كان مِن المفروض أن أعرف ما الذي ينتظرُني مع فؤاد، أو أن آخذ قرار الابتعاد عنه قبل ربط حياتي بحياته، إلأ أنّني اعتقدتُ، شأن الكثير مِن الناس، أنّ الغيرة دلالة عن الحب. الحقيقة أنّه أخبرَني بنفسه أنّ خطيبته السابقة تركَته لكثرة غيرته، لكنّني لم أفهم آنذاك كيف لفتاة أن تنزعج مِن تعلّق أحد بها، فنعتُّها بالغبيّة شاكرة ربّي أنّها أفسحَت لي المجال لأحلّ مكانها. فقد كان فؤاد رجلاً مثاليًّا لدَيه كلّ ما تطلبُه أي فتاة: كان وسيمًا وحنونًا ومتعلمًّا وثريًّا. صحيح أنّه يولي أهميّة كبيرة لتفاصيل قد يعتبرُها الآخرون غير مهمّة، إلا أنّه يعرف كيف يُعطي بالمقابل.
لم أكن أتضايق مِن أسئلة فؤاد الدائمة عن مكان وجودي أو عمّا فعلتُ في نهاري، لأنّني طالما كنتُ إنسانة هادئة وخلوقة لا أبارح المنزل إلا برفقة فرد مِن عائلتي. أمّا بالنسبة لصديقاتي، فكنّ قليلات جدًّا وتعشنَ حياة مماثلة لحياتي. وحده نبيل، أخي الصغير، كان يُنبّهني مِن خطيبي:
ـ هذا الرجل مريض نفسيّ!
ـ لا بل يُحبّني كثيرًا ويخاف عليّ. وماذا تعرف عن الناس أو عن علم النفس؟ كيف تحكم على فؤاد هكذا؟
ـ أقول لكِ إنّ الرجل غير موزون، وأستغربُ كيف أنّكِ تتحملّين اتهاماته الدائمة.
ـ هي ليست إتهامات بل تساؤلات. كفّ عن إزعاجي!
يوم تزوّجتُ مِن فؤاد كان الكل سعيدًا مِن أجلي، ما عدا نبيل الذي كان ينظر إلى عريسي بغضب واضح، حتى أنّني اقترَبتُ منه وطلبتُ منه عدم إفساد أجمل يوم في حياتي.
قضَينا شهر العسل في أوروبا، وعُدنا إلى البلد وكنتُ سعيدة. والغريب في الأمر أنّ فؤاد توقّفَ عن التعبير عن غيرته الإعتياديّة، إلا أنّنا لم نعد نبارح المنزل. قال لي إنّه لا يحبّ الخروج مِن البيت كثيرًا، بل يفضّل أن يأتي الناس إلينا، خاصّة أهلي وصديقاتي، الأمر الذي لم يُزعجني، بل كنتُ فخورة ببيتي الجميل المبنيّ على تلّة خضراء مطلّة على المدينة. وعندما كان يأتي الزوّار، كان يجلس فؤاد وسطنا صامتًا. ولم أنتبه إلى أنّه كان يُراقب كل كلمة وحركة تدور مِن حولنا. وإن أردتُ الاختلاء بصديقة أو حتى أمّي، كان زوجي يقول لي: "إبقِ هنا، فليس لدينا أسرار."
على مرّ الأسابيع، بدأتُ أنزعج مِن عدم خروجنا إلى أيّ مكان، على خلاف ما كنّا نفعلُه عندما كنّا مخطوبَين. وعندما فاتحتُه بالأمر قال:
ـ لقد بنيتُ هذا البيت الجميل في أفضل موقع، وجلبتُ أمهَر المهندسين وفرشتُه بأفخر الأثاث... ماذا تريدن أكثر مِن ذلك؟
ـ أحبّ بيتنا كثيرًا، ولكنّنا لا نستطيع المكوث فيه على مدار الساعة والأيّام والأسابيع!
ـ ولِما لا؟
ـ أنتَ تخرج للذهاب إلى شركتكَ، أمّا أنا فأبقى لوحدي هنا.
ـ حسنًا حبيبتي، طالما الوحدة تزعجكِ، سأجد حلاً.
