جاءَ أخيرًا اليوم الذي انتظرتُه بِصبر وترقُّب لسنوات: إجتماع "لَمّ شَمل الصفّ" الذي كان سيضمّ كلّ طلّاب آخِر سنة دراسيّة. لماذا هذا الترقُّب؟ لأريهم كلّهم ما آلَت إليه حياتي! فلقد عمِلتُ بكدّ وجهد، كما عهَدوني، لِيَعرفوا أنّ مَن يتعَب يصِل إلى مُبتغاه. فحتى ذاك الوقت كنتُ مَحَطّ سخرية وتنمّر، لأنّني كنتُ أولى صفّي، وكان بودّي أن أرى ما حقّقوه بعد أكثر مِن عشرين سنة على تَركنا المدرسة.
وكان هناك ثلاثة أشخاص بالذات أثاروا إهتمامي: سارة المُتنمِّرة والمُتشاوِفة، التي لَم تفوِّت فرصة لِجَعلي أحسّ بأنّني قبيحة وبلهاء ومُعقَّدة، سمير التلميذ الثقيل الظلّ الذي كان يختارُني في كلّ مرّة للعِب دعابة عليّ وحَمل الصفّ كلّه على الضحِك، وإلهام صديقتي آنذاك التي قطعَت صلتها بي في يوم مِن الأيّام مِن دون إعطائي المزيد مِن التفاصيل. لماذا هي ابتعدَت عنّي هكذا بينما كانت بالفعل أقرَب الناس إليّ، هذا ما كنتُ أنوي معرفته أثناء لَمّ الشمَل. أمّا بالنسبة لباقي زملائي القُدامى، فلَم يؤثِّروا كثيرًا عليّ، لكنّني كنتُ سعيدة أن يرَوا هم أيضًا ما حقّقتُه.
فالحقيقة أنّ بعد المدرسة، قصدتُ الجامِعة لأدرس العلوم وخاصّة الكيمياء لأنّني كنتُ فالِحة بكلّ المواد، حتّى أصعَبها. وبعد كدّ وجهد وسهَر، نلتُ شهادتي بتفوّق، فحصلتُ على منحة لإكمال دراساتي العليا في الولايات المُتّحدة. هناك أبدَعتُ وتفوّقتُ لأعودَ، إلى منصب كبير في أضخَم شركة للأدوية في البلَد، التي صِرتُ مُديرتها بعد سنوت قليلة. راتبي كان يفوقُ كلّ طموحات رفاقي السابقين، كنتُ واثقة مِن ذلك! أمّا بالنسبة لحياتي الشخصيّة، فلقد تزوّجتُ مِن عالِم أيضًا، لكنّنا لَم نُنجِب لِضيق وقتنا، فطموح زوجي كان بِحَجم طموحي! بعد سنوات قليلة، هو فضَّلَ امرأة أخرى عليّ، فطلّقَني. لَم آسَف عليه، بل العكس، ولأنّ وجوده معي كان يُعيقُني وفضّلتُ العزوبيّة على الزواج. وفي وقت حدوث لمّ الشَمل، كنتُ أتحضّر لاستِلام مهام أكبَر في الخارج، وخاصّة في الولايات المُتحِّدة التي أحبَبتُها كثيرًا حين كنتُ أدرسُ فيها. وبهذه المُعطيات كلّها تحضّرتُ للذهاب إلى اجتماع لمّ الشَمل وبسمة على وجهي، تُعبِّرُ عن تذوّقي المُسبَق بانتصاري على هؤلاء الفاشلين!
