حين رأيت والديّ وهما يشربان الخمر، شعرتُ أنّ شيئًا لَم يكن على ما يُرام. فبالرغم مِن سنّي الصغير، كنتُ أعلمُ أنّ شرب الكحول أمرٌ محّرمٌ، إلى جانب ضرره على الصحّة الجسديّة والعقليّة. أمّا هما فلَم ينتبها إلى وجودي لكثرة انشغالهما مع ضيوفهما، والأجواء الفرحة التي سادَت في تلك الأمسية. بعد ذلك، تطوّرَت الجلسة بشكل ملحوظ وحدَثَت أمورٌ لَم أفهمها آنذاك. عدتُ إلى النوم وسكَنَت أحلامي مشاهد بعيدة كلّ البعد عن التعاليم والتوصيات التي تلقَّيتُها مِن والدَيَّ.
في صباح اليوم التالي سألتُ أمّي عن الذي رأيتُه، وهي أكّدَت لي أنّني كنتُ أحلُم، فهما لَم يستقبلا ضيوفًا، وبالطبع لَم يلمسا الخمر ولَم يحدث ما حدَثَ لاحقًا بينهما وبين أحد. ولأنّني كنتُ في السادسة مِن عمري صدّقتُها ونسيتُ الموضوع.
سُمعة أبي وأمّي كانت مُمتازة، وكان الجميع يضرب بهما مثلاً لِحسن الأخلاق والحبّ الذي يجمع بين الرجل وزوجته، وكنتُ فخورة بهما إلى أقصى درجة فأنا ابنة عامر وسمَر! وفي تلك البلدة الصغيرة، كان رفاقي يكنّون لي إحترامًا خاصًّا أعطاني تأثيرًا كبيرًا عليهم.
وحدها مدرِّستي كانت تنزعجُ مِن هذه الهالة التي تُحيطُ بي والتي، حسب قولها، لَم تكن مُفيدة لي. لِذا أخذَت تقسو عليّ ولا تُعاملني كالمدرّسات اللواتي سبَقنَها، الأمر الذي أحدَثَ في قلبي استنكارًا كبيرًا وحزنًا عميقًا. الكلّ كان يُحبُّني، فلِمَا ليس هي أيضًا؟ أخبَرتُ والدتي بالأمر وهي وعدَتني بأن تكلّم المُدرِّسة. إلا أنّ الأمور بقيَت على حالها وصارَت علاماتي تتراجع. وبعد أشهر قليلة، قرَّرَ والدايَ أنّ مِن الأفضل أن أُغيّر مدرستي. وانتظرتُ بفارغ الصبر إنتهاء الفرصة الصيفيّة كي لا أعودُ أرى التي قسَّت قلبها عليّ.
لَم أكن أعلم آنذاك أنّ تلك الأشهر الثلاثة كانت ستُغيّر حياتي إلى الأبد.
فالبلدة بأسرها كانت تعلم ما يحدث في بيتنا ليلاً... إلا أنا!
لماذا لَم يتفوّه أحد بكلمة؟ لأنّهم كانوا كلّهم متواطئين أو خائفين. فعلاقات والدَيَّ كانت قويّة، ليس لأنّ لهم نفوذًا مُعيّنًا، بل لأنّ أولياء البلدة كانوا يُشاركونهما سهراتهما. وسادَ جوّ مِن الكتمان العام لم تخرقه سوى إنسانة واحدة: المدرِّسة. لماذا استطاعَت هي وحدها ذلك في حين تمنّى الكثيرون أن تتوقّف سهرات والدَيَّ؟ لأنّها كانت مِن خارج البلدة، ولَم تنتقل للعَيش فيها إلا في أوّل السنة الدراسيّة لتستلم عملها الجديد. وهي علِمَت بالذي يحصل مِن تلاميذها الذين ردّدوا لها ما سمعوه سرًّا، مِن إستراقهم السمَع لمحادثات أهلهم. فباتَت لدَيها نقمة تجاهي كوني إبنة الثنائيّ الفاسق، لكنّها خافَت أيضًا على مستقبلي فقرّرَت التدخّل. وحين علِمَت أنّني سأنتقلُ إلى مؤسّسة أخرى في أوّل السنة الدراسيّة الجديدة، أسرعَت بالتصرّف.
