شيء سيرجع كما كان ولكن ما حصَلَ كان مخالفاً لتوقّعاتي. وكانت سناء أولى مَن إقترحَ أن أذهب إلى دار للعجزة "لأرتاح" لأنّ الجميع كان مشغولاً كفاية. حتى إيمان التي لم تكن تعمل خارج المنزل"لم تكن مُجبرة على حمل أعباء المنزل وأمور العجوز" كما سمعتُها تقول. وجاء ولَدَيّ وعرضا عليّ أن يضعاني لفترة قصيرة في مؤسّسة مختصّة لأنّ ذلك سيكون مفيد لي وأنّني سأعود ريثما تتحسّن حالتي. عندها علِمتُ أنّني إستُبعدتُ مِن منزلي إلى الأبد. فمَن سيرجعُني بعدما يذوق طعم العيش مِن دون إمرأة كبيرة في السنّ؟ ولأنّني كنتُ أحبّ ولدَيّ أكثر مِن نفسي قبِلتُ عرضهما وجمعتُ بعض الأمتعة وإنتقلتُ إلى العيش بين أناس منبوذين مثلي أو ليس لديهم مَن يهتمّ بهم.
ورغم الحزن العميق الذي ملأَ قلبي لم أحقد على أحد حتى على كنّتَيّ وطلبتُ مِن الله أن يعيشوا كلّهم بسلام ومحبّة وأن ينجبوا البنين والبنات وأن أرى ولو مرّة أحفادي. ولكن بعد رحيلي مِن المنزل بقليل توتّرَ الجو بسبب رغبة سناء بِلعب دور "سيّدة البيت" على حساب إيمان وباقي الموجودين محاوِلة فرض مشيئتها وطريقتها عليهم. عندها رأت إيمان حقيقة سناء وفهِمَت أنّها لم تكن سوى أداة لها للتخلّص منّي والهيمنة على المنزل وإفترضَت أنّ دورها سيأتي يوماً ولن يطول الوقت حتى تُرمى خارجاً هي الأخرى. لِذا اخبرَت زوجها كل ما كانت سناء تقوله عنّي وكيف حرّضَتها على العصيان عليّ وإلقاء الأعباء كلّها على كتفيّ حتى "تسأم العجوز وترحل" كما كانت تقول لها دائماً.
وجاءَت إيمان مع جودَت لرؤيتي في المؤسّسة وطلبَت منّي السماح على ما فعلَته بي وطلبا منّي العودة. ولكنّني كنتُ أعلم أنّ طالما كانت سناء موجودة معنا لن يذوق أحدنا طعم الراحة إلا إذا إستوعبَت فعليّاً أنّني سيّدة المنزل. وعدتُ معهما وتفاجأَت سناء برؤيتي لِدرجة أنّها لم تستطع إخفاء إستيءها فقالَت لي أمام الجميع:
- ماذا تفعلين هنا؟؟؟
- عُدتُ إلى بيتي... ولن أرحل منه بعد اليوم إلا إلى مثوايَ الأخير... وإن كان لأحد إعتراض على ذلك فلِيرحَل هو!
- أرى أنّ مكوثكِ في دار العجزة أفادكِ وزاد من قوّتكِ!
- إذا سكتُّ على أمور كثيرة فهذا لا يعني أنّني كنتُ ضعيفة بل أنّني أمّاً تريد أن يعيش أبناءها بِسلام.
عند سماع ذلك سألَني ربيع عن الذي أقصده فإكتفيتُ بالقول: "إسأل زوجتكَ".
وفي تلك الليلة سمِعنا إبني وزوجته يتشاجران وفي الصباح الباكر أخذَت سناء أمتعتها ورحلَت. ومنذ ذلك اليوم عادَ الهدوء إلى البيت. وحتى ربيع وبالرغم مِن حزنه على رحيل زوجته أصبحَ مرتاحاً أكثر مِن الأوّل. فصحيح أنّه أحبّها ولكنّه لم يكن سعيداً معها وأعلم تمام العلم أنّه سيجد المرأة المناسبة التي ستعيد له البسمة والطمأنينة.
حاورتها بولا جهشان