بماذا أقحَمتُ نفسي؟ (لجزء الأول)

كيف قبِلتُ مُساعدة وائل، لستُ أدري، فلطالما إعتمَدتُ على نفسي بكلّ شيء. إلا أنّ حبّي لخطيبتي ورغبتي بتحقيق أمنياتها، هما اللذان دفَعاني إلى التنازل عن عزّة نفسي. فالحقيقة أنّ خطيبتي رنا هي مِن عائلة مُتوسّطة الدخل، لكنّ أختها تزوّجَت مِن المدعو وائل الذي عمِلَ في الخارج وجمَعَ ثروة كبيرة وباتَ فخر العائلة بأسرها. وحصَلَ مرارًا أنّهم تكلّموا عنه أمامي بعبارات مادحة، الأمر الذي ولَّدَ في نفسي شعورًا بالنقص. فكيف لي أن أُقدِّمَ الرفاهيّة لِرنا، في حين أنّني موظّف عاديّ جدًّا في شركة صغيرة؟

لذلك، قبل زفافنا بقليل، طلَبت منّي خطيبتي رنا التحدّث معي بموضوع هام. وافَيتُها إلى بيت أهلها، فوجدتُ الجميع مُجتمعًا: الأب والأم والأخت والصّهر. إنشغَلَ بالي، فهم كانوا صامتين وجدّيّين للغاية، فاعتقدتُ أنّ خطبتنا إنتهَت لسبب أجهلُه. إلا أنّ أخت رنا بدأت بالكلام:

 

ـ أنتَ تعلَم كَم نُحبُّكَ وفكرة اقترانكَ بأختي تُفرحُنا كثيرًا لكن...

 

ـ ما الأمر؟!؟

 

ـ لا تخَف، ليس هناك مِن خطَب، لكن نودّ أن يكون فرَح رنا أكثر فخامة.

 

ـ ليس ذلك بمقدوري وأنتم تعرفون وضعي منذ البدء.

 

ـ صحيح ذلك، لِذا أريدُ وزوجي وائل عرض مُساعدتنا.

 

ـ شكرًا لكنّني لن أقبَل، هذا فرَحي وأنا المسؤول عن تسديد كلّ التكاليف.

 

ـ لا تكُن عنيدًا، فنحن عائلة واحدة. أيُرضيكَ أن يكون حفل زفافي أفضل مِن حفل أختي الوحيدة؟ هل فكَّرتَ بشعورها؟

 

ـ هي تعرفُ إمكاناتي وقد قبِلَت بها منذ البداية.

 

عندها تكلّمَت رنا التي بقيَت صامتة:

 

ـ أنتَ لا تُحبُّني!

 

ـ بلى وكثيرًا!

 

ـ إذًا لماذا ترفض ما يُسعدُني؟ ما الخطَب في أن تقبَل مُساعدة أقرَب الناس إليّ؟ منذ صغَري وأنا أحلمُ بزفاف كبير وأنيق وفستان فخم ومطربين ومدعوّين كُثر. لو لم يكن صهري مُقتدِرًا لمَا ذكرتُ الموضوع، لكنّه ثريّ ويُريد وأختي المُساهمة في إنجاح أهمّ يوم في حياتي.

 

ـ كرامتي لا تسمحُ لي بالقبول يا رنا.

 

تدخّلَ وائل وقال لي بِحَزم:

 

ـ الزوج الصالح يفعلُ جهده لإسعاد حبيبة قلبه. دعكَ مِن الحديث عن الكرامة وعزّة النفس، فهذه شعارات لا منفعة منها. هيّا، إقبَل ودعنا نُحضّر للزفاف كما يجب!

 

كانت تلك المُساهمة ستُكلّفُني الكثير، كما تراءى لي لاحقًا. فبعد الزفاف بأيّام، إتّصَلَ بي وائل ليدعوني للخروج معه برفقة أصدقاء له. لَم أشأ تَرك عروسي وحدها ليلاً، إلا أنّها لَم ترَ مانعًا مِن ذلك. فوافَيتُ عديلي إلى مطعم في قلب العاصمة يقَع في شارع مليء بالمطاعم والحانات والسوّاح. وجدتُه جالسًا إلى مائدة برفقة رجُلَين أجنبيَّين لَم يُعجِبني شكلهما، لكنّني طبعًا لَم أقُل شيئًا بل استمعتُ لحديثهم جميعًا بالإنكليزيّة أثناء تناول وجبة العشاء. ثمّ قال لي وائل:

 

ـ أُريدُ منكَ خدمة... هل لكَ أن تستضيف صديقَيَّ لبضعة أيّام؟

 

ـ في بيتي؟ لا أدري... فهناك رنا ولا يجوز...

 

ـ هي موافقة.

