نكَرتُ أختي الوحيدة إلى الأبَد يوم هي تراجعَت عن وعدها لي، وعد عَنى لي الدنيا بأسرها. لكن دعوني أروي لكم ما جرى بيننا، وأرجو منكم أن تتفهّموا وضعي.
فالواقع أنّ أسمى أختي هي امرأة خصبة لِدرجة لا توصَف... على عكسي تمامًا. فشاءَ الله أن يُعطيها ولَدًا كلّ سنة تقريبًا بينما أبقاني عاقرًا. حاوَلتُ شتّى الطرق، مِن التقليديّة إلى غير التقليديّة، فرأيتُ أخصّائيّين لا يحصى عددهم، وخضعتُ لفحوصات وعمليّات تلقيح، ومِن ثمّ قصدتُ هؤلاء الذين يذهب إليهم الناس حين يُصيبُهم اليأس. وصارَت أسمى حامِل للمرّة السادسة، فتشاوَرتُ مع زوجي قبلَ أن أقولَ لها:
ـ أختي الحبيبة... لدَيّ طلَب... غير تقليديّ... يا إلهي، لا أعلَم كيف أبدأ... حسنًا، أسمى، لقد أعطاكِ الله ذرّيّة كبيرة، وأعلَمُ كَيف تُعانين مع زوجكِ مِن المصاريف الثقيلة بسبب كبر عائلتكِ... وها أنتِ حامِل مِن جديد... فلِما لا تُعطيني مولودكِ الجديد ليُعطي حياتي معنًى وهدَفًا. لا تُجيبي الآن، أرجوكِ، بل فكّري جيّدًا أوّلًا. لكنّني أعدُكِ بأنّني سأعتَني به جيّدًا ولن أحرمَكِ منه، بل سيكون تحت نظركِ ساعة تشائين. فكّري كيف أنّ سلالة زوجي ستنتهي، وأنّ مولودكِ سيُؤمّن استمراريّة لاسمه، ولا تنسي أنّنا مُرتاحون مادّيًّا أكثر منكِ، ونستطيع تأمين حياة جميلة لهذا الولَد أو البنت، فكّري بالأمر، فكّري.
خفتُ كثيرًا عندما رأيتُ تعابير المُفاجأة على وجه أسمى، وكيف هي بقيَت صامِتة طوال حديثي، فآخِر شيء كنتُ أُريدُه كان أن أخسَرَ أختي الوحيدة، إذ كّنا مُقرّبتَين جدًّا قلبيًّا وعقليًّا وجغرافيًّا لأنّنا كنّا نسكن في الحَي نفسه. هل كان يجدرُ بي عدَم عرض هكذا طلَب عليها؟
لكن بعد حوالي الأسبوع مِن الصّمت القاتِل، قبِلَت أسمى بأن تُعطيني مولودها، فعانقتُها باكيةً، وبدأنا نتكلّم بكلّ التفاصيل بجوّ مِن الفرَح والترقّب.
مرَّت الأسابيع ثمّ علِمنا أنّ المولود ذكَر، فركضتُ إلى الأسواق لأبدأ بتحضير غرفة لـ"ابني" أردتُها أجمَل ما تكون. مِن جانبه، بكى زوجي لدى سماعه الخبَر، وأعطاني بطاقته الائتمانيّة قائلًا: "إصرفي ما تشائين، فهو وحيدُنا". إستشَرتُ مُصمِّمة ديكور وقصدتُ أفخَم المعارض للمفروشات، وبدأت غرفة صغيرنا تتزيَن بالأزرق الجميل.
كبرَ بطن أختي وكنتُ أواكِب حَملَها عن كثَب، فلَم أتأخَّر عن أخذها إلى الطبيبة وتسديد كلّ المصاريف الطبّيّة والصحّيّة... وكلّ ما يطيبُ لها لِتشعُرَ بالراحة. هي حمِلَت بالنيابة عنّي، لكنّني شعرتُ أنّني أحمِلُ بنفسي هذا الصغير المُنتظَر.
جاءَ اليوم الذي كان ابننا سيُبصرُ النور فيه أخيرًا، فواكَبنا أسمى إلى المشفى ودخلتُ معها غرفة الولادة. ويا للولَد الجميل الذي صرَخَ صرخته الأولى! حملتُه قَبل أن يعطوه لأمّه، وشعرتُ بحرارته تملأ جسَدي، وهو شعور لَم أعرِفه مِن قبل: الشعور بالأمومة.