قبل مُتابعة روايتي لباقي الأحداث، دعوني أشرحُ لكم ما كان يجري في بيتنا مرّة كلّ أسبوع. علِمتُ بكلّ ذلك لاحقًا، فكما أشَرتُ سابقًا، لَم أرَ ما يحدثُ إلا مرّة واحدة، واقتنَعتُ بأنّه حلم لأنّني كنتُ أبقى نائمة طوال الليل بعد أن تُعطيني والدتي شرابًا ضدّ السّعال! نعم، هكذا هما والدايَ، شخصان بلا ضمير لا يتردّدان عن إغراق ابنتهما في النوم للقيام بما هو فظيع. ففي كلّ نهاية أسبوع، كانا يُقيمان حفل عشاء لأصدقائهما. وكنتُ أرى أحيانًا والدتي وهي تُحضّر وجبة العشاء وأُساعدُها إن طلبَت منّي ذلك. مِن ثمّ أخلدُ إلى النوم بعد أن يقول أبي لي أنّ هكذا سهرات هي للكبار فقط. وهو لَم يكن يكذب! وبعد أن يتأكد أهلي أنّني غرقتُ في النوم، كان المعازيم يصلون الواحد تلو الآخر. وكانوا يجلسون حول المائدة يتحدّثون في أمور عديدة كالسياسة والإقتصاد وكلّ جديد لدَيهم، ثمّ ينتقلون إلى الصالون لشرب الكحول وأحيانًا تعاطي المُخدّرات الخفيفة. لَم ينسَ والدايَ إسدال الستائر ليحجبا الأنظار عن الذي كان يحصلُ لاحقًا. فقرابة الساعة الحادية عشرة، كان الجميع يخلعون ثيابهم ويختلطون مع بعضهم لمُمارسة الفحشاء. أجل، كان بيتنا "الطاهر" يصير مقرًّا أشبه ببيت للدعارة إلا أنّ لا أحد كان يدفعُ مالاً مقابل ذلك، بل خدمات، خاصّة لوالدَيّ اللذَين كانا موظّفَين بسيطَين لكنّهما كانا يعيشان حياة مُريحة جدًّا ولدَيهما كلّ ما يتمنّاه الجميع. وبالطبع كانت القاعدة الأولى هي حفظ سرّ قد يقودُ الجميع إلى السجن، ناهيك الفضيحة التي ستحدثُ إن انتشَرَ الخبر خارج البلدة. كيف بقيَ السرّ محفوظًا طوال كلّ ذلك الوقت؟ لأنّ الذي لَم يكن متورّطًا مُباشرةً، كان يخاف أن يجلب لنفسه غضب الآخرين... إلا المدرِّسة التي لَم تكن خائفة مِن أحد.
ففي أحد الأيّام، دقَّت تلك المُدرِّسة بابنا وأنا ركضت أختبئ حين علِمتُ أنّها هي لأنّني لَم أعد أحبُّها بتاتًا. خفتُ أيضًا أن تكون قد جاءَت بسببي، وغضبتُ منها لأنّها لحِقَت بي إلى بيتي بعدما فعَلَت جهدها لأترك المدرسة. إلا أنّها كانت تُريدُ إقناع أمّي بالكفّ عمّا كانت تفعله وأبي وأصدقاؤهما:
ـ سيّدة سمَر، سأدخلُ مُباشرةً في صلب الموضوع... لقد وصلَتني أخبار عن الذي يحصلُ في هذا البيت نهاية كلّ أسبوع.