 

ـ تعلَم رنا بالأمر؟ متى إتّفقتُما؟

 

ـ هذا لا يهمّ.... صديقايَ الجالسان هنا سيدفعان لكَ ثمَن استضافتكَ لهما، لا تقلَق.

 

ـ يدفعان لي؟ وهل منزلي فندق؟ إسمَع، إن كانت زوجتي موافقة فلا مانع لدَيّ، هذا في حال لم يطل مكوثهما عندنا. ولا أُريدُ سماع كلام عن دفع أيّ مال لي!

 

إبتسَمَ الرجلان وفهمتُ منهما أنّهما جاهزان للعودة معي إلى البيت على الفور! كنتُ أودُّ الرفض، لكن كيف أفعل بعد مُساهمة عديلي في زفافي؟ فطلَبه كان صغيرًا مُقارنةً بالمبالِغ الذي دفعَها في العرس. أخذتُ الصديقَين وقصدنا مسكني حيث كانت رنا قد حضّرَت لهما غرفة الضيوف. ولاحقًا في المساء نفسه، وبّختُ زوجتي على التخطيط مع وائل مِن دون معرفتي، وهي أجابَت: "هذا أيضًا بيتي".

 

لَم نرَ الرجُلَين كثيرًا، بل كانا يقضيان النهار كلّه خارجًا ولا يعودان سوى للنوم، فشكرتُ ربّي على ذلك لأنّني بالفعل لَم أحبّهما. لَم يكن هناك مِن سبب مُعيّن، فقط شعور دفين لَم أستطِع تحديده.

وبعد أيّام قليلة، غادَرَ ضيفانا واسترحتُ أخيرًا. لكن في غضون شهر، عادَ الرجلان ليناما عندنا ليلة واحدة. خلتُ نفسي حقًّا صاحب فندق أو نَزل، لكنّني لَم أقُل شيئًا خجلاً مِن عديلي. وهكذا صرتُ أستضيفُ الصديقَين مرّة في الشهر وباتَ ذلك أمرًا عاديًّا بالنسبة للجميع.

لكن في أحد الأيّام، سمعنا طرقًا قويًّا على الباب، وعندما فتحتُ الباب، وجدتُ رجُل شرطة يسأل عن الغريبَين. أكّدتُ له أنّ مَن يبحث عنهما رحلا. وعدتُه طبعًا بالاتصال بالقسم إن عادا. لَم أنَم في تلك الليلة، مع أنّني لَم أعرِف سبب ملاحقة الشرطة للرجُلَين الغامضَين، ولكنّني فهمتُ طبعًا أنّ أعمالهما لا بدّ أن تكون غير قانونيّة. بماذا أقحَمتَني يا وائل؟!؟

ركضتُ في الصباح الباكر أستفسِر عند عديلي وهو طمأنَني قائلاً:

 

- إنّ صديقَيَّ غرباء وقد يكونان نسيا تسجيل دخولهما البلد أو شيئًا مِن هذا القبيل، أي تفاصيل إداريّة لا أكثر. لا تخَف، فلستَ مُذنبًا بشيء في نظر العدالة. على كلّ الأحوال، سأتحمَّل شخصيًا كلّ التداعيات.

 

وحين سألتُه عن مكان تواجد صديقَيه، أجابَ:

 

- إنّهما في مكان ما ولا أعتقِد إنّهما على علم بأنّ الشرطة تبحثُ عنهما. إنسَ الموضوع يا صاحبي واستمتِع بزواجكَ، واعمَل على جَلب أطفال إلى هذه الدنيا. هاهاها!

 

لَم يُعجبُني تعليقه الأخير، إلا أنّني لَم أقُل شيئًا بل عدتُ إلى البيت. لامَتني رنا لأنّني أزعجتُ وائل بأسئلتي، بعد أن أخبرتُها أين رحتُ باكرًا وشرَحَت لي أنّ زوج أختها رجُل جدًّا مشغول ولا وقت له لهكذا مسائل، ناهيكَ عن الفرَح الذي أقامَه لنا والذي يستحقّ مِن جانبنا التعاون معه. آه! ذلك الفرَح مُجدّدًا! يا لَيتني...

بعد حوالي الشهر، وصَلَ إلى بيتي طرد صغير بإسمي مصدره افريقيا ورسالة فيها رقم هاتف مع العبارة:

 

- الرجاء عدَم الفتح بل التسليم فورًا.

 

إستغربتُ الأمر كثيرًا فطلبتُ الرقم وتفاجأتُ بصوت وائل يقول:

 

ـ هل وصلَكَ الطرد؟

 

ـ أجل لكن... ما هذا الرقم؟ فليس رقمكَ المُعتاد.

 

ـ صحيح... إنّه مُخصّص للأعمال فقط. أرجو منكَ أن تُبقي الغرَض لدَيكَ حالما آتي وزوجتي لزيارتكَ في غضون أيّام.