دخلتُ قاعة الرياضة في المدرسة ولاحظتُ أنّها بقيَت كما كانت، وفي لحظة عدتُ بالزمَن إلى الوراء حيث كان أستاذ الرياضة يحثُّني على المواصلة، وسط ضحك زملائي لأنّني لَم أكن أهوى أبدًا كلّ نشاط جسديّ، بل أُفضِّل النشاطات الفكريّة. رأيتُ عن بُعد مجموعة أشخاص يتحدثّون ما بينهم، وحاولتُ التعرّف إليهم حين سمعتُ صوتًا يُنادي: "رانيا؟!؟ أهذا أنتِ؟!؟ هذه أنا، يُمنى! تعالي!". نظرتُ إلى تلك المرأة لكنّني لَم أتعرّف على ملامحها بل فقط اسمها، وهي كانت مِن تلك التلميذات التي لا يتذكّرها أحَد. تبادَلنا بضع جُمَل، فكنتُ أودّ رؤية الآخَرين، قَبل أن أستأذِن منها وأبتعِد. إلّا أنّها قالَت لي: "أتعرفين شيئًا... كنتُ أودّ أن أكون مثلكِ آنذاك... أجل، كنتِ مثالي لكنّني لَم أجرؤ على الاقتراب منكِ لكثرة جدّيّتكِ". هذه الجملة أثارَت استغرابي، فكيف لأحَد أن يودّ أن يُصبح مثل التلميذة التي يسخَر منها الجميع ولا أصدقاء لها سوى فتاة واحدة اختفَت بعد سنوات قليلة؟ لا بدّ أنّ يُمنى أخطأت بالشخص، فالعديد مِن السنوات مرَّت منذ كنّا في الصفّ نفسه.
إقترَبتُ ببطء مِن المجموعة التي رأيتُها عند دخولي، فكنتُ مُتأكّدة مِن أنّ "أهدافي" كانوا موجودين هناك، وتبيَّنَ لي ذلك حين سمِعتُ ضحكة سمير وتعليقات سارة. لكنّني لَم أشاهِد الهام، صديقتي القديمة، فهل تغيّرَت بشكل جذريّ؟
وقفتُ قرب المجموعة وقلتُ بصوت أردتُه بعيدًا عن القلَق الذي بدأ ينتابُني:
ـ مرحبًا... هذه أنا، رانيا! كيف حالكم جميعًا؟
إستداروا كلّهم نحوي وسكَتوا فجأة، وبعد ثوانٍ طويلة، قالَ أحَدُهم:
ـ إنّها رانيا! إنّها أولى صفّنا!
وفي لحظة واحدة، إلتفّوا حولي وبدأوا يسألوني مئة سؤال، لدرجة أنّني شعرتُ بدوار خفيف اختفى حين سمِعتُ سارة تسألُني:
ـ أخبرينا... كيف كانت الحياة معكِ؟ أنا مُتأكّدة مِن أنّكِ أصبحتِ إنسانة ناجِحة ولدَيكِ مركز مرموق، أليس كذلك؟
إبتسَمتُ بسمة عريضة، فقد جاءَت اللحظة التي كنتُ أحلمُ بها منذ سنوات! أخذتُ نفَسًا عميقًا، وبدأتُ أقصّ على الحاضرين سيرة حياتي بعد المدرسة، وهم استمَعوا إليّ بتركيز عزَّزَ ثقتي بنفسي. وعندما انتهَيتُ، هنّأوني بفرَح لَم أتوقّعه. نظرتُ إلى وجه سارة لأرى إن كانت هناك مِن علامات سخرية أو نيّة في التنمّر، إلّا أنّني وجدتُها حقًّا مسرورة بي ومِن أجلي. ثمّ انتظرتُ أن يقولَ سمير شيئًا مُضحِكًا بشأني لكنّه هزَّ رأسه فخرًا بي.