والحلّ بنظره كان أنّه نقَلَ عمله إلى البيت، ولم يعد يذهب إلى الشركة إلا عند الضرورة إذ كان بإمكانه ترتيب كلّ شيء بواسطة الهاتف والإنترنت. لكنّ وجود فؤاد معي طوال الوقت وعدَم مغادرتنا بتاتًا البيت، خلقا عندي توتّرًا ملحوظًا وصرتُ ضيّقة المزاج، الأمر الذي لَم يغِب عن انتباه فؤاد الذي قال لي:
ـ سيتغيّر مزاجكِ حالما تنجبين، فالأولاد أفضل تسلية.
ـ وإن لم أنجب؟ هل سأقضي حياتي بين هذه الجدران؟
ـ ألف امرأة تتمنّى العَيش بين جدران بهذا الجمال يا حبيبتي، لا تكوني ناكرة للجميل.
ـ أنا لم أطلب منكَ شيئًا، وأنت لم تبنِ منزلكَ مِن أجلي بل مِن أجل خطيبتكَ السابقة.
ـ تلك الخائنة!
ـ لم أكن أعلم أنّها خانتكَ بل أنّها تضايقَت مِن غيرتكَ. هل تأكّدتَ مِن الذي تقوله؟
ـ كل النساء خائنات!
نظرتُ إلى زوجي باستغراب، واستعدَّيتُ للإجابة حين قام مِن مكانه وراح إلى غرفة النوم حيث مكَثَ حتى المساء. وحين اجتمَعنا حول مائدة العشاء، كان بأفضل حال ولم أشأ مناقشته بالذي قاله خوفًا مِن أن أعكّر الأجواء.
بعد أيّام قليلة، جاء عمّال ووضعوا في غضون أيّام قليلة تصوينة حول البيت وبوّابة على الكهرباء. سألتُ زوجي عن سبب تلك الأعمال، فقال لي إنّ المنطقة تعرّضَت لسرقات عديدة وهو يفعل ذلك بداعي الحذر. خفتُ طبعًا مِن هكذا خبر، وشكرتُ ربّي لأنّ بامكان زوجي صرف مبلغ بهذا القدر لتأمين سلامتنا. وبعد أن غادَرَ العمّال، جاء رجل وسكَنَ في بيت صغير كانوا قد بنوه، عمله حراسة البوّابة الرئيسيّة. وعلمتُ أنّ الحارس الجديد تلقّى أوامر بعدم إدخال أحد ما لم يُوافق عليه فؤاد.
لكنّ تلك الإحتياطات لم تتوقّف فقط عند الغرباء، بل تعدّتهم إلى أفراد عائلتي وصديقاتي باستثناء عاملة التنظيف والطاهية اللتَين كانتا تأتيان لبضع ساعات فقط. وبات مِن الصعب جدًّا عليّ رؤية أيّ مِن الذين أعرفُهم بسبب أعذار زوجي المتكرّرة، الأمر الذي خلَقَ بيننا مشاكل كبيرة. فلَم أكن لأقبل أن أُحرَم مِن عائلتي بعد أن مُنِعتُ مِن الخروج مِن الذي أسمَيتُه: "سجني الذهبيّ". لكنّ فؤاد لم يتكبّد عناء الإستماع إلى احتجاجاتي بل بقيَ يتصرّف كما يحلو له، أي كسيّد مطلق للبيت. بقيتُ على اتصال مع محبّيني عبر الهاتف فقط.
أُصِبتُ بكآبة شديدة بعد أن استوعَبتُ الخطأ الفادح الذي ارتكَبتُه بالزواج مِن فؤاد، وعدَم الإستماع إلى نبيل أخي والإنتباه إلى الدّلائل التي كانت تشير بوضوح إلى خلل نفسيّ عند الذي أحبَبتُه.
لم ينزعج فؤاد مِن رؤيتي كئيبة، بل فرِحَ لأنّني لم أعد أطالب بشيء بل رضختُ للأمر الواقع، أي أنّني أصبحتُ ملكه وحده، سجينة لا يسعُها خيانته مع أيّ كان.