 

ـ ما في داخله؟

 

ـ لا شيء يهمّكَ، بعض الأوراق المُتعلّقة بعمَلي. لا تُشغِل بالكَ بذلك.

 

جاء عديلي وزوجته بعد يومَين وقضيا السهرة في بيتنا، وأخَذَ وائل الطرد إلى الحمّام وخرَجَ بعد دقائق. أعطاني العلبة فارغة طالبًا منّي رميَها، إذ تسلّمَ ما في داخلها. نظرتُ إلى جَيبه المُنتفِخ، فاستنتجتُ أنّ ما في الطرد لَم يكن أوراقًا كما هو ادّعى. إنتابَني غضب فعلتُ جهدي لإخفائه، وقرّرتُ أن أقطَع علاقتي بذلك الرجُل الغامض. فكان مِن الواضح أنّ هناك جانبًا لأعماله لا أُريدُ المُشاركة به لا مِن قريب ولا مِن بعيد، فلطالما كانت حياتي هادئة وهنيئة. رنا لَم تُشاطِرني الرأي حين أطلعتُها على قصّة الطرد وشكوكي، بل سخِرت منّي واتّهمَتني بأنّني أغارُ مِن وائل لأنّه إنسان ناجح، على خلافي، الأمر الذي أحزنَني، فكان مِن الواضح أنّ زوجتي تعتبرُني فاشلاً.

ثمّ تساءَلتُ عن نوعيّة أعمال وائل، فحتّى ذلك الحين، كلّ ما كنتُ أعرفُه هو أنّه رجُل أعمال يتعاطى التجارة العامّة مع الخارج، لكن ليس أكثر. أيّ نوع تجارة بالتحديد؟ وبما أنّ رنا كانت على ما يبدو تراه بعَين إيجابيّة وكذلك باقي عائلتها، رحتُ أسأل مِن حولي عن عديلي. وكلّ ما توصّلتُ إليه كانت معلومات مُبهمة كالتي أملكُها. فلَم يكن أحد يعلمُ بما يُتاجِر عديلي ومع مَن.

في الفترة نفسها، إتّصَلَ بي وائل هاتفيًّا:

 

ـ ما بكَ يا صاحبي تسأل عنّي؟

 

ـ أنا... أعني...

 

ـ هاهاها... تفاجأتَ أليس كذلك؟ أجل، أعرفُ كلّ ما يدورُ حولي. إسمَع، لدَيكَ على ما يبدو مُخيّلة واسعة ولن أغضَب منكَ. لكن لا تُحاوِل أن تُزعزِع ما بنَيتُه خلال سنوات طويلة وإلا سترى جانبًا منّي لا تعرفُه.

 

ـ أهذا تهديد يا وائل؟

 

ـ بل تحذير. أين ذلك الطفل الذي عليكَ إنجابه؟ هيّا إلى العمَل يا عديلي العزيز!

 

ما بال وائل يستفزُّني بشأن رجوليّتي مُجدّدًا؟!؟ يا للرجُل الكريه! وهل يعتقد أنّني سأخافُ منه؟ لستُ فاشلاً أو جبانًا بل العكس، وسيعلم ذلك المُتشاوِف وكذلك زوجتي ما بإمكاني فعله!

في اليوم التالي خابَرتُ قسم الشرطة، وطلبتُ موعدًا مِن التحرّي الذي أرسَلَ الشرطيّ إلى بيتي يوم بحثوا عن صديقَي وائل. وحين جلستُ في مكتب التحرّي، أخبرتُه بكلّ ما أعرفُه عن المسألة ذاكرًا الطرد الغامض الذي وصَلني. شكرَني الرجُل بعد أن دوّنَ أمامه كلّ ما قلتُه له. غادرتُ القسم فخورًا بنفسي. لَم أُطلِع رنا على شيء طبعًا، فهي كانت في "صفّ العدوّ"، وشعرتُ أنّ زواجي منها كان خطأ جسيمًا، وأنّ عدَم إنجابنا حتى ذلك الوقت كان يصبُّ في مصلحتي، إذ أنّني قد أُقرِّر الطلاق إن أتّضَحَ لي أنّها على علِم وثيق بأعمال صهرها المشبوهة. ذهابي إلى القسم أعطاني شعورًا بالقوّة والثقة، فأنا أواجِه إنسانًا قويًّا وذا معارِف أيضًا قوّية. وإن يكُن! أنا على قدَر الحمل!

لاحظَت رنا التغيير الذي حصَلَ في شخصيّتي على الفور، وأظنّ أنّ الأمر أعجبَها إذ صارَت تُكلّمُني باحترام أكبَر وتسألُني رأيي في مُختلف المسائل. يا للشعور الجميل! لكنّ فرحَتي لَم تدُم طويلاً، فقد تتالَت الأحداث بسرعة رهيبة.

 

يتبع...

المزيد
back to top button