بقيَت أختي بالمشفى ليلتَين، ثمّ عادَت بالمولود إلى بيتها لِتهتمّ به إلى حين يُصبح قادِرًا على الانفصال عنها. كنتُ أعي ضرورة بقائه مع أمّه وكان بإمكاني الانتظار، ألَم أنتظِر سنوات عديدة إلى حين جاءَت تلك اللحظة؟ كان الولَد، والحمد لله، بصحّة ممتازة ويتمتَّع بشهيّة كبيرة وقالَت الطبيبة إنّه سيكبر ليُصبح طويل القامة وقويّ البنية، فضحِكتُ في سرّي لأنّ تلك كانت مواصفات زوجي وكان مِن السهل أن يبدو أنّ الولَد منّا. بقيَ طبعًا أن نتبنّى قانونيًّا إبن أختي لنصير عائلة حقيقيّة.
لكنّني بدأتُ أُلاحِظُ تغيّرًا بطريقة تعامل أختي معي، إذ أنّها صارَت وكأنّها لا تُريدُني أن أذهب إليها كلّ يوم لأرى المولود. بالطبع فهمتُ أنّها بحاجة لتشبَع منه قبَل الانفصال عنه، فتركتُها قليلًا تستمتِع به قَبل أن تعودَ إلى حياتها الاعتياديّة مع أولادها الخمسة. لكنّ شيئًا آخَر تغيَّرَ، وهو نظراتها إليّ، فهي كانت تنظرُ أرضًا كلّما جئتُ على سيرة ما أريدُ فعله للولَد حين يصبَح معي. وذات يوم سألتُها:
ـ أسمى... هل هناك مِن خطَب ما؟
ـ ماذا تعنين؟
ـ أنتِ أختي الوحيدة وأعرفُكِ ظهرًا عن قلب... ما بكِ؟ ما الذي يُزعجُكِ؟ ألستُ أفعَل ما عليّ لأُشعركِ بالراحة حيال اتّفاقنا؟ هل أنتِ بحاجة إلى شيء آخَر؟ تكلّمي.
ـ الأمر بغاية الصعوبة... لا أدري كيف أقولُ لكِ ذلك... سامحيني يا أختي!
ـ ماذا؟!؟ لا! لا تقولي إنّكِ... لا! لا تفعلي بي ذلك أرجوكِ... أعيشُ على أمَل الأمومة منذ سنة ولا يحقّ لكِ أن تخذليني هكذا!
ـ أنا آسِفة لكنّني لا أقدِر على الانفصال عنه.
ـ لدَيكِ خمسة آخرون!
ـ لن تفهمي.
ـ آه، لأنّني عاقِر، أليس كذلك؟ ما أفهمُه هو أنّني أُريدُه! أريدُه! أريدُه!
ـ أنا آسِفة... صدّقيني... فلا تغمُضُ لي عَينٌ ليلًا مِن كثرة خوفي مِن هذه اللحظة.
ـ حسنًا، خذي وقتكِ حبيبتي، أنتِ الآن في مرحلة صعبة... دعينا لا نتكلّم عن الموضوع إلّا بعد حين. سأتركُكِ الآن ترتاحين.
ـ لن أُبدِّلَ رأيي يا أختي، أنا آسِفة.
خرجتُ وأنا أدّعي أنّني لَم أسمَع ما قالَته أخيرًا، لكن في قرارة نفسي علِمتُ أنّها بالفعل لن تغيّرَ رأيها. يا إلهي... كيف سأزِفُّ على زوجي هذا الخبَر الصعب؟!؟ يا ربّي، دَعها تقبَل! أرجوكَ، إن لَم يكن مِن أجلي فمِن أجل زوجي المسكين!
وكَم تفاجأتُ حين طلبَت منّي أسمى أن أذهبَ إليها لنتكلّم، وهي قالَت لي:
ـ لقد تشاوَرتُ مع زوجي بشأن المولود... وهو رأى أنّ عليكم أن تدفعوا لنا مقابِله.
ـ مُقابِله؟!؟ لقد صرَفتُ عليكِ منذ البدء وسدَّدتُ كلّ المُستحقّات! هل تُتاجران بالأولاد الآن؟ الهدَف هو أوّلًا إعطائي وزوجي فرصة بناء عائلة، وثانيًا توفير الراحة لكِ وتخفيف العبء الذي تُمَثِّله تربية ستّة أولاد!
ـ ليست تجارة بكلّ ما للكلمة مِن معنى يا أختي، لكنّ إعطاءكما ولَدنا هو بمثابة تضحية كبيرة يجب أن ننال تعوَّضًا عنها.
ـ لقد ظننتُ أنّكِ لا تُريدين التخلّي عنه لأنّكِ أمّه وصَعُبَ عليكِ الفراق... قولي لي، أو بالأحرى اعترافي لي، منذ متى تدورُ فكرة "التعويض" في بالكِ وزوجكِ.
ـ ما هذا الكلام؟!؟
ـ أجيبي! أنا لا أُصدِّق أنّكِ استشَرتِ زوجكِ الآن، بل أنّكما حضّرتُما هذه اللحظة منذ فترة، وانتظَرتُما أن أرى المولود وأتعلََّق به!