وما اكتشفتُه صدفة كان النقطة الحاسمة لباقي الأحداث. فذات يوم، ولكثرة ضجري، أخذتُ أعيد تزين البيت على أمل أن أحدث ولو تغييرًا بسيطًا في حياتي البائسة. وأثناء ترتيبي للأثاث وتحَف الزينة، عثرتُ في غرفة النوم على آلة صغيرة الحجم موضوعة قبالة السرير. وبعد أن تفحّصتُها، إكتشفتُ أنّها كاميرا مصغّرة. وقفتُ لدقائق لأستوعب مدى مرض فؤاد، فلَم يكن مِن المعقول أن يُصوّر الزوج زوجته وهي نائمة أو أثناء ممارستها الحبّ معه. مِن ثمّ شعرتُ بغضب عارم، وأخذتُ أفتّش باقي البيت بحثًا عن كاميرات أخرى. وكَم كانت دهشتي كبيرة عندما عثرتُ على آلات مراقبة في كل غرفة وزاوية مِن المنزل. وفي تلك اللحظة بالذات أخذتُ قراري: الرحيل وبأسرع وقت.
وكي أفرّ مِن سجني، لم أكن أملك سوى مساعدة أخي الذي كان يكره ما يحدث لي ويحثّني على ترك زوجي. لكن كيف لي أن أجتاز الحارس والبوّابة، هذا إذا قرَّرَ فؤاد يومًا الخروج وإفساح المجال لي للهروب.
إنتظرتُ بفارغ الصبر موعد ذهاب زوجي إلى شركته كما كان يفعل مِن وقت لآخر. فهو لم يكن يُحدّد موعدًا لذلك، مِن خوفه أن أجلب عشيقًا إلى البيت. كان عليّ التصرّف بسرعة، فبعد دقائق مِن رحيل فؤاد، إتصلتُ بنبيل وأعطَيتُه الضوء الأخضر لتنفيذ خطّته التي أبقاها سريّة عنّي.
كان الإنتظار صعبًا جدًّا، لأنّني كنتُ خائفة على أخي مِن الحارس ومِن زوجي الذي كان بإمكانه الرجوع في أيّ وقت. أخذتُ أصلّي كي لا يحصل أيّ مكروه. وبعد ساعتَين، سمعتُ صوت أخي يُناديني مِن داخل المنزل. ركضتُ أرى أين هو، فوجدتُه واقفًا مع بعض الشبّان في الردهة وبأيديهم عصِي. صَرَخَ لي نبيل:
ـ بسرعة! هيّا قبل أن يستفيق الحارس!
ـ هو نائم؟
ـ لا! بل ضربناه على رأسه. لا تخافي، لم يمت بل سيُؤلمه رأسه لمدّة أيّام فقط.
ركضنا خارج المنزل كالمجانين. لم آخذ معي شيئًا، فلم أكن أريد شيئًا مِن فؤاد أو بيته أو زواجه بأسره. عُدنا إلى بيت أهلي حيث اتصلتُ بمحام للبدء بمعاملات الطلاق.
لكثرة غضب فؤاد مِن فراري منه، بدأ يشيع أنّني على علاقة حميمة مع أخي، الأمر الذي لم يُقلقني خاصّة أنّ محاميه لم ينصحه باستعمال ذلك الخبر في المحكمة لعدم وجود دلائل. أمّا الحارس، فلَم يستطع التعرّف على مهاجميه ولَم يُلاحَق نبيل أو أيًّا مِن رفاقه.
حصلتُ على الطلاق بعد أن أثبتُّ أنّني كنتُ أعيش كالسجينة، بفضل شهادة عاملة التنظيف والطاهية وأهلي. أمّا بالنسبة لأجهزة المراقبة، فكان فؤاد قد أسرَعَ بنزعها. وحاوَلَ ذلك الإنسان المريض تهديدي ببث أشرطة مصوّرة لي وله في السرير، إلا أنّني أفهمتُه أنّه سيُدين نفسه بذلك.
لا أزال أعاني حتى الآن مِن السنة التي قضَيتُها مع فؤاد، لكنّني اليوم محاطة بأهلي وصديقاتي وأعرف أنّني سأكون بخير قريبًا.
حاورتها بولا جهشان