ثمّ جاءَ دور سارة لتُخبرَني عن حياتها منذ افترَقنا، واتّضَحَ أنّها درسَت القانون وصارَت مُحامية ولدَيها زوج وأولاد. بدَت لي سعيدة ومُتواضِعة، على خلاف ما كانت عليه سابقًا، وعندما سألتُها عن ذلك التغيير أجابَت:
ـ ما سأقولُه ليس سرًّا... كنتُ أُعاني آنذاك مِن مشاكل عائليّة... أبي وأمّي كانا يتشاجران ليلًا نهارًا، وكانت المدرسة مُتنفَّسي الوحيد. إرتحتُ أخيرًا حين انفصَلَ أبوايَ وعشتُ مع أمّي، إلى حين تزوّجتُ مِن إنسان رائع وأنجَبتُ معه أولادنا.
جاءَ دور سمير ليُطلِعَني على مسيرته فقال:
ـ درستُ إدارة الأعمال، وانا اليوم مُدير شركة صغيرة أحسبُها شركتي، وأعمَل مع موظّفيَن أعتبرُهم عائلتي... أنا مُتزوّج ولدَي أربعة أولاد وأنا بالفعل سعيد، فلقد وجدتُ توازني الحقيقيّ بعد أن كبِرتُ ولَدًا وحيدًا. فلقد شعرتُ طوال سنوات بالوحدة القاتِلة، لعدَم وجود أخ أو أخت لي، وكنتم آنذاك جميعًا أخوَتي، وتعامَلتُ معكم دائمًا بحماس يُشبِه حماس الأخ لأخوَته.
فهِمتُ على الفور سبب تصرّف سارة وسمير يومها، فسكتُّ. فهمتُ كلّ ذلك مُتأخِّرًا لأنّني صِرتُ أكبَر وأعرفُ أكثر عن الناس والحياة، ولأنّهما اجتازا أوضاعهما الصعبة وصارَت وراءهما. لَم يكن بمقدوري آنذاك أن أستَوعِب حقيقة الأمر، أوّلًا لأنّني لَم أكن أعلَم شيئًا عن وضعهما العائليّ، وثانيًا لأنّني كنتُ مشغولة بتفادي تنمّرهما عليّ، فركَّزتُ على دراستي لأثبتَ لهما وللباقي أنّني فالِحة تمامًا. إلّا أنّني صمَّمتُ على قول رأيي في ذلك اليوم فقلتُ:
ـ أتذكّر أنّكما لَم تفوِّتا فرصة لتحجيمي والسخرية منّي... وذلك ضايقَني كثيرًا!
نظَرَ سمير وسارة إليّ باندهاش وكأنّهما لَم يفهما قصدي، ثمّ قالَت سارة:
ـ لا أتذكّر أنّني ضايقتُكِ، لكنّني أعتذِر منكِ إن فعلتُ. قد أكون قد تمادَيتُ قليلًا لكن ليس بنيّة سيّئة!
ثمّ قال سمير الشيء نفسه، مُضيفًا:
ـ كنتِ يا رانيا دائمًا بعيدة عنّا وكأنّكِ تتشاوفين علينا، لأنّكِ أولى الصفّ بينما كانت علاماتنا مُتوسّطة أو مُتدنيّة... حاولتُ شخصيًّا التقرّب منكِ لأنّكِ... أقصد لأنّني... حسنًا، سأقولُ ما في قلبي! كنتُ مُعجبًا بكِ يا رانيا! أجل، وحاولتُ أن أُفهِمَكِ ذلك مِن خلال دعاباتي، إلّا أنّ ذلك أبعَدكِ أكثر، فاستسلَمتُ.
إعتراف سمير بمشاعره تجاهي أدهشَني! هل أنّه يتكلّم جدّيًّا أم أنّها دعابة أخرى مِن دعاباته؟ لكنّ جميع الحاضرين أكّدوا كلامه، وأحدَهم قال إنّهم كانوا يسخرون منه لأنّه كان يُحِبّ "الشاطرة" التي لا تبتسِم ولا تضحك ولا تختلِط بأحَد. إحمَرَّ وجهي لأنّني في فترة مِن الفترات كنتُ أيضًا مُعجبة بسمير، لكن عن بُعد طبعًا. يا إلهي... لو تصارَحنا لكنتُ ربّما اليوم زوجته وأمّ أولاده الأربعة! لا... لا تجري الحياة هكذا!