ـ هذا لا يهمّ... أتريدين الدفع أم لا؟
ـ لو عادَ لي الأمر لَرفضتُ في الحال، لكن على ما يبدو مِن الأفضل لهذا الطفل أن يربى بعيدًا عن أبوَين مثلكما! سأُعطيكِ جوابًا بعد أن أتكلّم مع زوجي."
موقف زوجي كان مُماثِلًا إذ أنّه صُعِقَ بالخبَر، ولَم يتصوَّر كيف لأبوَين أن يُتاجِرا بمولودهما هكذا. لكنّه أعطاني حرّيّة القرار ووقعتُ في حيرة مِن أمري.
لكنّ بعد أيّام معدودة، إنتقلَت أختي وعائلتها مِن حيّنا إلى مكان مجهول، وصارَ التواصل بيننا فقط عبر الهاتف ويقتصِر على مُفاوضات ماليّة. للحقيقة، إشمأزَّيتُ منها لِدرجة لا توصَف، خاصّة حين قالَت لي: "لن ترَي ابني إلّا حين تدفَعين، لأنّكِ لن تعرِفي أبدًا أين نحن. القرار هو قراركِ." فكان مِن الواضح أنّها تتلاعَب بمشاعري وحاجَتي إلى طفل، وتتصرّف وكأنّه قطعة أثاث تُساوِم عليها. كيف لأختي الوحيدة أن تفعل ذلك؟ هل أثَّرَ عليها زوجها لهذه الدرجة أم أنّني لَم أكن أعرِفها جيّدًا؟ لو هي طلبَت منّي مُساعدة ماليّة خارج إطار موضوع مولودها، لأسرعَتُ بتلبية طلَبها، لكن ليس بهذا الشكل! لَم أستوعِب كيف أنّها وزوجها قرّرا الانتقال مِن مسكنهما، وربّما تغيير مدارس أولادهما فقط للضغط عليّ وزوجي!
جلَستُ في الغرفة الزرقاء المُعدّة للمولود الذي لَم يحضر، وبكيتُ كلّ دموعي، ووافاني زوجي بعد دقائق وحضَنَني قائلًا:
ـ سندفَع لهما... صحيح أنّ المبلَغ كبير لكنّه يستحِقّ التضحيّة... لا أُريدُ أن أراكِ تبكين يا حبيبتي.
ـ لا... لن أشتري ابني... لن أشتري ابني مِن أختي، فهذا ليس صائبًا. لا يجوزُ الاتجار بالأرواح ولن يوفِّقنا الله... على كلّ الأحوال، هو الذي أرادَنا بلا أولاد، ولدَيه أسبابه التي ربّما لن نفهَمها يومًا. لقد حاوَلنا وفشِلنا وسأنسى الموضوع برمّته، أعدُكَ بذلك يا حبيبي. لدَينا بعضنا وهذا كافٍ، أليس كذلك؟
ـ لطالما كان ذلك كافيًا، صدّقيني.
تابَعنا حياتنا بعد أن مرَرنا بفترة صعبة، وبعد أن حوَّلتُ الغرفة الزرقاء إلى غرفة ملابس لي ولِزوجي. لكنّ أسمى لَم تنسَني، بل العكس. فبعد حوالي الثلاث سنوات، هي أرسلَت لي صديقة لها لتُخبرَني أنّ زوج أختي تركَها وأولادها واختفى، وأنّها بحاجة إلى المال. للحقيقة صُعِقتُ بالخبر، وأسِفتُ على أسمى التي وجدَت نفسها لوحدها مع ستّة أولاد. قرّرتُ مُساعدتها إلّا أنّني تراجَعتُ في آخِر لحظة، وسألتُ الزائرة عن مكان وجود أختي لأُسلِّمَ لها المال شخصيًّا. رفضَت الصديقة الإجابة فقلتُ لها: "قولي لأسمى أنّني سأُعطيها مالًا يَدًا بِيَد". لكنّني لَم أسمَع منها حتّى اليوم. وعندما أخبَرتُ زوجي عن الذي حصَلَ، وكيف أنّني لَم أتلقَّ أيّ خبَر مِن أختي، قالَ لي: "قصّة تَرك زوجها لها هي كذبة، ومُحاولة لِسلبِنا مبلغًا كانوا ينتظرونَه لدى ولادة طفلهما. فلو عرَفتِ مكان سكَنها لاكتشَفتِ أنّها لا تزال مع زوجها. إيّاك أن تُصدّقي أيّ شيء يصدرُ منها، أرجوكِ."
ومنذ ذلك الوقت، أعتبِرُ نفسي ابنة وحيدة، لأنّ أسمى تصرّفَت معي وكأنّها إنسانة غريبة، لا صِلة رَحم بيننا. يا للأسَف!
حاورتها بولا جهشان