ـ وما الضرَر في استقبال الأصدقاء؟ أو بالأحرى، ما دخلكِ أنتِ؟
ـ دخلي أنّني مُدرِّسة وتلاميذي على علم بكلّ تفاصيل "حفلاتكما"، الأمر الذي يُؤثّرُ مُباشرةً على صحّتهم النفسيّة ويتنافى مع التعاليم الدينيّة والأخلاقيّة.
ـ لا أعلم ما الذي وصلَكِ مِن هؤلاء الصغار، لكنّ هذه القصص هي حتمًا مِن نسج خيالهم. أنتِ تعرفين كيف هم الأولاد!
ـ أقول لكِ إنّني على علم، بل أنا على يقين، بما يجري هنا، فلا تضيعي وقتي.
ـ ماذا تُريدين؟
ـ أريدُ أن تكفّي وزوجكِ عمّا تفعلانه، وأن تُعيدي ابنتكِ إلى المدرسة نفسها لأحاوِلَ إصلاح الضرَر الذي أحدثتماه في عقلها وقلبها.
ـ إبنتي ليست على علم بشيء، فأنا أُعطيها شرابًا للسعال كي تنام خلال سهراتنا. على كلّ الأحوال، ما يجري في بيتنا ليس مِن شأن أحد، وخاصّة أنتِ. أم تراكِ تريدين الإنضمام إلينا؟ قد يَفرح ضيوفنا بِوجه جديد.
ـ ماذا؟!؟ تعرُضين عليّ أن أكون جزءاً مِن حفلات الفسق والمجون التي لا تُرضي لا ربّنا ولا أيّ قانون مدنيّ وأخلاقيّ؟ أنا امرأة شريفة!
ـ هاهاها! وأنا إمرأة شريفة أيضًا! إسألي مَن شئتِ وسيقولون لكِ إنّ هذا البيت هو الأشرف في البلدة! إسمعيني... مِن الأفضل لكِ أن ترحلي قبل أن يأتي زوجي ويغضب منكِ. هو لن يؤذيكِ، فلدَينا أصدقاء يُمكنهم إنهاء مهنتكِ بلحظة.
ـ أرى أنّكِ تهدّديني! حسنًا! كنتُ أتمنّى أن تجري الأمور بطريقة أكثر سلاسة. سأرحلُ الآن لكنّني سأعود!
ـ وسنكون بانتظاركِ.
عندما عادَ أبي إلى البيت، إختبأتُ مُجدّدًا لسماع ما ستقوله أمّي له، ولأتأكّد مِن الذي سمعتُه سابقًا مِن المُدرِّسة. فكنتُ قد بدأتُ أفهم ولو قليلاً أنّ والدَيَّ ليسا أُناسًا مُحترمين. غضِبَ والدي جدًّا مِن زيارة المُدرِّسة لنا، وبدأ يشتمُ ويُهدّدُ ويتوعّد. هدّأَت أمّي مِن حماسه وقالَت له:
ـ هناك طرق أخرى، دَع الأمر لي.
ـ لا أريدُ أن تُدمّر تلك التافهة كلّ ما بنَيناه! مَن تهمُّة الأخلاق في أيّامنا هذه؟ وما شأنها؟ ومِن أين ظهَرَت لنا؟
ـ إهدأ يا حبيبي، إهدأ. هل تُريدُ أن نُقيم حفلاً صغيرًا الليلة كي تُريح أعصابكَ؟
ـ يا ليتكِ تفعلين ذلك!
في تلك الليلة، بصقتُ شراب السّعال التي أعطَتني أيّاه أمّي، لأبقى صاحية وأرى ما كانت تتكلّم عنه المُدرِّسة. وفي تلك الليلة، رأيتُ أشياءً لا توصَف دمّرَت براءة طفولتي إلى الأبد، وأدخلَتني عالم الكبار رغمًا عنّي.
يتبع...
حاورتها بولا جهشان