ثمّ حانَ الوقت لنفترِق بعد أن تبادَلنا الأخبار المُتعدِّدة عن أنفسنا. شعرتُ بارتياح كبير لا أستطيع وصفه، وكأنّني صِرتُ إنسانة أخرى في غضون ساعة. لكنّني لَم أرَ الهام، الصديقة الوحيدة آنذاك... إلّا عند خروجي مِن الصالة. هي كانت واقِفة وعَينَاها تُراقِبان الباب وكأنّها تنتظرُ أحَدًا. وعندما رأتني ابتسَمَت وركضَت تُعانقُني. لكنّني عاتَبتُها لأنّها قطعَت اتّصالها بي فجأة ونهائيًّا، الأمر الذي آلمَني جدًّا. وهذا كان ردّها:
ـ حاولتُ كثيرًا أن أبقى صديقتكِ يا رانيا، لكنّكِ كنتِ دائمًا مشغولة ومُنهمِكة بدراستكِ... لَم يعُد لدَيكِ وقت لي على الاطلاق وكأنّ جامعتكِ هي كلّ حياتكِ.
ـ كان لا بدّ لي أن أنجَح بل أن أتفوّق لأثبتَ لهم مَن أنا، أنا الصبيّة التي كانوا يسخرون منها ويتنمّرون عليها!
ـ وهل نجحتِ في ذلك؟
ـ أجل!
ـ أيّ أنّ حياتكِ سعيدة الآن، أليس كذلك؟ هل لدَيكِ زوج وأولاد؟ هل تستمتعين بوقتكِ وبعلاقاتكِ مع الناس؟ بالطبع لا، فأنا أُتابِع أخباركِ عن بُعد، لأنّني مُهتمّة بكِ بالرغم مِن كلّ شيء، وأعرفُ كيف هي حياتكِ. قولي لي... رأيتُكِ قَبل قليل تضحكين مع رفاقنا القدامى، هم نفسهم الذين دفعوكِ لأخذ قراراتكِ بشأن حياتكِ، هل تصالَحتِ معهم أخيرًا؟
ـ أجل... واستوعبتُ أنّ الأمور لَم تكن أبدًا كما تصوّرتُها في ذلك الوقت. لو علِمتُ...
ـ لأخذَت حياتكِ منحىً أخَر، أليس كذلك؟
ـ أجل، لأخذتُ الأمور بوتيرة أبطأ وأسلَم... فقد ترَكَني زوجي لأنّني لَم أُعطِه الاهتمام اللازم، ولأنّني لَم أجِد الوقت لبناء عائلة... كنتُ مشغولة بإثبات نفسي للناس ولي. ماذا عنكِ؟
ـ درستُ المُحاسبة وأعملُ في شركة مُتوسّطة الحجم. ماتَ زوجي في حادث سَير ولَم نُنجِب أيّ أنّني وحيدة الآن، ولكن أنا سعيدة بحياتي والحمد لله.
ـ إسمعي... خطرَت ببالي فكرة الآن! عليّ بعد فترة السفَر إلى الولايات المُتحّدة... تعالي معي! سأجِدُ لكِ عمَلًا حيث سأكون، أعدُكِ بذلك. أرجوكِ أن تقبَلي، فأنتِ الانسانة الوحيدة التي رافقَتني خلال سنواتي الصعبة، وعلينا أن نعوّض عن الزمَن الذي ضاعَ أو بالأحرى أضعتُه بسبب مخاوفي وإصراري على إثبات نفسي. اليوم أنا شفيتُ مِن الأشباح التي سكنَت سنواتي الماضية، وحان الوقت لبداية جديدة. فلتكن بدايتنا نحن الاثنتَين. ما رأيكِ؟
حاورتها بولا جهشان